المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
.. في نزل إعادة تأهيل لمدانين بجرائم عنف أسري. (عن موقع غلوبوس)
.. في نزل إعادة تأهيل لمدانين بجرائم عنف أسري. (عن موقع غلوبوس)

 "النظام، بمجمله، مبنيّ كآليةٍ لدرّ الأموال وهذه الأموال لا تُوَظَّف في خدمة أهدافها المُعلَنة، التي في مركزها تحسين ظروف السجناء. الغالبية الساحقة من السجناء الذين يتم تسريحهم لا يحصلون على أي مساعدة مما يستحقونه بموجب القانون... لا دعم، لا ميزانيات ولا توجيه من جانب الأشخاص الذين لا وظيفة لهم سوى القيام بهذا، بالضبط.... من يملك المال يمكنه شراء حريته بصورة أسرع"- هذا هو ملخص لائحة الاتهام الخطيرة التي يُشهرها تحقيق صحافي نشره موقع "مركز شومريم" مؤخراً ضد "سلطة إعادة تأهيل السجناء" في إسرائيل، قصوراتها وإخفاقاتها، وما يترتب على ذلك من أثمان إنسانية، اقتصادية واجتماعية فادحة وبعيدة الأثر.

"مركز شومريم" (الحُرّاس) هو، كما يعرف نفسه، "مركز للإعلام والديمقراطية؛ جسم إعلامي غير سياسي غايته تعزيز أسس الديمقراطية في إسرائيل من خلال المشاريع الإعلامية والتعاون مع وسائل الإعلام الإسرائيلية الأخرى". أما "سلطة إعادة تأهيل السجناء" (اسمها الرسمي، المُستخدَم في موقعها الرسمي وفي مُراسلاتِها، هو "سلطة تأهيل الأسرى") فهي جسم حكوميّ يحظى باستقلالية إدارية، لكنه يخضع لمراقبة وزير العمل والرفاه الاجتماعي، وتبلغ ميزانيته (الحكومية) أكثر من 60 مليون شيكل. وهي تعمل بموجب قانونين اثنين بوجه أساس، أولهما هو "قانون سلطة تأهيل السجين" وثانيهما "قانون التسريح المشروط من السجن" الذي يشترط الإفراج المشروط عن السجين بمشاركته ـ خلال فترة الاشتراط (الفترة الاحترازية) ـ في برنامج علاجيّ، تأهيليّ، خاضع للمراقبة.

إمكانيات أقل ـ فترة سجن أطوَل

في أعقاب البحث الذي أجراه الكنيست قبل نحو عقد من الزمن حول موضوع "إعادة تأهيل السجناء"، أصدر "مركز الأبحاث والمعلومات" التابع للكنيست، في تموز 2011، تقريراً تحت عنوان "معطيات في موضوع إعادة تأهيل الأسرى" كانت التالية إحدى الخلاصات المركزية التي توصل إليها التقرير وأكدها: "عدم قدرة سلطة تأهيل الأسرى على إعداد برامج تأهيلية لجميع السجناء تمس بالمساواة، بصورة حادة: ذلك أن الدولة لا توفر ظروفاً متساوية لجميع السجناء في كل ما يتعلق بإعادة تأهيل السجناء وبتسريحهم المبكر (أي، قبل انقضاء فترة المحكومية الكاملة). فالسجناء الذين لا تستطيع سلطة تأهيل الأسرى إعداد برامج تأهيلية لهم بينما لديهم الإمكانيات المالية الكافية لشراء برامج تأهيلية خاصة يستطيعون المثول أمام "لجنة تسريح السجناء"، ثم الفوز بالإفراج المبكر، بينما السجناء الذين لا تتوفر لديهم الإمكانيات المادية لذلك، لا يستطيعون المثول أمام لجنة تسريح السجناء ويبقون في السجن فترة أطول حتى إتمام فترات محكومياتهم كاملة".

رغم مرور أكثر من عشر سنوات على هذا التقرير وما ورد فيه من عرض للواقع التعيس في هذا المجال ومن خلاصاتٍ خطيرةٍ للغاية، إلا أن الوضع لا يزال على حاله في هذا المجال. لا بل جاء تقرير مراقب الدولة السنوي الأخير، الذي صدر في أيار من العام الجاري، ليؤكد حقيقة استمرار هذا الوضع نظراً لأن "سلطة تأهيل السجناء تجد صعوبة بالغة في تنفيذ خطط العمل، حتى من سنوات سابقة خلت، إلى جانب الصعوبة البالغة أيضاً في الوصول إلى جميع السجناء بغية فحص ما إذا كان في الإمكان بناء برامج تأهيلية لهم".

هذه الحقائق يؤكدها أيضاً سجناء تم الإفراج عنهم مؤخراً أدلوا بآرائهم ضمن التحقيق الصحافي. يقول أحدهم: "الأشخاص الذين أعرفهم أنا والذين استطاعوا الخروج بفضل برامج تأهيلية خاصة هم أشخاص محظوظون نجحوا في شراء حريتهم بالمال... فمن يمتلك الإمكانيات المادية الكافية يستطيع الخروج من السجن في إفراج مبكر، بينما يضطر من لا يمتلك مثل هذه الإمكانيات إلى البقاء في السجن وقضاء فترة محكوميته كاملة". ولكن، حتى البرنامج التأهيلي الذي تضعه "سلطة إعادة تأهيل السجناء" لفترة ما بعد التسريح "هو برنامج قاصر ولا يلبي الاحتياجات الأساسية التي تضمن للسجين إعادة التأهيل الحقيقية"، كما يقول السجين ذاته، موضحاً: "يقتصر هذا البرنامج على مجموعة صغيرة تعقد لقاءات قليلة، مرة واحدة كل فترة من الزمن... وإذا كانت سلطة تأهيل السجناء لا تعرف كيفية إعادة تأهيل السجناء والبرامج الملائمة لذلك والتي تلبي هذه الحاجة، فليس ثمة مبرر لوجودها، على الإطلاق".

يلفت سجين سابق آخر، يقود مجموعة انتظمت للمطالبة بـتحسين ظروف السجناء وتدير صفحة على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" تحت عنوان "احتجاجات السجناء"، إلى المعطيات الواردة في تقرير مراقب الدولة الصادر في أيار 2021، والتي تفيد بأن مجموع عدد السجناء في السجون الإسرائيلية (حتى موعد إعداد التقرير إياه) بلغ 14234 سجيناً، من بينهم: 164 "متسللاً" (أي: من اللاجئين الأفارقة في إسرائيل)، 9357 سجيناً جنائياً و4713 سجيناً "أمنياً"/ سياسياً، من بينهم 2974 محكومون و1739 معتقلون لم يُقدَّموا إلى محاكمات و/ أو لم تصدر أحكام بحقهم.
ويضيف أن سبعين بالمئة من السجناء الذين يتم تسريحهم في إسرائيل لا يخضعون لأي برنامج تأهيليّ؛ وهي نسبة مرتفعة جداً لها الكثير من الأبعاد والنتائج الخطيرة التي سنأتي عليها لاحقاً هنا، سواء على الصعيد الإنساني أو الاجتماعي أو الاقتصادي. ومن بين الـثلاثين بالمئة الذين يخضعون لبرامج تأهيلية مختلفة، فعلية كانت أم إسمية فقط، عشرون بالمئة فقط (أي 6 بالمئة فقط) هم الذين يحصلون على هذه البرامج من خلال "سلطة تأهيل السجناء"؛ ثم يتساءل: "ما الغرابة، إذاً، في أن نسبة السجناء الذين يعودون إلى السجن بعد تسريحهم تزيد عن 40 بالمئة؟"!

الباب إلى الحرية المبكرة ضيقٌ جداً ومُكلفٌ

يعلم كل سجين إسرائيلي يقضي محكومية بالسجن الفعلي أن مشاركته في نشاطات تأهيلية في داخل السجن من شأنها أن تكون له وسيلة مساعِدة عندما تحين اللحظة التي يستطيع فيها التوجه إلى "لجنة تسريح السجناء" لطلب خصم ثُلث مدة محكوميته والإفراج عنه بعد قضاء ثلثيّ هذه المدة. ذلك أن المشاركة في تلك النشاطات في داخل السجن هي شرط مسبق مركزي للتسريح المبكر. يقول أحد السجناء السابقين، ضمن تحقيق "شومريم": "شاركتُ في مجموعة علاجية كان من المخطط لها عقد عشرة لقاءات، لكن أسباباً تقنية خاصة بالمرشدة المسؤولة عن المجموعة أدت إلى فض هذه المجموعة بعد اللقاء الثامن وعدم استكمال جميع اللقاءات المقررة سلفاً". ويضيف: "منذ لحظة عدم استكمال جميع اللقاءات، أصبحتُ في تعريفهم سجيناً لم يمرّ بعملية إعادة تأهيل في داخل السجن، بغض النظر عن حقيقة اعترافي بالمخالفة ومشاركتي في اللقاءات بإرادتي الحُرة". فطبقاً للمعايير الرسمية التي تعتمدها "سلطة إعادة تأهيل الأسرى"، "حقيقة أنني لم أستكمل جميع اللقاءات التي تشملها الدورة العلاجية، أٌعتَبَر سجيناً غير متأهل في السجن، الأمر الذي يعني عدم استحقاقي الانضمام إلى برنامجهم التأهيليّ".

تنبغي الإشارة هنا إلى حقيقة أن الانضمام إلى برنامج تأهيلي ضمن "سلطة تأهيل السجناء" يشكل، في أحيان كثيرة، بارقة الأمل الوحيدة في أن يحظى السجين بحريته المبكرة، أي قبل موعد انتهاء فترة محكوميته. يُعرض مثل هذا البرنامج أمام "لجنة تسريح السجناء" ويشكل أحد الاعتبارات والمقوّمات الأساسية في قرارها النهائي بشأن قدرة السجين على الخروج المبكر من السجن والعودة إلى أحضان المجتمع ليبدأ مسيرة إعادة بناء حياته من جديد. أما الذين لا ينجحون في اجتياز هذه العقبة نحو فتح الباب والانطلاق إلى الحرية من جديد، فيضطرون مرغمين إلى اللجوء إلى برامج تأهيلية خاصة تعدّها وتنفّذها شركات تجارية خاصة، بدلاً من "سلطة تأهيل السجناء" الحكومية التي تعمل بميزانيات حكومية، الأمر الذي يكلفهم مبالغ طائلة، نسبياً، تصل إلى آلاف الشواكل للبرنامج الواحد. وهذا خيار لا يستطيع التفكير به ثم إخراجه إلى حيز التنفيذ، بطبيعة الحال، سوى السجناء المقتدرين مالياً والذين يعادلون في المجمل ما نسبته 6 بالمئة فقط من مجموع السجناء الإسرائيليين المحكومين، أي بضع مئات قليلة فقط، بينما يبقى الجزء الأكبر منهم خارج إطار هذا المسار، برغم استحقاقهم المثول أمام "لجنة تسريح السجناء"، لكن السبب هو عدم قبولهم واستيعابهم في البرامج التأهيلية التي تنظمها، ويفترض أن تنظمها، "سلطة تأهيل السجناء". وهؤلاء الأخيرون يشكلون ـ حسب تقرير مراقب الدولة الشامل من أيار الأخير ـ أكثر من 70 بالمئة من السجناء الإسرائيليين، إذ لا يتم تسريحهم من السجون إلا بعد انتهاء فترات محكوميتهم بالكامل.

يعود هؤلاء السجناء، الذين يشكلون 70 بالمئة من مجموع السجناء الإسرائيليين، إلى المجتمع إذاً بدون مشاركتهم في أي دورات أو أطر علاجية تأهيلية في داخل السجن وبدون حصولهم على أي مرافقة تأهيلية في خارج السجن، بعد مغادرتهم أسواره. وفي هذا السياق، تفيد المعطيات الواردة في تقرير مراقب الدولة المذكور بأن عدد السجناء الذين فازوا بالإفراج المبكر، من خلال "لجنة تسريح السجناء"، في العام 2020 بلغ 752 سجيناً (مقابل: 888 سجيناً في العام 2019، 1425 سجيناً في العام 2018، 1351 سجيناً في العام 2017 و1643 سجيناً في العام 2016)، بينما أفرج عن 4419 سجيناً بعد أن أنهوا فترات محكوميتهم كاملة (مقابل 5229 سجيناً في العام 2019، 5744 سجيناً في العام 2018، 4876 سجيناً في العام 2017 و5036 سجيناً في العام 2016).

لكنّ هذه المسألة، بحسب ما ينوه تحقيق "شومريم"، تحتّم النظر إليها ومعالجتها في سياق اجتماعي ـ جماهيري عام: صحيح أن السجناء ليسوا "ملائكة" بالطبع، وإنما هم مُدانون بقرارات قضائية وثمة بينهم مجرمون حقيقيون وخطيرون أيضاً، إلا أن وضعهم خلف القضبان بعيدٌ جداً عن أن يكون نهاية المطاف، بل إن مهمة إعادة تأهيلهم ودعمهم لتمكينهم من العودة والانخراط مجدداً في المجتمع وأنشطته المختلفة ينبغي أن تكون مهمة المجتمع بأسره والجمهور عامة. فمن الواضح تماماً أنّ في ذلك، بالطبع، فائدة للمجتمع كله، للجمهور بأكمله وللدولة أيضاً ـ أن يعود هؤلاء الأشخاص، على اختلاف شخصياتهم، توجهاتهم ومستوياتهم، إلى المجتمع وقد حصلوا على العلاجات اللازمة والمناسبة، نالوا التأهيل الملائم وأصبحوا أكثر قدرة على الانخراط في حياة المجتمع كقوة فاعلة ومُنتجة، أقل ميلاً واستعداداً لارتكاب مخالفات قانونية في المستقبل، وهو ما سيقلل أيضاً من نسبة معاودة الجريمة، الأمر الذي سيساهم في تحصين المجتمع وجعله أكثر أماناً. كذلك على المستوى الاقتصادي، تشكل إعادة تأهيل السجناء مصلحة اجتماعية عامة من الدرجة الأولى، بالنظر خصوصاً إلى ما تفرضه الجريمة المتكررة من تكاليف باهظة على الميزانية العامة للدولة، ثم على المجتمع وأفراده بالتالي، سواء في تمويل الشرطة أو النيابة العامة أو المحاكم، ثم السجون، وهي تكاليف تفوق تكاليف إعادة التأهيل بكثير جداً.

فبينما تبلغ التكلفة السنوية لسجن كل سجين ـ حسب معطيات تقرير مراقب الدولة المشار إليه آنفاً ـ مئتين وستة وعشرين ألفاً ومئتين وسبعين شيكلاً، بما فيها تكلفة طواقم "سلطة السجون"، لا تزيد التكلفة السنوية لبرنامج إعادة التأهيل للسجين الواحد ضمن "سلطة تأهيل السجناء" عن ثمانية وعشرين ألف شيكل، بينما تبلغ التكلفة السنوية لعلاج السجين المفرَج عنه في أطر مجتمعية ستة آلاف وستمئة شيكل والتكلفة السنوية لمعالجة سجين مفرَج عنه في إطار نُزُل خاص، بما فيها تكلفة طاقم النُزُل، خمسة وثلاثين ألفاً ومئتين وثلاثة شواكل.

غير أن العنصر الأهمّ في الوضع كما هو عليه اليوم، والذي يفوق الجانب الاقتصادي المباشر أهميةً بكثير، هو واقع الأثر التدميري المترتب على شحّ برامج تأهيل السجناء، من جهة، ومن جهة أخرى إغلاق باب الانخراط فيها ـ عند توفرها ـ أمام الأغلبية الساحقة منهم؛ هذا الأثر المتمثل في حقيقة أن نحو 40 بالمئة من السجناء المُفرَج عنهم يعودون إلى السجون في غضون مدة أقصاها خمس سنوات، جراء ارتكابهم مخالفات أخرى متكررة. وحسبما يستفاد من تقرير مراقب الدولة الأخير، من أيار الماضي، فإن نسبة السجناء الذين يعودون إلى السجن في غضون خمس سنوات من يوم الإفراج عنهم تتوزع على النحو التالي: 23.5 بالمئة ممن قضوا في السجن بين 5 و10 سنوات، 42.5 بالمئة ممن قضوا في السجن بين 3 و5 سنوات، 49.5 بالمئة ممن قضوا في السجن بين سنتين وثلاث سنوات و51 بالمئة ممن قضوا في السجن بين سنة واحدة وسنتين. أما معدل نسبة السجناء الذين يعودون إلى السجن من بين من قضوا فيه بين شهر واحد واثنيّ عشر شهراً فهو 42 بالمئة.

في المداولات التي جرت في مكتب المدير العام لوزارة الأمن الداخلي حول هذا الموضوع في العام 2015، وُضعت تقديرات أشارت إلى أن تقليص عدد السجناء الذين يعودون إلى السجن، وفق ما هو مُبيَّن أعلاه، ولو بنسبة واحد بالمئة فقط، من شأنه أن يؤدي إلى توفير ما يزيد عن 90 مليون شيكل في السنة من الميزانية العامة التي تُصرَف على السجناء في إسرائيل. وهي حقيقة نوه تقرير مراقب الدولة المذكور إلى "تقصير وإهمال كبيرين في مجرد الانتباه إليها وفي محاولة العمل من أجل معالجتها".

 

المصطلحات المستخدمة:

الكنيست, مراقب الدولة

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات