المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

يعتبر فيلم " اصدقاء يانا" الذي يصل ذروته في مشهد لمطارحة غرامية فريدة من نوعها، واحدا من افلام السينما الاسرائيلية الاكثر شعبية ورواجا خلال السنوات العشر الماضية. حيث تظهر في الفيلم مهاجرة من روسيا تتطارح الغرام مع رجل اسرائيلي اسود البشرة، في الوقت الذي يدوي فيه صوت صفارات انذار حرب الخليج (1990) فيضطران الى ارتداء الكمامات الواقية من الغاز. اعترت جمهور المشاهدين مشاعر الانفعال والسرور ازاء هذا المقطع الرائع، نظرًا لأن الاسرائيلي العادي يحقق ذاته حتى الذروة فقط في لحظات الحرب العاصفة.

فصورة الشابين (الشاب والفتاة) المنهمكين في فعل انساني مثير للغاية، بينما يختفي وجهاهما خلف القناع الاسود المرعب، يمكن ان تولد تعاطفا عميقا في انحاء العالم.

وفرت تلك الحرب (حرب الخليج) فرصة لاسرائيل للعب دور "الضحية المسكينة"، في ضوء مشاهد قوافل سكان تل ابيب الفارين في كل مساء الى القدس، واصوات الانفجارات والسنة اللهب المتصاعدة في "رمات غان" عقب سقوط صواريخ سكود العراقية، و "الاخوة الرومانسية" بين الشرق و الغرب.

خيبت حرب العراق الاخيرة الآمال. فصفارات الانذار لم تزعق، والصواريخ لم تطلق صوب اسرائيل. زعماء الدولة ووسائل اعلامها اتخذوا استعدادات "وبهرجات" ضخمة تمهيدا لاندلاع الحرب(على العراق). وكان من شأن الدعوة المتسرعة للجمهور بالقدوم الى مراكز توزيع كمامات الغاز ان تخلق الجزع والذعر المرغوب لأي نظام يحتاج الى الكمامات او الاقنعة. لكن صدام حسين خطف الاضواء بطريقته المميزة. فهو ببساطة لم يعتل خشبة المسرح، كما ان صواريخ سكود لم تزرع الدمار في بيوت الاسرائيليين. غير ان السلطات الاسرائيلية لم تيأس، حتى انها ارغمت الاطفال الصغار على حمل الكمامات على ظهورهم اثناء ذهابهم الى روضة الاطفال. وبعد فترة وجيزة اخذ الكبار والاولاد الصغار يتجاهلون الاوامر والتعليمات في هذا الخصوص. الشخص الوحيد الذي واصل حمل الكمامة معه لايام طوال كان وزير الدفاع شاؤول موفاز. فقد سعى موفاز، ومعه وزير الاعلام العراقي (محمد سعيد) الصحاف الى اقناع الاسرائيليين بأن قتالا ضاريا يدور في العراق وان باستطاعة صدام تهديد آلة الحرب الاميركية.

لقد كان للرئيس العراقي (صدام حسين) حضورًا مؤثرا في وعي الاسرائيليين، يهودا وعربا على حد سواء. فقد كان بالنسبة لليهود كنزا دعائيا قيما للغاية، اذ ان وجوده اظهر اسرائيل في نظر العالم بالضوء او المظهر، الذي تنشده: دولة صغيرة تواقة للسلام، وضحية لشرير فظيع يهددها بسلاح دمار شامل. اما العرب، وخاصة المولعون باساطير الصحراء، فقد رأوا به (اي صدام) رمزا لشجاعة فارس صنديد، قهر في غابر الايام الاعداء وشيد امبراطورية عظيمة، واليوم يقف رابط الجأش في مواجهة القوتين الاعظم، اميركا وبريطانيا.

من جهتي، وكحال الكثرين من المنفيين العراقيين في اسرائيل وارجاء العالم، فقد قدرت او حاكمت صدام بناء على معايير تاريخية. لقد ادركنا ان الذي سيدفع كامل ثمن نصر او هزيمة الرئيس صدام حسين هو الشعب العراقي. ادركنا ان الكثيرين خارج العراق سيقفون الى جانبه بالتصريحات الجوفاء، وأن الشعب العراقي لن يضحي بنفسه من اجل صدام. فالعراق هي واحدة من الدول الغنية في العالم، لكن شعبها يعاني من فقر شديد بذنب حكام كصدام. مظاهر المقاومة الوحيدة للجيوش الاميركية والبريطانية تمثلت بالتعبير عن التطلع لأن تكون العراق للعراقيين وليس لحكام من امثال صدام او للاميركيين.

هذه الوطنية العراقية الخالصة، اجد نفسي متضامنا معها من كل قلبي. في صباي، و شبابي، ناضلت جنبا الى جنب مع السنيين والشيعة والمسيحيين من اجل عراق ليبرالي مزدهر. جيل كامل من الشبان والفتيات قتل وعذب ونفي وابيد على ايدي نظام الحكم السابق لنظام صدام حسين، وذلك بتشجيع وتأثير من المستشارين البريطانيين الذين تواجدوا في بغداد، غير راغبين بالتخلي او الابتعاد عن منابع بلاد الرافدين التي تدفقت سيولا وانهارا من الذهب الاسود.

حرب العراق الاخيرة لم تفاجأني، فشرارتها اندلعت، حسب رأيي، في الحادي عشر من ايلول، مع انهيار برج التوائم (مركز التجارة العالمي) في نيويورك واعلان بوش الحرب ضد ما اسماه "محور الشر". لقد بلغت الولايات المتحدة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، مركزا دوليا لم يسبق له مثيل منذ عهد الابراطورية الرومانية. والحرب التي تشنها اليوم تستخدم ايضا ذريعة لاعادة توزيع الموارد ومصادر الثراء في العالم، من جديد. اما كل الهراء والكلام عن البحث عن اسلحة للدمار الشامل واقامة انظمة ديمقراطية، فقد كان مجرد ستار من الدخان للتستر على حملة العقوبات وعلى عملية اعادة تقسيم مناطق النفوذ. افغانستان كانت الهدف الاول، فيما كان نظام صدام الهدف المثالي الثاني.

شاهدت بغداد وهي تقصف يوما تلو آخر، واحسست وانا في بيتي بحيفا، انهم يلحقون الدمار والخراب في المدينة التي ولدت وعشت فيها ايام صباي.

عندما حلت الهزيمة (بنظام صدام) تسمرت انظاري على شاشة التلفزيون وانا اشاهد حشدا من الناس ينقضون على جامعة بغداد الرائعة وعلى المؤسسات العامة بالمدينة.

لم يسد مثل هذا الشعور في بغداد منذ ما يزيد عن الف عام. فمنذ الغزو المغولي لم تقع كارثة ثقافية كهذه في العراق. شاهدت امام ابصاري احتضارا مهينا لقطعة ثمينة من حياتي هناك.

كنت قبل اسبوعين من هذا المشهد قد فقدت احد ركان وجودي. فبعد عمر امتد مائة وبضع سنوات اغمضت امي عينيها الى الابد. ربما كانت قد ولدت قبل فترة قصيرة من مولد ام صدام. وعلى اية حال فكلتاهما ولدتا في العراق. يقولون ان ام صدام ذهبت الى بغداد لتلده عندما جاءها المخاض. ربما كانت الاقدار قد شاءت التقاء المرأتين في المدينة التي كانت في ذلك الوقت مدينة متواضعة ومتفائلة. لقد احبت امي بغداد لأنها كانت مدينة حبها الاول، ولأنها شيدت فيها بيتا جميلا لأولادها الثمانية. وعندما احدق خطر الموت بعشها تخلت عن البيت لتنقذ فلذات اكبادها, ولتغادر العراق الى الابد.

في حرب الخليج السابقة كانت امي قد بلغت عامها الـ 91. عجوز جميلة، لكنها عجوز. ذات ليلة، من ليالي تلك الحرب، بت في منزلها، وقد دوت صفارات الانذار ثلاث مرات في "رمات غان"، المدينة الاسرائيلية التي اقامت فيها. خفت ان اهرع بها الى الملجأ، واقترحت عليها الجلوس في المطبخ المطل على منظر مفتوح لنحتسي اكواب الشاي المعد بالطريقة العراقية، شاي ساخن، احمر غامق وحلو. امسكت كأس الشاي براحتيها وقالت متسائلة بأسف وحزن: "الا يوجد لديه ابناء؟ ليشفق عليهم على الاقل..". قلت لها ان الحكام المستبدين يخشون حتى من ابنائهم، لكنها لم تقتنع. بعد مرور ثلاثين يوما على وفاتها، تحلقنا جميعا، الابناء والاحفاد وابناء الاحفاد، حول قبرها بينما كانت دبابات اميركية ولصوص عراقيون يطفئون مصابيح الانارة في مسقط رأسها و يغتصبون شوارع المدينة.

ما الذي سيحدث بعد الحرب؟ احيانا يمكن التعلم من الماضي. الامبراطورية البريطانية "حررت" العراق من حكم الامبراطورية العثمانية في العام 1918. في ذلك الوقت ايضا تطلع الوطنيون العراقيون الى نظام ديمقراطي متنور يخدم بلادهم. لكن "المحررين" البريطانيون وقتئذٍ فرضوا، كما فعلوا في كل انحاء الشرق الاوسط، ليس فقط الحدود النافعة لهم، بل سعوا الى رسم واملاء ملامح الحكم بمقتضى، وبما يتلاءم مع مصالحهم.

ولدت في بغداد مع ولادة العراق المعاصر. كنت منذ طفولتي على معرفة بوجود ثلاث بؤر للتوتر في العراق: الاكراد المتمردون في الشمال، والشيعة المغبونون المنتفضون في الجنوب، والمشكلة الفلسطينية التي عكرت صفو العلاقات بين الجالية اليهودية والقوميين العراقيين المتشددين.

اقام اليهود بين دجلة والفرات منذ عهد نبوخذ نصر. كنا هناك قبل ان تصبح العراق مركزا للامبراطورية العربية في القرون الوسطى. كنا جزءًا لا يتجزأ من الواقع العراقي على مر الاجيال. وقد دفعنا (اي يهود العراق) كامل ثمن قيام دولة اسرائيل. طردنا من العراق كيهود غير مرغوب بهم، عندما اتينا الى الدولة اليهودية تحولنا رغما عن ارادتنا الى اعداء للدولة التي هاجرنا منها.

وفي اسرائيل لا زلنا نعتبر في نظر جزء غير قليل، مواطنين من الدرجة الثانية. كانت عائلتي تملك فيلا واسعة محاطة بحديقة جميلة في حي "الكرادة" العراقي ببغداد قبل قدومها الى اسرائيل لتوضع في خيمة أحرقتها اشعة الشمس في حقل مقفر بضواحي تل ابيب. ابي الذي انفق في بغداد كل مدخراته في بناء الفيلا وتأثيثها، وصل الى اسرائيل كلاجئ. وفيها اعطوه فأسا وارسلوه لاقتلاع العشب على جنبات الطرق والشوارع. لم يكن في ذلك الوقت يجيد لغة الدولة الجديدة ليعبر بها على الاقل عن خيبة امله. في اسرائيل وبخوه وقالوا له: "ابتسم، ابتهج! الا يكفيك انك فزت بالوصول الى الحلم المنشود".

هذا هو مصير الاحلام والآمال في الشرق الاوسط. انني على قناعة بأنه كان لأبي اليهودي نظراء كثيرين بين اللاجئين الفلسطينيين، والاكراد في العراق والارمن في تركيا. وعلى الاقل فان أبي واسرته لم يبادوا بغاز فتاك كما حصل للاكراد في "حلبجة".

كان ابي مولعا بالادب الجميل، لكنه اصر على قياس الزمن، كعادة العرب، حسب تواريخ الكوارث والحروب. ومن واقع اخلاصي لهذه التقاليد اود الاشارة الى ان والدي توفي في ظروف كريمة قبل سنة واحدة من حرب صدام الاولى عام 1991..

من السابق لأوانه الجزم بشأن مستقبل العراق بعد الاطاحة بتماثيل صدام. فهناك مفهومان غربيان في جوهرهما لم يستوعبا بعد في منطقتنا: الديمقراطية ودولة القانون. ففي ظل وجود فوارق طبقية واسعة من الصعب اقامة ديمقراطية راسخة. والعاري او الفقير المدقع، المقيم في كوخ، سيقف دوما بارادته، وبروح الانسان الذليل، على باب قصر الغني. والدولة ايضا ينظر لها ككيان معاد تخدم النخبة المحلية او المحتل الاجنبي.

هناك ايضا فصل اسرائيلي في القصة الدرامية لحرب العراق. فقد سعت حكومات اسرائيل على الدوام الى لعب دور فاعل في كل حرب شنها الغرب على احدى الدول العربية.

لم تستوعب اسرائيل ابدا حقيقة انها تنتمي الى الشرق الاوسط وان عليها بالتالي الانصراف الى تطوير وبناء علاقة ايجابية مع دول الجوار. وهي لا تعبأ ابدا ولا تقيم اي وزن لرأي العرب حولها. لم تنجح اسرائيل في فهم ان العيش بين ظهراني جيران مقموعين، ضعفاء مهزومين ومهانين، يعني العيش خلف اسوار من الدبابات وفوهات المدافع. لذلك شاركت الى جانب جيوش فرنسا وبريطانيا في حرب 1956 ضد مصر، وكانت حليفا فعالا لفرنسا في حرب الجزائر، وفي حرب الخليج السابقة تعرضت للتوبيخ اثر مطالبتها بالمشاركة الفعالة في الحرب على العراق.

وفي الحرب الاخيرة خلقت وسائل الاعلام الاسرائيلية شعورا كما لو أن اسرائيل هي التي الحقت الهزيمة بصدام حسين. الحكومة ووسائل الاعلام المجندة تجاهلت البند الثاني في الانذار الذي قدمته الولايات المتحدة وبريطانيا واسبانيا، والمتعلق باقامة الدولة الفلسطينية. كانت اسرائيل مهتمة فقط بهزيمة العراق وليس بالثمن الذي يتعين عليها ان تدفعه.

صحيح ان العديد من المسؤولين الاسرائيليين يقرون بأنه لا مناص من قيام دولة فلسطينية، لكنهم في الغالب يقصدون بذلك دويلة تابعة يتوقف وجودها على النوايا الحسنة لاسرائيل.

خلق سقوط نظام صدام حسين فراغا هائلا في البنية الشرق اوسطية، لا يقل تأثيره عن تأثير انهيار الامبراطورية العثمانية قبل 85 عاما. "الشرق الجديد" الذي انشأه البريطانيون والفرنسيون انطوى على بذور الفوضى بصورة عامة. فمنذ ذلك الحين لم تتوقف الحروب والانقلابات العسكرية في المنطقة.

والسؤال: هل نقف اليوم على اعتاب مئة عام اخرى من الويلات والفظائع الجديدة، ام اننا في مستهل عهد اكثر عقلانية واستقرارا ؟

(هآرتس 5 حزيران)

المصطلحات المستخدمة:

شاي, دولة اسرائيل, هآرتس

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات