ترجّح آخر التقارير والتحليلات الإسرائيلية، وخصوصاً من جانب المحللين والمراسلين العسكريين، أن يشهد شهر أيلول الحالي تطوريْن دراماتيكييْن فيما يتعلّق بسيرورة الحرب على قطاع غزة المستمرة منذ يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023:
التطوّر الأول، مضاعفة إسرائيل حدّة القتال في مدينة غزة، تمهيداً لقيام الجيش الإسرائيلي باحتلال المدينة، بناءً على قرار المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغّر للشؤون السياسية والأمنية (الكابينيت).
والتطوّر الثاني تصاعد موجة الاعتراف بدولة فلسطينية ضمن حدود العام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، بالتزامن مع انعقاد الدورة السنوية للجمعية العامة في الأمم المتحدة. وهو تطوّر تسود بشأنه تقديرات في إسرائيل فحواها أنه من المتوقّع أن يعمّق أكثر فأكثر عزلتها السياسية وأن يحوّلها إلى دولة منبوذة، فضلاً عن تقديرات أخرى بأن ما يتسبّب بهذا التصاعد هو آخر الأوضاع في قطاع غزة، والحرب المستمرة التي ترفض إسرائيل إنهاءها. ووفقاً لهذه التقديرات نفسها، إذا ما اختارت الحكومة الإسرائيلية اتخاذ خطوات عقابية، مثل ضم أراضٍ في الضفة الغربية وقطاع غزة، أو تشجيع هجرة الفلسطينيين من الضفة الغربية والقطاع، فقد تجد نفسها أمام عقوبات دولية وإضرار بعلاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية مع دول عديدة. وسبق لورقة تقدير موقف صادرة عن "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب (4/8/2025) أن أشارت إلى أن خطوات العقاب الإسرائيلية قد تحوّل التهديدات بالمقاطعة والعقوبات من جانب دول أوروبية إلى واقع موجّه مباشرةً ضد إسرائيل وليس فقط ضد المستوطنات في الضفة الغربية. ومن بين الخيارات المطروحة تعليق اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، وإخراج إسرائيل من صندوق "هورايزون"، وفرض حظر على السلاح، والإضرار باتفاقيات التجارة مع إسرائيل.
وفيما يتعلّق باحتلال مدينة غزة، الذي سنتركز فيه بالأساس، ينبغي الإشارة إلى ما يلي:
أولاً، سوف يبدأ الجيش الإسرائيلي باستدعاء تشكيلات الاحتياط في منتصف الأسبوع الحالي، وبموجب تقارير متطابقة من المفترض أن يشمل نحو 60 ألف أمر استدعاء، بما في ذلك وحدات أنهت خدمتها العسكرية في قطاع غزة مؤخراً. وكشف المحلل العسكري لصحيفة "هآرتس" عاموس هرئيل عن أن جنود الاحتياط لن يُرسلوا، في معظمهم، إلى القطاع، بل سيّوجّه نحو نصفهم إلى المقرّات، بينما سيلتحق النصف الآخر بالكتائب التي ستحلّ محل الوحدات النظامية المنتشرة حالياً في الضفة الغربية، وعلى حدود إسرائيل. وفي المقابل، يخطط رئيس هيئة الأركان العامة لنقل أغلبية قوات الجيش النظامي المقاتلة إلى جبهة القطاع، وخصوصاً ضمن العملية العسكرية داخل مدينة غزة (31/8/2025).
ثانياً، تشدّد مصادر إسرائيلية متطابقة على أن المؤسسة السياسية هي التي تدفع قدماً نحو استمرار الحرب، ونحو احتلال مدينة غزة، وترسيخ الحكم العسكري الإسرائيلي، وذلك خلافاً لرغبة أغلبية واضحة في المجتمع الإسرائيلي، وكذلك خلافاً لموقف "المستويات المهنية" في قيادة الجيش وجهاز الأمن العام (الشاباك)، من خلال تجاهل أن الأثمان ستكون باهظة، وستتمثل، كما يؤكد مثلاً الرئيس السابق لشعبة الاستخبارات العسكرية ("أمان") و"معهد أبحاث الأمن القومي" اللواء احتياط عاموس يدلين، في المزيد من دماء الجنود، ومن زعزعةً مكانة إسرائيل في العالم، في وقت تبقى فيه الإنجازات، قياساً على الواقع القائم، موضع شك كبير، ولذلك فهي برأيه "لا تبرر سقوط مزيد من الجنود، ولا التخلي عن الأسرى، ولا عشرات المليارات من أموال دافعي الضرائب (الذين هم أيضاً يرسلون أبناءهم إلى الجيش)، ولا الانهيار الدبلوماسي غير المسبوق الذي بدأ فعلاً، وسيُحطم مكانة إسرائيل في العالم" (موقع قناة التلفزة الإسرائيلية 12، 27/8/2025).
ثالثاً، ازدادت المؤشرات التي تؤكد على أنه إذا كانت حركة المعارضة للحرب في إسرائيل تريد النجاح في تحقيق غاياتها، وخصوصاً بعد الفشل الذي مُنيت به في كسْب دعْم الإدارة الأميركية الحالية، عليها أن تركز على الجيش الإسرائيلي، الذي تدور "داخل قيادته العليا خلافات حادّة بشأن قضية الأسرى واحتلال مدينة غزة"، وهي خلافات نوّه بها المحلل العسكري لصحيفة "يديعوت أحرونوت"، رون بن يشاي (26/8/2025).
وفي هذا الصدد ارتأى الأستاذ الجامعي المتخصص في شؤون الفكر العسكري الإسرائيلي ياغيل ليفي أن يذكّر بقيام المفكر اليهودي الأميركي نوعام تشومسكي بنسب دور مهم إلى الجيش الأميركي في إنشاء المعارضة لحرب فيتنام، وقال إن حروباً كحرب فيتنام "هي ببساطة وحشية وعنيفة ودموية أكثر من اللازم، والمواطنون (أي الجيش القائم على التجنيد الإجباري) لا يمكنهم فعل ذلك لفترة طويلة. وما حدث هو أن الجيش بدأ يتفكك، وأحد أسباب انسحاب الجيش كان أن القيادة العسكرية العليا أرادت إخراجه من هناك، لأنها تخوفت من ألاَّ يبقى لديها جيش بعد ذلك" ("هآرتس"، 24/8/2025). وبرأي ليفي، هذا هو المفتاح أيضاً في غزة؛ فالحرب لا تثير معارضة بسبب غياب المنطق السياسي لها، أو مستوى أخلاقيتها، أو العدد القليل نسبياً من الجنود الذين قُتلوا فيها، بل فقط بسبب الخطر الذي تهدّد به حياة الأسرى الإسرائيليين، وربما يكون هذا هو السبب الوحيد الذي أخرج عشرات الآلاف إلى الشوارع في "يوم الإضراب" الأخير. ومع ذلك، فلهذا الاحتجاج تأثير محدود في الحكومة، ولا يمكن إحداث تأثير أكبر إلاَّ إذا برز تهديد مباشر على سلامة الجيش. ورأى ليفي أن التفكك الداخلي في الجيش وصل فعلاً إلى مستويات أعلى مما يعرفه الجمهور العريض، وذلك بفضل القدرة على إخفائه وابتكار حلول، وخصوصاً على المستوى المحلي وبفضل مخزون القوى البشرية المخلصة للصهيونية الدينية. ومع ذلك، فإن التفكك يستمر، وفيه يكمن المفتاح لإنهاء الحرب، ويمكن أن يتجسد ذلك في زيادة عدد الطيارين الذين يمتنعون من قصف غزة، أو في الانخفاض الحاد في نِسَبِ الانضمام إلى قوات الاحتياط بحيث لا تعود الحلول الموقتة (كاستئجار بدائل) مجدية، وفي رفْضِ الجنود في الخدمة النظامية وفي الاحتياط تنفيذ مهام خطِرة بصورة خاصة لكن عديمة الجدوى. والخلاصة التي يتوصل إليها مؤداها أن التهديد بالتفكك هو وحده الذي يمكن أن يدفع قادة الجيش إلى إدراك مستوى الدمار الذي يلحقونه بالجيش وموازنته مع تأثير ماكينة السمّ اليمينية، وعندها ربما يقفون في وجه الحكومة ويطالبون بإنهاء الحرب.
رابعاً، ما دمنا في سيرة الجيش الإسرائيلي فسننهي هذه الكلمة بملاحظتين: الأولى، تتواتر في الأيام القليلة الفائتة الاتهامات من محيط رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو في اتجاه رئيس هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي الجنرال إيال زامير بأنه يماطل في إخراج قرار الكابينيت حول احتلال مدينة غزة إلى حيّز التنفيذ بحجة أنه يحتاج إلى تحضيرات مكثفة. وفي قراءة عاموس هرئيل فإن هذه الاتهامات هي بمثابة تمهيد لتحميل الجيش المسؤولية لاحقاً عن أي فشل.
أمّا الملاحظة الثانية فهي أنه ما زالت تتكرّر على ألسنة الكثير من المحللين السياسيين والعسكريين في إسرائيل، ناهيك عن عدد كبير من القادة العسكريين السابقين، الخلاصة التي فحواها ما يلي: على الرغم من محاولات إضفاء منطق استراتيجي - سياسي على استمرار الحرب وعلى قرار احتلال غزة، فإن هذه الحرب تخدم هدفاً سياسياً واحداً هو استمرار بقاء الحكومة. وأجمل هذا الأمر اللواء احتياط يسرائيل زيف، الرئيس السابق لشعبة العمليات في الجيش الإسرائيلي، الذي كتب يقول إن لرئيس الحكومة استراتيجيا واحدة فقط: كسْب الوقت من أجل بقاء حُكْمِهِ، فحتى شهر واحد أو أسابيع معدودة تساوي عنده كل ثمن. إنه يتجاهل تماماً إرهاق جنود الاحتياط، وإنهاك الجنود النظاميين، والضيق من الوضع الصعب الذي يعيش فيه معظم الجمهور، فهذا لا يعنيه حقاً. وفي الوقت نفسه شدّد زيف على أن المسألة تعود بقوة إلى الشعب؛ فهل هو مستعد للاستمرار مع مناورات رئيس الحكومة السياسية على حسابه، ومع مزيد من الأكاذيب والوعود الفارغة من المضمون؟ إن لم يكن كذلك، فهذا هو الوقت لكي يقول الشعب كلمته بوضوح (موقع قناة التلفزة الإسرائيلية 12، 25/8/2025).