المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
كتيبة "نيتسح يهودا": عداء أيديولوجي وتنافس على العنف.
كتيبة "نيتسح يهودا": عداء أيديولوجي وتنافس على العنف.

في كانون الثاني 2022، استشهد المسن عمر عبد المجيد أسعد، 80 عاما، من قرية جلجليا قضاء رام الله، وهو مواطن فلسطيني يحمل جواز سفر أميركياً، بعد أن قيده جنود إسرائيليون لساعات وألقوه في البرد القارس. لاقى استشهاد أسعد ردود فعل محلية ودولية بسبب هذه الواقعة. كانت كتيبة في الجيش الإسرائيلي تدعى "نيتسح يهودا" هي من قام باقتحام جلجليا والتسبب في استشهاد أسعد.

تضاف قضية الاستشهاد هذه إلى سجل طويل من الممارسات القمعية والارتجالية التي تقوم بها هذه الكتيبة والتي تحولت إلى ميليشيا تحظى باستقلالية نسبية داخل الجيش الإسرائيلي، ومحصنة من كل محاسبة.

هذه المقالة تلقي الضوء على كتيبة "نيتسح يهودا" والتي تتشكل بالأساس من جنود مستوطنين حردليين، ذوي قناعات توراتية وعداء أيديولوجي للعرب وتنافس داخلي على ممارسة العنف الانتقامي.

خلفية تاريخية

تأسست كتيبة "نيتسح يهودا" في العام 1999، كإحدى الكتائب التابعة لسرية كفير التي تحمل رقم 900. بيد أن الكتيبة لم تتأسس كحاجة عسكرية من داخل الجيش نفسه، وإنما بناء على تعاون حثيث ما بين المجتمع الحريدي ووزارة الدفاع الإسرائيلية. فبعد انشاء القسم الأمني-الاجتماعي داخل وزارة الدفاع الإسرائيلية، تأسست جمعية "نيتسح يهودا" في العام 1999 بهدف دفع الشبان الحريديم للتجند في صفوف الجيش الإسرائيلي. في الواقع، ظل مجتمع الحريديم، وهو مجتمع متزمت دينيا، ينأى بنفسه عن الانخراط في صفوف الجيش لدواع دينية عقائدية، بحيث يكرس كل حياته لتعلم التوراة في المعاهد الدينية ويعتقد أن مؤسسة الجيش هي مؤسسة علمانية من شأنها أن تزيغ عقول الشبان المتزمتين دينيا وتحرفهم عن ممارسة الشريعة الدينية السليمة. لكن في المقابل، بدأ الحريديم يلحظون في العقود الأخيرة بأن نسبة لا يستهان بها من الشبان الحريديم يتسربون من مدارس التوراة (أو ما يسمى: الييشيفاه)، ويتقربون أكثر من المجتمع الإسرائيلي الليبرالي. وهذا هو ما دعا بعض قادة الحريديم إلى تأسيس جمعية "نيتسح يهودا" لحماية الشبان المتزمتين الذين يعانون من مشاكل أسرية والذين قد ينتهي بهم المطاف كمتسكعين في شوارع القدس بعد أن فشلوا بالالتحاق بمدرسة توراتية.يانيف كوبوفيتش، تطور ميليشيا داخل الجيش: واقع نيتسح يهودا، هآرتس، 2022، https://www.haaretz.co.il/news/politics/.premium-MAGAZINE-1.10600082.

وعليه، تأسست جمعية "نيتسح يهودا" على يدي الحاخام تسفي كالبناو، هو يهودي أميركي متدين هاجر إلى إسرائيل في العام 1996. وتهدف الجمعية التي تتعاون بشكل حثيث مع كل من المجتمع الحريدي من جهة ووزارة الدفاع الإسرائيلية من جهة أخرى، إلى دعم الجنود الأرثوذكس المتطرفين ومرافقتهم خلال خدمتهم العسكرية التي تمتد إلى عامين، وترافقهم أيضا أثناء وبعد إطلاق سراحهم لمساعدتهم بالاندماج في المجتمع مع الحفاظ على قيم التوراة الأرثوذكسية المتشددة خاصة تلك المتعلقة بالأسرة والمجتمع. بيد أن الجمعية اتسع نطاق عملها لتستهدف تجنيد شبان متطرفين قد لا ينتمون بالضرورة إلى مجتمع الحريديم، لكنهم في المقابل يعتبرون متدينين وعقائديين مثل مجتمع المستوطنين، وخاصة تيارات الحردلية (التيارات التي تجمع ما بين البعد القومي الصهيوني والبعد الديني المتزمت). فبينما ترعى الجمعية حوالي 2400 شاب حريدي فشلوا في الالتحاق بالمدرسة التوراتية، فإنها تضم بين صفوفها حوالي 14 ألف مقاتل صهيوني إسرائيلي وحوالي 700 جندي وافد من الخارج تم تجنيدهم من المجتمعات اليهودية في العالم. ويتوزع هؤلاء الجنود جميعا على أكثر من ست كتائب أهمها كتيبة "نيتسح يهودا" والتي تحمل اسم الجمعية لكنها تعتبر الأكثر جذبا للجنود المتطرفين.

تعمل كتيبة "نيتسح يهودا" بالأساس في منطقة رام الله وضواحيها، وتضم في صفوفها حوالي 1000 مجند. ومسار التجنيد في هذه الكتيبة يتبع النمط المسمى "ييشيفاة هيسدير" وهو مسار يجمع ما بين العلوم العسكرية والعلوم الدينية التوراتية. فجنود الكتيبة يخدمون ما مجموعه عامين وثمانية أشهر في الجيش الإسرائيلي. هذه الخدمة تشمل دورة تدريبية لحوالي 8 أشهر، تليها الخدمة كمقاتلين لمدة 16 شهرًا إضافية. بعد ذلك يحق للجندي الحصول على عام دراسي آخر بعد الخدمة في الجيش، وهو ما يسمى عام "الارتقاء" ويهدف إلى تمكين الجندي من إكمال شهادة الثانوية العامة والدراسة في معهد من أجل الحصول على مهنة تمكنه من كسب العيش الكريم. Nezah, Netzah Yehuda - Kfir, Nezah Association, 2022. see website: https://nahalharedi.org/units/netzach-yehuda-kfir/ ومع أن الكتيبة أقيمت العام 1999 كحاضنة للشباب الحريدي المتسرب من الدراسة، إلا أنها في الواقع تضم عدد قليلا من الحريديم. مع السنوات، تحولت الكتيبة عمليا إلى كتيبة دينية- سياسية، وهي تضم بين صفوفها أفراداً من "شبيبة التلال" الصهيونية المتطرفة، بالإضافة إلى مستوطنين حردليين، ومستوطنين متدينين آخرين لا يرغبون بالاختلاط مع النساء كون الكتيبة تعرف نفسها ككتيبة عسكرية دينية.

غير أن ما يميز هذه الكتيبة هو تبلور عقيدة أيديولوجية دينية سياسية تدفع جنودها إلى الاعتقاد بأن فرض الحكم على الفلسطينيين وضبطهم يعتبر مهمة "مقدسة" دينيا وليس مجرد مهمة عسكرية مرتبطة بقرارات صادرة عن قيادة الجيش، كما أوضح إيتمار ديشل، وهو نقيب في الجيش الإسرائيلي وكان قائد كتيبة "نيتسح يهودا" بين 2016-2018.ياغيل ليفي، حان الوقت لتفكيك نيتسح يهودا، هآرتس، 31 كانون الثاني 2022. أنظر الرابط التالي: https://www.haaretz.co.il/opinions/1.10578659 ولأن معظم جنود هذه الكتيبة كان قد تمردوا في السابق على أسرهم وحاخاماتهم وفشلوا في دراسة التوراة، فإنهم يجدون في "الحكم المقدس" على الفلسطينيين مناسبة لإثبات الذات من خلال ممارسة العنف المفرط، وهو أمر معروف لكل قادة هذه الكتيبة.نفس المصدر السابق.

لكن بعيدا عن كون الكتيبة ملاذاً للشبان المتمردين والفاشلين اجتماعيا وأكاديميا، فإنها أيضا تعتبر جاذبة لمجتمع المستوطنين المتطرفين. فالصدامات ما بين المستوطنين ومؤسسة الجيش بدأت تتكرر بشكل متسارع في العقدين الأخيرين على خلفية إقامة بؤر استيطانية بدون التنسيق المسبق مع مؤسسات الدولة. من هنا، يرى المستوطنون بأن كتيبة نيتسح يهودا" تعتبر مملكتهم داخل مؤسسة الجيش الإسرائيلي بحيث أنها تخلق لهم مساحة للتوغل في ممارساتهم العدوانية تحت حماية هذه الكتيبة بالتحديد. مثلا، في حزيران 2021 نشبت مواجهات ما بين المستوطنين والفلسطينيين في شارع 60 إلى الشرق من جبل الطويل على خلفية إقامة البؤرة الاستيطانية عوز تسيون. وعندما هرعت قوات من حرس الحدود لتفريق المواجهات، تدخلت كتيبة "نيتسح يهودا" وحثت المستوطنين على مواجهة قوات حرس الحدود أيضا لأن الأخيرين شاركوا في إخلاء البؤر الاستيطانية في السابق. وفي أثناء إخلاء البؤرة المسماة عادي عاد المقامة إلى الشمال الشرقي من مدينة رام الله، قام جنود من "نيتسح يهودا" بالبصق على الشرطة الإسرائيلية واتهامهم بالخيانة وتلاسنوا معهم. وثمة العديد من الأحداث الأخرى التي يظهر فيها جنود "نيتسح يهودا" باعتبارهم ميليشيا مستقلة تابعة للمستوطنين بدلاً من كونهم جزءاً من جيش نظامي. وهذا ما دفع ببتسلئيل سموتريتش، أحد زعماء الصهيونية الدينية، إلى القول بأن: "المستوطنين سعداء في كل مرة يتم إرسال كتيبة نيتسح يهودا الخالدة إلى منطقتهم" وادعى بأن العام 2021 تميز بهدوء وأمن نسبيين فقط بسبب تواجد قوات "نيتسح يهودا" الذين يعرفون كيف يتعاملون مع الفلسطينيين ويردعونهم.كوبوفيتش، مصدر سابق.

ولا بد من الإشارة، إلى أن التيارات الحردلية، وهي تيارات تقع في المساحة الرمادية التي تفصل ما بين المتزمتين وما بين الصهيونيين القوميين، تتخذ مواقف ناقدة من الجيش الإسرائيلي ومن معظم مؤسسات الدولة على ضوء الانسحاب من أراض داخل الضفة ضمن اتفاق أوسلو (1993-1999) والانسحاب من غزة (2005) بالإضافة إلى إخلاء بؤر استيطانية بين الفينة والأخرى. وهي ترى أن ارض الضفة الغربية هي أراض توراتية لا يمكن نقل السيادة عليها إلى الفلسطينيين الاغيار. من هنا تزداد الأصوات التي تنادي بضرورة عصيان الجيش، أو تدفيعه الثمن، في حال تجرأ مجددا على الانصياع إلى قيادته الدنيوية المرتبطة بمعاهدات سياسية على حساب التوراة والسيادة اليهودية. و"نيتسح يهودا" ككتيبة مقربة للمستوطنين وقادتهم من حاخامات الحريديم والحردليين، تعتبر محاولة بديلة تتمثل في السعي إلى إدخال حصان طروادة إلى داخل مؤسسة الجيش والتأثير عليه من الداخل.

وفي أكثر من تحقيق صحافي قامت به "هآرتس" تبين أن كتيبة "نيتسح يهودا" هي كتيبة متمردة، وتتلقى أوامرها من قادة المستوطنين وحاخامات الصهيونية الدينية الذين يزورون قاعدتها بشكل مستمر، أكثر من كونها تتبع إلى قيادة الجيش. لكن الملفت للنظر من خلال هذه التحقيقات، هو أن أفراد هذه الكتيبة محصنون بشكل شبه كلي من أي عقوبة، خصوصا بعد أن اتضحت حالات من استخدام العنف المفرط وغير المبرر، والتعدي على الفلسطينيين المارة بدون سبب، وسرقة معدات صحافيين أجانب، واقتحام بيوت ومنشآت فلسطينية بدون أوامر عسكرية مسبقة.نفس المصدر السابق. ولا بد من التشديد على أن ما يميز كتيبة "نيتسح يهودا" ليس العنف المفرط بحق الفلسطينيين؛ فهذا الأمر قد نجده أيضا لدى معظم وحدات الجيش الإسرائيلي، بل إن ما يميزها هو رعونتها، وتمردها على الانضباط العسكري، وارتجالها اقتحامات وأعمال عنف بشكل انتقامي بدون معرفة قيادة الجيش، وبدون أن تتم محاسبتها، على الرغم من تعالي أصوات داخل المجتمع الإسرائيلي بضرورة تفكيكها أو إخراجها من داخل الضفة لتعمل في ميدان آخر.

 

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات