المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

للوصول الى قرية قراوة بني حسان تصطدم بالعديد من رموز الاحتلال الاسرائيلي: مستوطنة "أريئيل"، جنود مدججون بأسلحة سوداء شبه مصوّبة الى أي شيء، شارع التفافي الغرض منه استكمال الابرتهايد جهارة لخلق واقع من الفصل التام بين الفلسطينيين والمستوطنين (حمايةً لهؤلاء الأخيرين بالطبع) وهم في سياراتهم أيضًا، وهناك أيضًا ذلك الاصطدام الفعلي بأكوام التراب الضخمة التي سدّ بها الجيش الطرق الرديئة الواصلة بين القرى الفلسطينية وبين محيطها القريب.


كنت هناك، السبت الأخير، ضمن مجموعة المتظاهرين الكبيرة، بالمئات، التي لبّت دعوة حركة "تعايش" للتضامن مع أهالي سلفيت وقراها، ودعمها بشحنة من المواد الأساسية، خشية من حصار مشدّد وقاس قد يكون تخطيطه اكتمل أو يكتمل الآن في الدماغ الإحتلالي المتشعّب الممتد من رئيس حكومة اليمين الاستيطاني وحتى آخر الجنرالات الذين قد يشتدّ ثملهم الاستعلائي الخطير باشتداد وطأة تدمير بغداد بآخر ما توصل إليه أصحاب صناعة الحرب والموت الأمريكية الرائجة. هذه المخاوف يجري التعبير عنها صراحة وبكثير من القلق والرفض معًا. "تعايش" دعت إلى هذا النشاط الاحتجاجي تحت تأكيد ووجوب التصدي للمخاطر الترانسفيرية التي تتحول الى شبه الملموسة، في حين عبّر عدد من أهالي المنطقة الفلسطينيين الذين التقيناهم عن نفس القلق. أحدهم قال: "شارون ليس بحاجة الى حجّة لكنه قد يجد الغطاء والعالم مشغول لطردنا نحو نابلس الآن".

حين وصل النشيطات والنشيطون كانت أمامهم الحواجز الترابية بارتفاع مترين تقريبًا، تمنع الحركة وتحجب الرؤية. ربما ظنّ واضعوها أن هذه السواتر قادرة على منع الحياة من الحركة وجعل القضية غير مرئية، وانتهى الأمر. لكن الأمر لم ينته بالطبع. لم ينته أي شيء. على العكس، فهو يبدأ في كل صباح لا يجد فيه العامل الفلسطيني مكان عمل له، حين يطل عشرات آلاف سكان هذه المنطقة الفلسطينية على المستوطنات التي تحاصرهم ببشاعة، حين يقتحم الجيش البيوت ويعتدي على من هي في عمر والدة هذا الجندي أو ابن ذلك الاحتياطي، وأيضًا حين يظل هناك مناضلات ومناضلون كهذه المجموعة التي جاءت اليوم لتدقّ أسوار الاحتلال ومعها (50) طنًا من الطحين، كموقف سياسي ودعم ومؤازرة. هذه الجدلية بين المعاناة الفلسطينية الممزوجة بالصمود، وبين الاحتجاج (الفاعل) لأصحاب ضمائر ومواقف سياسية تقدمية واضحة في اسرائيل هي الكفيلة بابقاء هذه القضية في أعلى الاهتمامات. هذا هو ما يمنع تحقّق حلم شارون المنفلت القاضي بـ "وانتهى الأمر"!

حسنًا، ما العمل أمام هذه الحواجز؟ يجب حمل أكياس الطحين (ألف كيس) على الأكتاف، اجتياز الحاجز، تحميلها على عربات الجرارات، ثم نقلها وإيداعها في مخازن قرية قراوة بني حسان ليتم توزيعها لاحقًا على قرى المنطقة: مسحة، بديا، سرطا، الزاوية، الرفات ودير البلوط. جمهرة من السواعد تتناقل أكياس الطحين في سلسلة هنا وثانية هناك. شابات وشبان. الشباب والأقلّ شبابًا (بمن فيهم من يقتربون من وقار السبعين). العرب واليهود. ومن كل المناطق. الجميع يملؤهم غبار الطحين الأبيض الناصع الرائع ناعم الخشونة. "لقد شاب شعرك في نصف دقيقة"، يقول لي سائق أحد الجرارات مازحًا ضاحكًا من الطحين الذي ملأني. كلمات وأصوات متشابكة، هتافات للتشجيع، وبعض الصيحات الخائبة حين يفلت كيس ويكاد يقع. الجرارات تذهب وتعود والجميع يمتلئ بالرضى. فالعمل جارٍ والجنود الذين وقفوا بداية في المكان شاهرين أسلحتهم قد انصرفوا الى المعسكر القريب، والسماء الغائمة لم تُمطر بعد فسلمت أكياس الطحين.

كيس الطحين الأخير و.. تصفيق حار وهتافات مختلطة. انتهى العمل، دون تشويش من الجنود ويا للعجب، ودون أن يضطر الواحد للغضب على المطر! تدارس سريع للموقف وقرار واضح: سنتوجه لالتقاء أهالي القرية.

"هل سيمنعنا الجيش؟"، سمعت أحدهم.

"نحن سنمشي حتى نصل"! جاء الجواب من إحدى المنظمات، وبكل هدوء.

بالفعل، مشينا ووصلنا. وبعد قليل بدأ المطر يهطل على المتجمهرين في إحدى ساحات القرية. لكن هذا لم يمنع دفء اللقاء الفلسطيني - الاسرائيلي المختلف، لم يمنع الضيافة، ولم يؤدِّ إلا الى تعميق وضوح الكلمات التي تبادلها ممثلان عن الضيوف والمضيفين، عن المحاصَرين في هذا الطرف من الأكوام الترابية والمحاصَرين بثمن سياسة حكومة اليمين، في الطرف الثاني من الحاجز. الطرفان هنا يصنعان خندقًا واحدًا: الخروج من "الحصارين" يستدعي كسر الحاجز. سوية. لا نملك سبيلا آخر.

اللقاء والحوار والاصرار المشترك لدى هؤلاء الأشخاص من الشعبين لم يقطعه المطر، ولا الحواجز، ولا استعراضات الجنود الفاشلة، ولا جو الخوف والتخويف الذي يحاول مقاولو الاحتلال فرضه مستخدمين كل قدرات المدعوّين "محللين" أو "خبراء أمنيين" والى آخر هذه القائمة السمجة المثيرة للأعصاب.. ولهذا فقد اكتسبت كلمات المتحدث الفلسطيني معنىً عميقا: "شكرًا لكم، ليس على الطحين تحديدًا، بل على هذه المظاهرة المعارضة للاحتلال والحصار.. شكرًا لكم". لقد تحدث باللغة العبرية بطلاقة تعلمها في السجن أو العمل ربما، لكن معنى كلمته صاغ اللغة المشتركة الأكبر، لغة كل المصرّين على التحرّر والحرية للجميع. أو لنفسهم ولغيرهم. أو لنفسهم، وبالتالي، وبالضرورة، فلغيرهم أيضًا. لا فرق!

حين اجتزنا الأكوام الترابية في طريق العودة، ما أثار انتباهي هو أن الأعشاب وبعض الزهور نمت بما يشبه الخجل على ما أراده الإحتلال حاجزًا. ربما ان بذور الحياة لا تملك سوى التفتّح حتى حين تحاول الجيوش تحويل التراب الى أداة احتلالية بيدها. التراب أيضًا يرفض ذلك. إنه معنا. وهذا مُشجّع، رغم كل شيء!

المصطلحات المستخدمة:

مشينا

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات