المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

تتصف خطط الرئيس بوش للحرب بأنها خطرة، لكن السيد بوش ليس مقامرًا. فهو ينفي الصُّدفة نفيًا قاطعًا. يقول: "إن الأحداث لا تحركها الصدفة أو التغيُّر الأعمى"، بل تحركها "يد الرب العادل الأمين". كان بوش واثقًا منذ البداية بأن رئاسته جزء من خطة إلهية، بل انه قال لأحد أصدقائه حين كان حاكماً لولاية تكساس: "أعتقد أن الرب يريدني أن أدخل المنافسة على منصب الرئاسة". وبرز اقتناعُه بأنه إنما ينفذ إرادة الرب بشكل أكثر صراحة منذ الحادي عشر من سبتمبر. فقد قدَّم نفسَه، في خُطَبِهِ عن حالة الاتحاد وخُطبِهِ في المناسبات العامة الأخرى، بصفته قائدًا لحرب كونية ضد الشر.

أما عن شن حرب على العراق فيقول: "إننا لا ندعي معرفة الطرق كلها التي تعمل بها العناية الإلهية، ومع هذا فنحن نثق بها". ويقول إن الرب يباشر شؤون العالم، وهو يدعو الولايات المتحدة لتقود عملاً صليبيًا تحريرياً في الشرق الأوسط، وإن "نداء التاريخ وجِّه للدولة الأحَقّ".ولا توجد هذه الروح المتذرعة بالعناية الإلهية في خطب الرئيس وحده - فكل واحد من الأصوليين المسيحيين والليبراليين كذلك ممن يعتنق سياسة التدخل يعتنق صيغةً رسالية معينة، ومن هذه الصيغ: مماثَلةُ هذه الحرب بشكل زائف بالحرب ضد هتلر؛ ومقارنة الخيرية الأمريكية بالمنكر الأوروبي؛ وجَحْد كون المصالح المادية القذرة وراء المشروع المندفع لتصدير الديموقراطية الأمريكية.

ويؤكد مؤيدو بوش لأولئك القلقين من استعمال اللغة الدينية أن الخطابة التي تتذرع بالعناية الإلهية خصيصة أمريكية خالصة جدًا. وهذا صحيح، لكن يجب أن نفهم أنه يمكن أن تكتَسب العناية الإلهية معاني مختلفة تبعاً للظروف. فيمكن أن يَدعم اعتقادُ المرء بأنه إنما ينفذ إرادةً إلهيةً أهدافًا مشروعةً، ويسانِد مقاومة الظلم، لكنه يمكن أن تشجع على بعض التبسيطات الخطيرة أيضا - خاصة إن كان المؤمن بها يمتلك ما يكاد يكون قوة غير محدودة، مثلما هي حال السيد بوش. كما يمثل انزلاق المرء إلى الاعتقاد بأنه يتحلى بالصلاح خطرًا محدقاً.

وقد قاوم الخطباء العظام القائلون بالعناية الإلهية إغراءَ الاعتقاد بادعاء الصّلاح. ومن هؤلاء الدكتور مارتن لوثر كنج الابن حين كتب وهو نزيل أحد سجون مدينة برمنجهام: "سوف نسترد حريتنا لأن التراث المقدس لدولتنا وإرادة الرب الأبدية منسوجان بإحكام في مطالبنا التي هي صدى لهما"، وكان قصده من ذلك السعي لإيجاد قاسم مشترك مع الجنوبيين البيض، لا التنبؤ باندثار القائلين بالفصل العنصري والمدفوعين بالنزعة الشيطانية.

كذلك كان إبراهام لنكولن حين توسل العناية الإلهية في خطاب تنصيبه لفترة رئاسته الثانية، فقد كان قصدُه دعوةَ الشماليين المنتصرين والجنوبيين المهزومين للتصالح. وكان قصده حين وصف الحرب الأهلية [الأمريكية] بأنها كفَّارة وطنية عن آثام العبودية، "أن يضمِّد جراح الوطن" ويستلهم درساً أخلاقياً من الخسائر المفزعة في الجانبين. ويمكن أن يقدِّم التفكيرُ المتوسل بالعناية الإلهية في أحسن أحواله نقيضًا قوياً لادعاء الصلاح.

ومع ذلك فكثيرًا ما اختَزل الساسة والمنظرون الأخلاقيون الأمريكيون الإيمانَ بالعناية الإلهية لتكون تسويغاً دينياً للقوة العارية. فلم يكن يُنظر إلى يد الرب، في أربعينيات القرن التاسع عشر، حين ظهرت فكرة أن قدَرَ الولايات المتحدة أن تتوسع إلى المحيط الهادي، أمرًا غيبيا (كما هي في الاعتقاد المسيحي التقليدي)، بل كانت "تتحقق" في التوسع الأمريكي. أما عن السكان الأصليين غير المنتجين في السهول الوسطى الواسعة فقد قال الصحفي هوراس جريلي في سنة 1859: "يجب أن يموت هؤلاء الناس - إنه ليس بمقدورنا أن نساعدهم. لقد أَورث الرب هذه الأرض أولئك الذين يفتحونها ويحيونها، ومن العبث مقاومة القدر الحقّ".

وفي نهاية القرن التاسع عشر جعل السيناتور ألبرت بيفيريدج وغيره من ذوي النزعة الاستعمارية التحققَ القدري مشروعًا عالميًا، وأصروا على أن الرب "اختار" الشعب الأمريكي "لهداية العالم إلى طريق الخلاص".

وفي أعقاب الحرب العالمية الأولى بيَّنت أفعال وودرو ولسون أن من الممكن استخدام خطابة الخلاص لأغراض تتجاوز حدود النزعة الوطنية، ومع هذا فهي لا تزال ضحية للتنفُّج. فقد صرح أنه بالانخراط في الحرب وضمان السلام العادل "حققت أمريكا امتيازًا لا نهائياً في تحقيق قَدَرها وإنقاذ العالم".

وأدى فشلُ حلم ولسون بعد الحرب بمعظم الأمريكيين إلى التشكك في أحلام إنقاذ العالم أثناء الحرب العالمية الثانية. لهذا كانت أكثر حروبنا ضرورةً أكثرَها تأبِّيا على التأويلات التي تتوسل العناية الإلهية أيضا. فقد كانت تلك حربًا قذرة، وكان يجب أن يقوم أحد ما بها: وكانت تلك هي النظرةَ السائدة، عند راسمي السياسات وعند الشعب الأمريكي أيضاً. ولم تصطبغ الحرب العالمية الثانية بصبغة الطهارة إلا بعد حين.

ومن المؤكد أن الحرب الباردة أحيت بصورة متشنجة الاستعمالات الوطنية لمفهوم العناية الإلهية، عند بعض المؤمنين بها مثل [وزير الخارجية الأمريكية الأسبق] جون فوستر دالاس، في الأقل - إن لم نذكُر رونالد ريجان، الذي جنَّد مفهومَ "المدينة التي على التل" لمواجهة "إمبراطورية الشر" السوفييتية. لكن الفشل الصليبي في فيتنام قضى، عند معظم الأمريكيين، على سراب الاعتقاد بأن علينا واجباً مقدساً لتصدير الطرق الأمريكية [في الحياة] إلى عالم متمرد - بالقوة إن كان ذلك ضرورياً.

واستمر ذلك إلى الآن. وقد أسهمت الحرب المخطط لها ضد العراق ومن ثم إعادة إعماره في إحياء معنى العناية الإلهية العاطفي المُرضي للنفس مرة أخرى. وربما أمكن الافتراض بأن الهجوم على بلادنا يجعل المشاريع المتلبسة بقيم المدينة الفاضلة غير ضرورية - وهو ما حدث عند كثير من الأمريكيين أثناء الحرب العالمية الثانية. ومع أنه يمكن ألا تحتاج حربٌ على الإرهاب التوسلَ بالعناية الإلهية لتسويغها فإن حرباً يُقصد منها إعادة رسم الوضع في الشرق الأوسط تحتاج إلى خطابة تماثل في فخامتها فخامة أهدافها. لذلك يَخدم المنظورُ المتوسل بالعناية الإلهية هذه الأغراض: فهي تشجع على رواج منظور النَّفق، وتثبِّط الحوار وتختزل الدبلوماسية إلى لي الذراع.

وأسوأ من ذلك كله، فهي تُجمِّل الواقع الفوضوي للحرب ونتائجها. وتُعفي الثقةُ بالعناية الإلهية، مثلُ ثقة المخططين الاستراتيجيين بالقنابل الذكية، المرءَ من ضرورة النظر في الدور الذي تلعبه الصدفة في الصراع المسلح، وهو أقل الأمور الإنسانية خضوعا للتنبؤ. فلأننا محاطون بالإرادة الإلهية والخبرة العلمية الأمريكية فكل شيء تحت سيطرتنا. لذلك يمكن للبيت الأبيض ومؤيديه أن يتوقعوا باطمئنان أن الأمور المزعجة ستنتهي في أسابيع قليلة، بخسائر إنسانية قليلة على الجانبين.

لكن الذين خاضوا معترك الحروب، بدءًا من الجنرال شوارتسكوف وانتهاء بأدناهم، يرفضون هذه الصور الزاهية. ومن المؤكد أن الجنود [الأمريكيين] في منطقة الخليج يرفضونها كذلك. وينبغي ألا يكون هذا مفاجئاً: ذلك أن هناك على الدوام فرقاً بين المخططين للحرب والجنود في الجبهة. فالمخططون مقتنعون بأن بمقدورهم التحكم بنتائج الحرب؛ أما الجنود فيعرفون القسوة العشوائية للقدر بصورة مباشرة - إذ يمكن فيها أن تُقطع أطراف هذا الجندي، ويترك جندي آخر سالماً. إنهم يعرفون قوة الحظ.

وربما لا يوجد مُلحِدون في الخنادق الأمامية، لكن لا يوجد فيها كثير من المؤمنين بالعناية الإلهية أيضاً. وكان الجنود الذين يخوضون المعركة دائمًا ولا يزالون أقلَّ ثقة من السياسيين بالفكرة القائلة بأن الرب يقف في صفِّهم. إنهم يثقون بربٍّ أقدم وهو الحظ. وقد دأب الجنود الأمريكيون منذ الحرب الأهلية [الأمريكية] حتى حرب عاصفة الصحراء على لبس التمائم والحجب التي تجلب الحظ - وهي من أنواع مختلفة جدًا، بدءًا بميداليات القديس كريستوفر والأحجار الملساء وانتهاءً بخصلات من ضفائر معشوقاتهم. ولم لا؟ فجهودهم لجلب الحظ تتصل اتصالاً مباشرًا بتجاربهم الخاصة [في الحرب التي تقوم على الحظ].

لكن قوة تفكير الوعاظ القائلين بالعناية الإلهية، تستمد قوتها من الاعتقادات المتطرفة عند الأصوليين المسيحيين والمسلمين واليهود. أما أكثر المؤوِّلين إنسانيةً لتلك الفكرة فيتعرضون لمزيد من الإقصاء والتجاهل، ويأخذ الأيديولوجيون زمام القيادة، مطمئنين إلى أنهم إنما ينفذون إرادة الرب.

ومن المؤكد أنه يجب على أولئك الذين يشكُّون منا في الصبغة اللاهوتية لخطة الرئيس (دعك من قدرتها) الاستمرارَ في تحديها. لكننا حين نشاهد الرئيس بوش يتأهب للمعركة المتلفِّعة بالصلاح، متجاهلاً احتجاجات "أوروبا القديمة" واحتجاجات كثير من مواطنيه، ربما يمكننا التسامح مع أكثرنا تعقُّلا حين يعدُّ أصابعَ الأرنب من فينة إلى أخرى [كناية عن الأمل بأن تنتهي الأمور بقدرة سحرية على خير].

(نيويورك تايمز - ترجمة: أ. د. حمزة بن قبلان المزيني – نقلاً عن موقع "ايلاف")

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات