المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

صباح الثلاثاء، 14 نيسان. خمسة شبان في المحكمة العسكرية في يافا: حجاي مطار، متان كامينر، شيمري تسميرت، آدم مأور ونوعام باهط. التهمة: رفض أمر عسكري. لقد سُجن الشبان الخمسة لفترات قصيرة لرفضهم المتكرر للخدمة في جيش الاحتلال. والآن يقفون أمام محكمة عسكرية أخرى، لديها صلاحية فرض عقوبة السجن عليهم لسنوات. قرار تقديمهم للمحاكمة هو قرار سياسي: لمعاقبتم، لتلقينهم درسًا، ولردع الآخرين.

يجلس الخمسة، مبتسمين، على مقعد الاتهام. لا يوجد مكان في قاعة المحكمة لكل الأقارب والأصدقاء الذين جاءوا لمؤازرتهم. الضابط يطلب من كل الذين جاءوا، ما عدا العائلات، مغادرة القاعة. كلنا عائلة واحدة، يقول أحد الأهالي. هذه محكمة جماهيرية لها معنى سياسي لكل مواطن ولذلك علينا أن نكون هنا، يقول آخرون. بعد إصرار، ننتقل الى غرفة مجاورة. نحن نجلس الآن في غرفة مأطومة (لا يزال النايلون يغطي الجدران) ونتحدث عن حرية الضمير بعد الدرس الأمريكي المكثّف في الدمقراطية – الدرس الموجّه لكل شعوب الشرق الأوسط (الدرس الأول: قصف، في الدرس الثاني سنتعلم تأدية النشيد الوطني، في الثالث نقيم حكومة توقع عقودًا مع شركات النفط، وفي الرابع نتعلم كيف ننسى من الذي دعم الدكتاتوريات).

هذه هي الجلسة الأولى، ولا تزال المحاكمة طويلة. المحامي، د. دوف حينين، يهاجم الأساس القانوني لمحاكمة رافضي الخدمة العسكرية في محاكم عسكرية. فالمحكمة العسكرية مخوّلة بمحاكمة جنود، وهؤلاء ليسوا جنودًا: إنهم مواطنون، بشر، يرفضون التجنّد. وبالفعل: كيف يمكن تجنيد شاب، تحويل انسان، حقيقة، الى جندي؟

لقد توجّه الشبان الى اللجنة العسكرية التي تبحث في الاعفاء من الخدمة العسكرية لأسباب ضميرية. اللجنة رفضت النظر في قضيتهم: رفضكم سياسي وليس ضميريًا.. فاللجنة العسكرية لديها موقف واضح جدًا بشأن استحقاق الرافضين الضميريين لاعترافها. وهي تترك نافذة ضيقة فقط للشاب حتى يمر منها كرافض ضميري معترف به. وهي نافذة ضيقة الى درجة أنه في السنين الثماني الفائتة اعترفت اللجنة بالدوافع الضميرية لسبعة شبان فقط ممن رفضوا التجند. فعن أي ضمير تبحث اللجنة؟ كيف يحصل الشبان على ضمير يلائم مقاييس اللجنة العسكرية؟ ربما كان من الأسهل لو أن الشبان حصلوا على الضمير المطلوب من وحدة العتاد العسكري؟ ضمير يلائم رفح، نابلس، منيع أمام الرصاص، يلائم الخليل وربما يلائم حتى الخدمة العسكرية في جنين.

اللجنة العسكرية تدّعي أن تسويغات الشبان سياسية وليست ضميرية. المحامي يقرأ رسالة رفض أُرسلت الى مكتب التجنيد العسكري، العام الفائت. وجاء فيها: منذ ثلاثين عامًا تسلب اسرائيل حرية الشعب الفلسطيني. الجيش هو آلة تنفيذ هذه السياسة. ولا يمكنني المساهمة في سلب الأراضي، والاستيطان، والقمع، والاذلال. لن أخدم في جيش الاحتلال. المحامي يقرأ رد الجيش: إعفاء من الخدمة العسكرية لأسباب ضميرية. الاحراج يسود المحكمة.. لمن هذه الرسالة؟ ليست لرافضٍ رجل، يقول المحامي، وإنما لمرأة، هداس غولدمان. فالنساء في اسرائيل معفيّات من الخدمة العسكرية لأسباب دينية أو ضميرية. وها هي الرسالة، يقول المحامي، تثبت أن الجيش يعترف أن رفض الخدمة في جيش الاحتلال يمكن اعتباره رفضًا ضميريًا. وهو يسأل: هل يختلف الضمير بين الرجل والمرأة؟ ألا تستحق الدوافع الضميرية لدى الرجال اعترافًا بالضبط مثلما هي لدى النساء؟ الاحراج يسود المحكمة.

أنظر الى الشبان الخمسة: أعرف معظمهم من المظاهرات في اسرائيل ومن نشاطات احتجاجية في المناطق المحتلة. لقد كانوا معنا في مخيم العمل التطوعي في دار الحنون حين قمنا بشق الشارع، في جبل الخليل خلال المعركة الجماهيرية المستمرة ضد الترانسفير، في سلفيت، في دير إستيا، في خربة اليانون. ففي كل نشاط يهودي – عربي لحركة "تعايش"، في المناطق المحتلة، كان يتوجه الينا احد المشاركين، أو يتصل لاحقًا، ويقول: لقد احترت طويلا فيما اذا كنت سأرفض ولآن أعرف أنني ملزم بذلك.

الرفض هو خروج من شبكة الأسلاك الشائكة التي يحاصر شارون الشعب الفلسطيني بها. وهو خروج من فخ الموت الذي يقيمه لسكان اسرائيل، وللشعبين. بالمقابل فاليد الفلسطينية الممدودة - ليس لجنود الاحتلال بل الى ناشطي السلام الذين يناضلون ضد الحرب الاستعمارية – لها أهمية كبرى. انها تقول لأولئك الشبان إن هناك حياة خارج غيتو شارون المسلّح. هناك مستقبل لرفض اقامة الاسوار والحواجز، والسجون والغيتوهات للفلسطينيين.

إن الرفض هو تحرر. ولذلك، فعقوبته السجن.

أهالي الشبان يجلسون هنا. أنظر الى عنات مطار، والدة حجاي، المحاضرة في قسم الفلسفة في جامعة تل أبيب. كم أقدّر تصميمها. أعرف ان اصدقاءها في رام الله ورفح وكفر قاسم يتابعون باهتمام مجريات المحكمة. لقد كانت عنات إحدى مؤسسات "أبواب مشرّعة" – مجموعة ناشطين يساريين تبنوا معتقلين اداريين فلسطينيين في فترة أوسلو، من أجل دفع المعركة من أجل تحريرهم. والآن جاء دور حجاي للتعرف على جهاز القضاء العسكري.

للرفض أوجه عدة. هناك من يرفض الخدمة في المناطق المحتلة، هناك من أعلنوا أنهم يرفضون المشاركة في عمليات القمع بحق الشعب الفلسطيني. وهؤلاء، الرافضون الشباب، يرفضون الخدمة في جيش الاحتلال بالمرة. كل أشكال الرفض مقبولة عليّ، وكلها هامة في النضال المعادي للاستعمار. ولكن هؤلاء الشبان، عن بعد عشرين سنة حين كنت رافضًا، هم الأقرب الى قلبي.

سألني صحفي ألماني: ألا يسعدك أن ترى مئات الرافضين الآن؟ فحين بدأتم في سنوات السبعين كنتم أفرادًا، ربما عشرات. بينما اليوم، بالذات حين يحاول شارون حشد المجتمع الاسرائيلي حوله، يواجه الجيش مئات الرافضين – ضباط، شبان في الثامنة عشر، وجنود في الاحتياط. بماذا أجيبه؟ فالمأساة الحقيقية هي أنه بعد مرور عشرين عامًا لا يزال يتوجب على الشباب دخول السجن بسبب رفضهم المشاركة في آلة الاحتلال. المأساة الحقيقية أن الاحتلال يتواصل. والآن، مع الجدار الفاصل الذي يقيمه شارون بسرعة هائلة بعيدًا عن الأنظار، يتعمق الاحتلال أكثر. وسنظل أسرى التاريخ اذا لم نتحرر من كل هذا.

إن العديد من مواطني دولة اسرائيل اليهود ينسون واجبهم السياسي تجاه الفلسطينيين في اسرائيل. والعديد من الانجازات الدمقراطية في اسرائيل - ولا تزال الطريق طويلة حتى الدمقرطة الحقيقية – تحققت عبر المواطنين الفلسطينيين. ولأن هناك مصلحة للاقلية القومية في دفع المساواة، والتعددية والدمقراطية، فالرفض هو مساهمة إضافية في دمقرطة اسرائيل، وجعلها مجتمعًا مدنيًا، وتطوير ثقافة لا – عسكرية لدى كل أهل البلاد. علينا جميعنا واجب تجاه الرافضين وهم بحاجة الى تضامننا معهم. فنحن بحاجة الى الرافضين – اليهود والعرب الدروز والعرب البدو – ليس أقل من حاجتهم الينا.

(كاتب المقال رافض خدمة عسكرية سابقًا، من مؤسسي حركة "تعايش" العربية اليهودية اليسارية، وهو محاضر في جامة تل أبيب في موضوع التاريخ)

المصطلحات المستخدمة:

غيتو, دولة اسرائيل

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات