المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
 صورة أرشيفية التقطت في 29 تشرين الأول/أكتوبر 2020، تظهر صورة شخصية لرئيس الوزراء الإسرائيلي السابق اسحق رابين وسط ميدان رابين في مدينة تل أبيب الساحلية في ذكرى مرور 25 عاما على اغتياله afp_tickers
صورة أرشيفية التقطت في 29 تشرين الأول/أكتوبر 2020، تظهر صورة شخصية لرئيس الوزراء الإسرائيلي السابق اسحق رابين وسط ميدان رابين في مدينة تل أبيب الساحلية في ذكرى مرور 25 عاما على اغتياله afp_tickers

 إذا كان استبصار كون الحديث عن رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق إسحاق رابين بأنه سعى إلى السلام مع الفلسطينيين هو مجرّد هراء، قد تطلّب من محرّر صحيفة "هآرتس" (ألوف بن) مرور ربع قرن على عملية اغتيال الأول، كما ينبئ بذلك مقاله في هذه المناسبة الذي ظهر في الصحيفة يوم 30/10/2020، فقد سبقه إلى هذه النتيجة كثيرون قبله، وتوقفنا عند ما بدر عن معظمهم من تبصرّات مرات من الصعب حصرها.


ومما أشرنا إليه، خلال ذلك، أن كثيرين من الذين دفعوا نحو اتفاق أوسلو يعتقدون أن الإرث الباقي من هذا الاتفاق ومن السياسة التي انتهجها رابين حتى لحظة اغتياله العام 1995، هو ضرورة تقسيم الأرض وتخلّي كل طرف (الإسرائيلي والفلسطيني) عن مطالبه التاريخية بكامل فلسطين، والتي تشكل برأيهم السبب الجذري للصراع، ولكن هذا لا يمنع من رؤية أن ذلك الإرث يشتمل على العناصر الأساسيّة التي يتكوّن منها الموقف الإسرائيليّ اللاحق والراهن إزاء التسوية.

ويمكن أن نبرهن على ما نقول بالأساس من خلال استعادة أهمّ ما ورد في آخر خطاب ألقاه رابين في الكنيست في الخامس من تشرين الأوّل 1995، أي قبل شهر واحد من اغتياله، وتحدّث في سياقه عن رؤيته بشأن جوهر التسوية مع الفلسطينيّين، والتي ليس مبالغة القول إنّها بقيت ترخي بظلالها على التطوّرات اللاحقة.

وممّا قاله رابين في ذلك الخطاب: "إنّنا نعتبر أنّ الحلّ الدائم (للصراع الإسرائيليّ- الفلسطينيّ) سيكون في إطار أراضي دولة إسرائيل التي ستشمل أغلبيّة مناطق أرض إسرائيل - كما كانت عليه الحال أيّام الانتداب البريطانيّ-، وسيُقام إلى جانبها كيان فلسطينيّ سيكون وطناً لمُعظم السكّان الفلسطينيّين المقيمين في قطاع غزّة والضفّة الغربيّة، ونريد أن يكون هذا الكيان أقلّ من دولة كي يصرّف على نحوٍ مستقلٍّ حياةَ الفلسطينيّين الذين يخضعون له... وستتجاوز حدود إسرائيل لدى تطبيق الحلّ الدائم خطوط ما قبل حرب الأيّام الستّة، حيث إنّنا لن نعود إلى حدود الرابع من حزيران 1967... وسيجري تثبيت الحدود الأمنيّة للدفاع عن دولة إسرائيل في غور الأردنّ، في أوسع معنى لهذا المفهوم".

وأضاف رابين: "إنّ القدس ستكون مُوحَّدة بوصفها عاصمة إسرائيل وتحت سيادتها، لتشمل كذلك (مستوطنتي) معاليه أدوميم وغفعات زئيف"، مؤكّداً ما يلي: "لقد توصّلنا إلى اتّفاق، وتعهّدنا أمام الكنيست بعدم اقتلاع أيّ مستوطنة في إطار الاتّفاق المرحليّ، وبعدم تجميد البناء والنموّ الطبيعيّ".

وليس من قبيل المصادفة أن رئيس الحكومة الإسرائيلية الحالية بنيامين نتنياهو يؤكد، لدى مشاركته في مناسبات إحياء ذكرى اغتيال رابين، أن الشعب في إسرائيل موحّد حيال ضرورة التوصل إلى السلام لكن من دون أن يتنازل عن حقه في الحياة في البلد، وعن حقه في الدفاع عن أمنه وسلامته، فضلاً عن كونه موحّداً حيال مطلب الحفاظ على القدس الموحدة عاصمة لإسرائيل إلى الأبد. فمثلاً في الجلسة الخاصة، التي عقدها الكنيست الإسرائيلي في هذه المناسبة العام 2010، اقتبس نتنياهو فقرات طويلة من آخر خطاب ألقاه رابين لإسناد ما أكده لاحقاً في كلمته فيما يتعلق بضرورة عدم تجميد أعمال البناء في المستوطنات، وضرورة أن تكون الدولة الفلسطينية العتيدة منزوعة السلاح وتعترف بإسرائيل كـ"دولة الشعب اليهودي".

ومما قاله نتنياهو في هذا الشأن على وجه التحديد ما يلي: "تقتضي الحاجة أن أبدي هنا والآن ملاحظتين قصيرتين: الأولى بشأن البناء والتجميد (في المستوطنات)، حيث سبق أن قلت إن تجميد أعمال البناء (الذي قامت به حكومته) لهو إجراء مؤقت كان بمثابة بادرة حسن نية لم تُقدم عليها أي حكومة سابقة، وإنني أعتبر كلام رابين في هذا الخصوص إقراراً آخر بصحة هذا الأمر، بالإضافة إلى حقيقة أن البناء في المستوطنات القائمة في "يهودا والسامرة" (الضفة الغربية) لا يتناقض مع السعي للسلام والتسوية. أما الملاحظة الثانية فأرجو التعقيب من خلالها على ما قاله رابين لدى تطرقه إلى الكيان الفلسطيني الذي سوف يقوم من أنه "سيكون أقل من دولة"، ولا أعلم تحديداً مغزى كلامه في حينه إلا إننا نتحدث الآن عن قيام دولة منزوعة السلاح تعترف بدولة الشعب اليهودي، إذ لا نريد أن نحرم الفلسطينيين من حق تقرير المصير ولا نريد التحكم بهم. إن ما نرغب فيه هو أن تكون الدولة اليهودية معترفاً بها ومحميّة. وإن إصرارنا على قضية الأمن لا يأتي من باب النزوات أو التبريرات".

ما تقدّم يعني، وفق المنطق السليم، أنّ المؤسّسة السياسيّة الإسرائيليّة مستمرّة في تطبيق المدلول الحقيقيّ لـ"إرث مسار أوسلو"، ولا سيّما تشديده على وجوب أن تكون أيّ تسوية للصراع مستندة أساساً إلى تلبية "حاجات إسرائيل الأمنيّة" بموجب مفهومها هي- وفقط هي- لهذه الحاجات، والذي يعتبرها مطاطة ولا يحدّد نهاية لها.

فضلاً عن هذا، ثمة من يؤكد أنه بعد اغتيال رابين، وخلال ولاية حكومة نتنياهو الأولى (1996- 1999)، تحولت الأصولية اليهودية بجانب المستوطنين في أراضي 1967 إلى عامل لا يمكن فهم الواقع الإسرائيلي من دونه. وأثبت "مهرجان إحياء ذكرى مرور عشرين عاماً على اغتيال رابين" (أقيم العام 2015)، من ضمن مؤشرات أخرى، مسألة نهاية الصراع الداخلي الإسرائيلي فيما يتعلق بالعملية السياسية مع الفلسطينيين.

فحتى ذلك المهرجان جرت العادة بأن يقام مهرجانان سنويان: واحد لـ"اليسار" (الصهيوني)، والآخر لمعارضي العنف باسم وحدة الشعب. أما في العام 2015 فقد أقيم مهرجان واحد فقط. و"اليسار" المذكور (ميرتس وحركة "السلام الآن") شارك في مهرجان إحياء الذكرى تحت مظلة شعارات اليمين الداعية إلى وحدة الشعب ونبذ العنف. وبحسب عدة تحليلات في حينه، تعني مشاركة "السلام الآن" وميرتس في تظاهرة مع المستوطنين، تحت شعارات الحد الأدنى المشتركة، من ناحية عملية، دفن الرسالة بشأن ضرورة إنهاء الاحتلال (لأراضي 1967) من أجل تحقيق السلام، عميقاً تحت "الوضع القائم" المتمثل بـ"السلام مع استمرار الاحتلال" المذكور.

ولوحظ أنه عقب ذلك المهرجان، بدأت تظهر في إسرائيل تحليلات تهدف إلى تحطيم "أسطورة رابين مُحقّق السلام". ويؤكد جلّهـا أن أحد الأسباب التي أدت إلى فشل اتفاق أوسلو يعود إلى عدم استعداد رابين للمضي قدماً والذهاب إلى حد تقديم ما يمكن أن يكون مقبولاً على الفلسطينيين، مثل السيطرة على الحرم القدسي الشريف، جعل القدس عاصمة مشتركة ووقف البناء في المستوطنات. ولم يكن هذا بمثابة صنع معروف من جانبه. فحتى بعد أوسلو، بقي هو المحتلّ، الذي يواصل البناء الحثيث في المستوطنات. وجميع العروض التي قدمت للفلسطينيين بعد اتفاق أوسلو لم تكن كافية من أجل التوصل إلى سلام. فإيهود باراك أقنع اليسار بأنه كان على وشك تحقيق السلام، لكن لم يكن لديه (وليس لدى إسرائيل الآن) شريك جدي. غير أن باراك، مثل إيهود أولمرت أيضاً، لم يوافقا على بلوغ الحد الأدنى المطلوب الذي يتيح للقيادة الفلسطينية الرجوع إلى شعبها بعرض سخيّ، مقبول، يكون في مركزه وقف فوري للبناء في المستوطنات، سيطرة فلسطينية على الحرم القدسي وعاصمة مشتركة، إلى جانب اعتراف مبدئي بمسؤولية إسرائيل عن مأساة الفلسطينيين المستمرة.

وأظهرت أغلبية المقاربات التي تناولت مدلولات ذكرى اغتيال رابين أنه لا يوجد توافق على وجود "إرث" خلفه رابين وراءه بعد اغتياله. ورأى كثيرون أن إرثاً كهذا في حال وجوده قابل للتأويل، واعتبر البعض أن "إرث رابين" يتمثل بحاجة إسرائيل إلى دفع السلام مع الفلسطينيين قدما، وأن هذا المفهوم لإرثه آخذ بالتبخر.
ونستطيع القول إنه بعد مرور أكثر من ربع قرن على اغتيال رابين، بالإمكان ملاحظة أنه بدأ يتشكل في إسرائيل شبه توافق على ما يلي:

أولاً، أن الرصاصات التي أنهت حياته "أعادت بكيفية ما كتابة سيرة حياته"، وبالتالي فإن كل شيء- مسيرته العسكرية والدبلوماسية والسياسية- وُضع تحت جناحي سلام لم يكن، وهو غير موجود بتاتاً، واختفى رابين الحقيقي، وسيطرت شخصية خيالية جديدة على السردية المتعلقة به.

ثانياً، هناك انعدام توافق على "إرثـه"، وهذا "الإرث" قابل للتأويل إلى نواحٍ متعدّدة وأحياناً متناقضة وذلك وفقاً للمصالح السياسية التي تتحكم بوجهات نظر شتى ألوان الطيف الحزبي ولخدمة الصراعات الداخلية المحتدمة فيما بينها هنا والآن.
ثالثاً، منذ عملية الاغتيال، ما يزال ظل قاتله يغئال عمير يخيّـم فوق رؤوس صناع القرار الإسرائيليين. وربما يجعلهم يدركون، في لاوعيهم إن لم يكن في وعيهم التام، أن أي قرار بشأن إخلاء مستوطنين من الأراضي المحتلة يستتبع دفع ثمن سياسي باهظ، وقد يدفعون أرواحهم ثمناً لذلك.

والحقيقة أنه منذ عدة أعوام يتسم إحياء ذكرى هذا الاغتيال أيضاً بتصعيد هجوم اليمين الاستيطاني المتطرّف على "إرث رابين" بموجب الصيغة التي يتداولها معسكر اليسار- الوسط بشأنه. ويعتبر أصحاب الهجوم أن هذا الإرث يفتقر إلى أي ثراء فكري أو روحي، وفي الوقت ذاته ينطوي على إثـم سياسي خطر للغاية يتمثل في "اتفاق أوسلو" الذي تسبب برأيهم بـ"مزيد من سفك دماء اليهود"!.

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات