المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

أعاد أحد ستوديوهات تعليم التمثيل المسرحي في إسرائيل هذه الأيام إنتاج مسرحية "غيتـو"، تأليف الكاتب المسرحي الإسرائيلي يهوشواع سوبول. وشكّلت هذه الإعادة فرصة جرى التأكيد فيها أن "غيتو" تعتبر منذ أن بدأ عرضها في العام 1984 وحتى الآن "العمل المسرحي الإسرائيلي الأكثر شهرة"، سواء داخل الدولة أو في أرجاء العالم الواسع.

تعالج هذه المسرحية "معركة البقاء"، التي خاضها الإنسان اليهودي استناداً إلى روحه المعنوية وموروثه الثقافيّ، والدور الأخلاقي المنوط بالفنّ والإبداع عامة في خضم عالم يفتقر إلى الأخلاق والقيم ويفتقد احترام حياة الإنسان وكرامته، وذلك من خلال إعادة نسج قصة حقيقية عن فرقة مسرحية يهودية حاولت ممارسة نشاطها الفني في غيتو فيلنوس (عاصمة ليتوانيا) إبان اندلاع الحرب العالمية الثانية وما انطوت عليه من فظائع النازية وأهوالها.

يتكئ سوبول على مرموزات وأنساق ثقافية يهودية، كانت تشف عنها تجربة الغيتو، كي يستحضر جانباً من الماضي اليهودي المرتبط بذاكرة المحرقة النازيـة. وهو يحاول، كما في مسرحيات أخرى له رجع من خلالها إلى الماضي اليهودي في أزمان مغايرة، أن يدفع هذا الجانب نحو موقع مركزي في مساءلات تبدو مستحقة في قراءته وتتعلق بالأوضاع الراهنة لليهود عامة واليهود في إسرائيل خاصة. ومع أن استغراق سوبول كان منصبّاً أكثر من أي شيء آخر في الاستعادة شبه الوقائعية لماضي الغيتو في فيلنوس، إلا إن الحوار ذاته، وحركة انتقال الشخصيات واستنطاقها بين الأزمنة المختلفة، ينبئان، بشكل تلميحي، بأنه مُصرّ على المحافظة على احتمال الرابطة القوية بين الماضي والحاضر. ويشي الإطلاع على أعمال سوبول المسرحية، لا سيما في هذا المحور بالذات، بأنه يُشهر إصراره السالف، ولو إشارياً، من أجل تعزيز فكرة "الاستمرارية التاريخية" في وعي المشاهد، باعتبار الحاضر غير مقطوع عن الماضي. وليس هذا وحسب، إنما أيضاً من أجل استحضار أكثر جوانب هذا الماضي إثارة للجدل والتفكير واستقطار ما يتعين وضعه في صلب مواجهة الذات لذاتها تحت مجهر الحاضر.

سبق لأحد النقاد في إسرائيل أن قال عن سوبول إنه إذا لم يكن من أكثر المسرحيين الإسرائيليين راديكالية، فإنه من أكثرهم خصوبة في الإنتاج. وقد عرضت مسرحياته في أنحاء مختلفة من العالم. ومن أبرز مسرحياته "نفسية يهودي" (1982) و"فلسطينية" (1985) و"أعراض القدس" (1988). أمّا مسرحية "غيتـو" فهي أول عمل في ثلاثية مسرحية كتبها بين الأعوام 1984 و1993، وأثارت في حينه جدلاً واسعاً، كان في مركزه، من جملة أشياء أخرى، جرأة الكاتب غير المسبوقة في الإضاءة الصارخة لأحد المحرمات في الإنتاج الأدبي الإسرائيلي، الذي تعاطى مع موضوع الهولوكوست، وهو التعاون الأرعن لليهود وبعض قادتهم مع النازيين في فترة المحرقة. وتعدّ هذه الجرأة بمثابة مقترب من حقيقة أن بعض القادة اليهود اندمجوا بكيفية ما في النظام النازي إلى درجة التعاون معه، أو بكلمات أخرى تصرفوا كما لو أنهم يتعاونون معه بحجة "الحفاظ على الحياة". غير أن الأهم من ذلك هو أن سوبول يجعل النجاة من المحرقة، على المستوى النفساني، رهن تعاون ما تمّ مع النازيين، وهو ما يعتبر "بذرة إثـم" متأصلة في الممارسة الوجودية لليهود بشكل عام واليهود في إسرائيل بشكل خاص. ويتناول ذلك على خلفية تؤالف بين النزوع الوجوديّ على الصعيد الفلسفي، وبين النزوع الفرديّ على الصعيد السياسيّ.

كما تشمل المسرحية إشارات بليغة إلى "الدولة الإسرائيلية" باعتبارها اتساعاً أو توسيعاً لـ"الغيتـو"، الذي تحكمت فيه أنماط سلوكية ليست مختلفة عن الأنماط التي تتحكم بالدولة، كما لو أنها جاءت امتداداً طبيعياً له، واتسمت بالخصائص الفردية كلها لمن كانوا على رأس تجربة السلطة في الغيتو، فالمشهد الأول يبدأ في بيت تل أبيبي، بينما ينتهي المشهد الأخير في البيت نفسه، وهو بيت يتهدّم مع الذكريات أول الأمر ويحاول استعادة بنائه في آخر الأمر. وفي الغيتو تنوّع بشري كما التنوّع في الدولة، يبدأ فكرياً من المتدينين المتزمتين وينتهي بأقصى اليسار. أمّا اجتماعياً ففيه الأنماط كلها، بدءاً بالقاتل واللصّ والمتعاون مع الاحتلال وانتهاء بالمُتاجر بأي شيء، بدءاً بالمخلص لذاته وانتهاء بالمخلص لقضية يؤمن بها.

تجري أحداث المسرحية في الغيتو، من خلال تقنية الاستعادة من الذاكرة، وبواسطة تقديم مشاهد فنية كانت تقوم بها فرقة جرى تأسيسها من فنانين كانت لهم شهرة خارج الغيتو، ويهدف هذا التأسيس إلى التحايل في سبيل الحفاظ على الحياة في مواجهة المجازر، وهو تحايل ينضوي تحته كل سلوك في الغيتو، بدءاً من رئاسته مروراً بشرطته اليهودية وانتهاء بالمشاريع الصناعية والتجارية التي تُقام هناك. وفي نطاق الحفاظ على الحياة اليهودية تجري أحداث قاسية، يضحي خلالها اليهودي بيهود، ويتعاون اليهودي مع النازي، ويغلّب اليهودي مصلحته على حياة اليهود. يجري ذلك كله في إطار من القناعة شبه التامة، ويتولى صاحب كل موقف الدفاع عنه، مدعياً أنه هو وحده "القومي" المكافح من أجل اليهودية، حتى وإن تلطخت يداه بالدم اليهوديّ. ولا تصادف هناك حدوداً لما يمكن أن يرتكبه اليهوديّ كي يحقق اختياره، ابتداء بحفلات المجون وانتهاء باللجوء إلى "العدو" أو تسليم رفاقه إلى الذبح.

تقوم حكاية المسرحية على محاولة قيادة الغيتو الحفاظ على بقاء أكبر عدد ممكن من سكانه بمنأى عن المجازر، في انتظار التحرير. وتخضع هذه المحاولة لشروط النازي بشأن جدوى الناجين. ومن أجل اختيار الذين ينجون، تدور حوارات قاسية تكون محصلتها أشدّ قسوة، هي التضحية بنسبة كي تنجو نسبة أخرى، وتغدو هذه التضحية أشبه بصراع بقاء على الصعيد الفردي، في بعض الأحيان، أمّا السلاح الوحيد المستخدم في ذلك فإنه يتمثل في التطييف أو الخداع: خداع الموت، خداع النازي، خداع الرفاق، غير أن المحصلة في نهاية المطاف تصل إلى التصفية التامة، إلى درجة أن النصّ يملك احتمالات أن يفسّر على أنه يُحمّل "الشخصية اليهودية" وزر المجازر التي حدثت لها، وبالتالي فإنه يمكن أن يشير إلى "غريزة الموت" الكامنة في طريق المستقبل. وإذا كان الكاتب قد استند إلى أحداث واقعية في المسرحية، إلا إن إضافات خياله وفكره كانت كبيرة بحيث استطاعت أن تطرح أفكاراً لها أبعاد واسعة.

إن الذي يقوم بسرد الحكاية من ألفها إلى يائها هو الراوي، الشخص الوحيد الذي ينجو من المجزرة بعد أن أصيب بعاهة مستديمة، وعندما كان جزءاً من الفرقة المسرحية في الغيتو، فإن عمله تحدّد في تحريك دمية تميّزت بجرأة لامتناهية ونطقت بما حال خوفه دون النطق به، غير أنه حين يسرد الحكاية فهو لا يبدو متردّداً قطّ في إماطة اللثام عن العوامل التي أدّت إلى التصفية الشاملة للفرقة وقيادة الغيتو، وهي في المجمل العام عوامل تحيل إلى النفس اليهودية ذاتها، والتي لم ينعدم أشخاص في الغيتو نفسه أجادوا بدورهم في توصيفها، والمقصود النفس التي تنتج متعاونين مع الغستابو، مستعدين لضرب اليهود بساديـّة، وإقامة "حفلات حمراء" مع الضباط الألمان، ما يوحي بالنهم إلى السلطة وإلى "الكراهية الذاتية اليهودية"، التي تؤجّج هذا النهم. وهذه الصورة انتقلت، في زمان المسرحية، إلى "أرض إسرائيل"، إلى فلسطين، حيث كان ثمة زعامات يهودية، على غرار رئيس الغيتو ورئيس شرطته، لا ترفض تلقي السلطة من أي يد تمنحها إيـاها. وفي داخل هذه الصورة فإن سوبول يخلع على الصهيونية صفات خاصة، لعل أبرزها صفة العدوانية (يقول أحد أبطال المسرحية: "لقد أسسوا- وهو يقصد اليهود في فلسطين- كتائب ليلية، وهم لا يعملون فقط وفقاً لمبدأ العين بالعين، فيردون على الضربة بضربة مماثلة، وإنما بدأوا في عام 1936- 1937 يسبقون أعداءهم ويخرجون إلى مهاجمتهم في داخل قراهم، حتى قبل أن يهاجمهم هؤلاء"). وثمة أيضاً صفة "الاستعلاء القومي"، الذي أوجده اليهود "ما جعل نظام الكينونة بينهم وبين سائر الشعوب يختل".

لكن أبلغ ما تكشف المسرحية عنه هو أن "البطولة" اليهودية المرافقة للمحرقة مثل ظلها العالي، والتي لا تنفكّ الدعاية الإسرائيلية تتحدّث عنها بإطلاقية تامة (يوم إحياء ذكرى الضحايا اليهود للمحرقة النازية يسمى في إسرائيل "يوم المحرقة والبطولة")، لا تعدو كونها أكذوبة. ويجد سوبول في الغيتو قدراً كبيراً من مؤونة مسوّغات تفنيد هذه الأكذوبة، فقد وُجد داخله من يتعاون مع النازيّ، سواء أكان هذا التعاون "مبرراً" بذريعة "تسليم جزء كي يسلم جزء آخر"، أو لم يكن كذلك. فمثلاً رئيس الغيتو مختلف عن صاحب المشروع الاقتصادي، الذي يدرّ الأرباح، ذلك بأن الأول يرغب في توسيع مصنع إصلاح الملابس كي يستوعب مزيداً من العمال، وبذا فإنه يحفظ حياتهم، في حين أن الثاني ينظر إلى الموضوع فقط من زاوية الجدوى الاقتصادية والمنفعة المالية. وعندما يحتدم الخلاف بين الاثنين، يرافق ذلك تهديد بتقديم شكوى إلى الضابط النازي، الذي يسمع ويتدخل لينهي الأمر كله بمجزرة مروّعة. وإذا كان هذا المشهد يقدّم أبرز تعاون يهودي مع النازي، على الصعيد الفردي، فإن هناك في المسرحية مشاهد أكثر تقززاً، يتم في أحدها مثلاً إعلان ما يشبه المناقصة حول عدد اليهود، الذين سيجري قتلهم في غيتو آخر من أجل "ضم" الناجين إلى غيتو فيلنوس!

المصطلحات المستخدمة:

غيتو, الصهيونية

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات