المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
التمييز ضد الفلسطينيين في إسرائيل: مسألة كولونيالية وإثنية.  (أ.ف.ب)
التمييز ضد الفلسطينيين في إسرائيل: مسألة كولونيالية وإثنية. (أ.ف.ب)

تأسست مدينة "نوف هجليل" في العام 1957 ["كريات نتسيرت" ثمّ "نتسيرت عيليت" قبل الاتفاق على الاسم الحالي] وفقاً لخطّة أمنيّة أعدّها رئيس الحكومة الاسرائيليّة السابق، دافيد بن غوريون، وأهمّ بنودها "تهويد الجليل والناصرة"، التي أعلن عنها في العام 1953، عبرَ مصادرةِ الأراضي من مدينة الناصرة، والقرى المجاورة: المشهد وإكسال والرينة وعين ماهل من خلال قانون "مصادرة الأرض لأغراض عامّة". ورافق المصادرة احتجاج عربي عارم وقتها، ووصلت القضيّة إلى المحكمة العليا الاسرائيليّة، التي أتاحت عمليّة المصادرة والاستيطان، وفقاً للمصلحةِ العامّة الصهيونيّة التي تقتضي أن "استيعاب المستوطنين الجُدد" هي مصلحة عامّة، تتيح مصادرة الأرض، بشكلٍ قانونيّ.

كان الهدف الأساس من وراء تشييد المدينة تحويلها إلى مركز يهوديّ في منطقةِ الجليل، تتغلّب أهميّته السياسيّة والاقتصاديّة على مدينة الناصرة. بالتالي، إلحاق القرى العربيّة والناصرة بالمركزِ الجديد بعدما كانت الأخيرة هي مركز تاريخيّ للمنطقة. وجرى ذلك من خلال نقل كلّ دوائر الدولة الرسميّة إلى المستوطنة الجديدة، وبناء مجمعات صناعيّة وتجاريّة، لتحقيق غرض السيادة اليهوديّة الاسرائيليّة بشكلٍ مكثّف في الجليل.

نجد في ظلّ هذهِ الأهداف أن التغيّرات الحاصلة مع مرور الزمن، وقدوم آلاف الفلسطينيين للعيش داخل المدينة (بسببِ الضائقة السكنيّة عند المجتمع العربيّ الفلسطينيّ)، وضعا تحديّات أمام هدف "تهويد الجليل والناصرة". بالتالي فالموقف الثابت بعدمِ إتاحة مدرسة عربيّة، كما حدث مؤخراً، مرتبط بعدم إعطاء شرعيّة لهذهِ التحوّلات، وخصوصاً في ظلّ تكرار هذهِ الحادثة مع مدن أخرى في البلاد، "حريش" مثالاً.

خلفيّة: طلب إقامة مدرسة عربيّة.. والبلديّة ترفض

في بداية العام 2013 تواصل أولياء أمور الطلاب مع رئيس البلدية آنذاك، شمعون غابسو، بشأن طلبِ إقامة مدرسة عربيّة. وبدلاً من الإشارة إلى طلب سكان مدينته تلقي التعليم بلغتهم، أجاب بأنه "طلب سياسي قومي استفزازي"، وأن إنشاء مؤسسات تعليمية عربية في "نتسيرت عيليت" يعني "تنازلا نهائيا عن طابع المدينة كمدينة يهودية". وفي هذا الصدد، كتب الدكتور رائد غطّاس [وهو أحد السكّان والمطالبين بإقامة مدرسة عربيّة] مقالةً بعنوان "مدرسة عربية في نتسيرت عيليت – حق وضرورة"، وذلك في العام 2012، أشار فيها إلى أن العنصريّة هي العائق أمام بناء مدرسة عربيّة، قائلاً "لماذا تعارض الأوساط المتنفذة في إدارة بلدية نتسيرت عيليت بإصرار وعناد فريدين إقامة المدرسة العربية في المدينة؟ هم يعتقدون أن نتسيرت عيليت هي مدينة يهودية ومن المفضّل ألا يقطنها عرب بتاتاً ولكن وبما أن هنالك حقيقة واقعة وهي وجود سكان عرب في المدينة فليبقوا حسب منطقهم دون مدرسة ودون مراكز تعليمية وتربوية". وأضاف: "هم يدركون تماماً أن إقامة المدرسة في نتسيرت عيليت ستؤدي إلى ترسيخ ارتباطنا وتجذّرنا في هذه المدينة. فهي تعبّر عن الارتباط بالمكان. وهم يدركون أن هذه المدرسة ستساهم في تشكيل مجتمع عربي في المدينة، ففي المدرسة يتم التعارف والتواصل بين التلاميذ ومن ثم التعارف والتواصل بين الأهل حيث تقام لجان أولياء أمور ونشاطات تربوية عديدة للتلاميذ والأهل، وكل هذا يساهم في تنظيم مجتمع عربي على أساس الانتماء القومي والهوية الجمعية. هم يدركون جيدا كل هذا، لذلك نراهم يعارضون بشراسة إقامة هذه المدرسة". وهذا يبيّن أن الرفض جاء على أساس إعاقة تشكّل مجتمع عربيّ داخل المدينة اليهوديّة، التي أقيمت على أراضٍ عربيّة كما ذكرنا آنفاً، ومع تشبّث البلديّة في الرفض حاول الأهالي التوجّه إلى المحكمة لعلّها تُنصفهم في هذهِ المسألة تحديداً.

التوجّه إلى المحكمة.. وإجماع على الرفض

قدم 32 أباً وطفلاً عربياً فلسطينياً من القاطنين في "نوف هجليل"، جنباً إلى جنب مع "جمعية حقوق المواطن في اسرائيل" و"مركز مساواة"، التماساً إلى محكمة الناصرة الإدارية لإنشاء أول مدرسة عربية حكومية في حزيران 2016. ووفقاً للالتماس تضم "نوف هجليل" حوالي 2600 طالب عربي، العديد منهم يضطرون للسفر يومياً إلى الناصرة والقرى المجاورة للحصول على حق التعليم، بينما يدرس جيرانهم اليهود، في معظمهم، في الأطر التعليمية الحكومية في مدينتهم. وقوبلت محاولة إنشاء مدرسة عربية في المدينة برفضٍ مستمر ومتشدد من قبل بلدية "نوف هجليل"، بدعم من وزارة التربية والتعليم. وكما ذكرنا قال رئيس البلدية السابق شمعون غابسو، وبشكلٍ صريح للغاية، إنه يرفض إنشاء مدرسة عربية حتى لا يضرّ بالجوهر اليهوديّ (أو الشخصيّة اليهوديّة) للمدينة، ويأتي ذلك في السياق الذي تحدّثنا عنهُ أعلاه لإقامةِ المدينة، لتصبح مركزاً يهودياً في سبيل مشروع "تهويد الجليل".

وتحدث الالتماس في العام 2016 بشكلٍ واضح عن العنصريّة التي تُمارس بحقّ أكثر من 20% من سكّان المدينة، وأكثر من ثلث التلاميذ في المدينة، بسبب عدم استجابةِ البلديّة لطلبِ إقامة مدرسةٍ عربيّة، بشكلٍ يتعارض مع حقّ التعليم المجانيّ وتوفير فرص متساوية. وعقب الالتماس، كان من المفترض أن تقدم البلدية ووزارة التربية والتعليم موقفهما مع بداية العام 2017. ولم تعلن وزارة التربية والتعليم عن موقفها إلا في أيار 2017، والذي بموجبه تقدّم مدينة "نوف هجليل" حلاً تعليمياً مناسباً لجميع الطلاب. بالتالي، وبحسب الوزارة، ليست هناك حاجة لإنشاء مدرسة عربية في المدينة، لأن معظم الآباء العرب يريدون لأبنائهم مواصلة الدراسة في أماكن خاصة في الناصرة.

وفقاً لالتماسٍ ثانٍ تقدّم بهِ الأهالي والجمعيّات في تموز 2017، تبعاً لحكم المحكمة في تشرين الأول 2016، نجد الأرقام التالية؛ 4 روضات عربية، ولا توجد مدرسة عربية واحدة. نتيجة لذلك، التحق عدد قليل فقط من التلاميذ العرب بالمدارس اليهوديّة، حيث لغة التدريس هي العبرية، أقل من 1%، أما غالبيّة التلاميذ فيضطرون للدراسة في المؤسسات التعليمية العربية في مدينة الناصرة والقرى المجاورة. وتشير هذهِ الأرقام بوضوح إلى أن نظام التعليم في "نوف هجليل" غير متاح للسكّان العرب، ويحتاج إلى تطوير لملاءمة حاجات السكّان العرب.

وفي إجابةِ المحكمة على الالتماس العام 2017، قالت إنه "بعدَ البحث في طلب إقامة مدرسة عربيّة والحاجات التربويّة، الوزارة قرّرت عدمِ التدّخل في حسابات السلطة المحليّة، طالما لا يوجد مكان للتدخّل، بسبب وجود مؤسسات تربويّة للجميع، حيثُ يدرس فيها تلاميذ عرب ويهود، أمّا بالنسبةِ لمن لا يرغبون بتدريس أبنائهم في المدارس الحكوميّة اليهوديّة داخل المدينة، فيستطيعون إرسالهم إلى مدينة الناصرة". وهذا يعني أن المحكمة ووزارة التربية والتعليم والبلديّة جميعها تتفقّ على أنه لا "يلزم مدرسة عربيّة"، لدواعٍ غالبيّتها تتمحور حولَ "فصل السلطات"، ويُقصد بذلك أن المحكمة لن تتدّخل في قرار السلطة المحليّة، حيثُ أن رفض إقامة مدرسة للتدريس باللغةِ العربيّة لا يحملُ أي أهميّة للتدّخل.

وعُقدت جلسة استماع بشأن الالتماس في 3 نيسان 2019. وفي تاريخ 21 تموز 2019، رفضت المحكمة الالتماس مرةً أخرى، وحكمت بأن "قرارات البلدية بعدم التحرك لإنشاء مدرسة عربية في المدينة و/ أو تقديم حلّ آخر لتوفير تعليم اللغة العربية للأطفال والتلاميذ العرب في المدينة، قرارات معقولة وبالتأكيد ضمن التقدير المهني والإداري للمشاركين". وقد استأنف الملتمسون الحكم أمام المحكمة العليا.

وفي تاريخ 20 نيسان 2021 صدر الحكم في الاستئناف. رفض اثنان من القضاة الثلاثة المطالبة بإلزام البلدية بإنشاء مدرسة عربية حكومية في العام الدراسي المقبل. ومع ذلك، عقّب الحكم على ما أسماه الفشل الخطير لنظام التعليم في "نوف هجليل" الذي يهمل طلابه العرب ويرسلهم إلى جهاز التعليم في الناصرة، وفي رأي الأغلبيّة "هذا الواقع، غير مقبول، ويتطلب من البلدية العمل على تغييره"، حيث أنه يحقّ للتلاميذ والأطفال العرب الدراسة باللغة العربيّة في المدارس اليهوديّة، وعلى البلديّة تحمّل أعباء هذهِ المهمّة.

ولفت مقدّم الالتماس المحامي عوديد فيلر إلى أن القاضية باراك إيرز خلصت إلى قرار وجوب إلزام البلديّة ووزارة التربية والتعليم بأن تقوما بإنشاء مدرسة عربيّة في العام الدراسي المقبل دون تأخير، في حين عارضها القاضيان إيلرون وچروسكوپف وبذلك رُفض الاستئناف. وقبلت القاضية باراك إيرز حجج الأهالي والجمعيّة في الاستئناف. وذكرت أن "المعطيات عن الطلبة العرب سكان المدينة تدل على الحاجة، وأن تصرفات البلدية غير مناسبة. كنا نأمل أن يتم إصدار أمر بإقامة المدرسة الآن، ونأسف لكون المحكمة لم تأمر الطرفين بذلك. ومع هذا، فإن في نص الحكم ما يمهد الطريق لإقامة أول مدرسة عربية حكومية في نوف هجليل مستقبلاً، وسيظل الحق في إقامة مثل هذه المدرسة، كما في كل مدينة مختلطة قائماً".

المطلب ما زال قائماً والنضال مستمرّ

مع الإجماع القانونيّ والسياسيّ على منع إقامة مدرسة عربيّة، يتبيّن أن المسألة لا تقتصر على "مساحة تدريس باللغةِ العربيّة" بل هي أعمق من ذلك وتتعلّق بالطموحات القوميّة العنصريّة للدولة اليهوديّة، حيث أن "نوف هجليل"، كما ذكرنا آنفاً، هي جُزء من طموحٍ وبرنامج وتخطيط استيطاني استعماريّ، تبيّن أنه غير ناجح من ناحية فعلية في ضوء أنه لم يعد بالإمكان الحديث عن "تهويد الجليل"، ناهيك عن أن العرب الفلسطينيين هُم أكثر من ربع سكّان هذهِ المدينة، بالتالي فإن منع المدرسة العربيّة يعبّر عن أحد أسوار العنصريّة.

في هذا الصدد أوضح نائب رئيس بلدية "نوف هجليل"، الدكتور شكري عواودة، أن النضال من أجل إقامة مدرسة عربية في مدينة "نوف هجليل"، مستمر وهو بدأ منذ 15 عاماً ولن يوقفه قرار المحكمة العليا.

وأضاف عواودة: أمامنا الآن إعادة الكرة إلى ملعب البلدية ووزارة التربية والتعليم. وقد اجتمعنا في الأمس مع رئيس البلدية وتم إقرار أن هناك إضاءات جيدة في القرار بأن البلدية ملزمة بإيجاد حلول، واتفقنا على إخراج الخطة القديمة إلى حيز التنفيذ إذ سنبدأ بمحاولة ترتيب أمورنا نحو السنة التعليمية القادمة أو التي بعدها، لأن هذا المطلب هو مطلب أجيال وليس مطلبا آنيا ليومٍ أو ليومين، وبالتالي أنا أقول وبكل مسؤولية إن الصرح التعليمي وحق التعليم للمواطن العربي هو حق أساس حتى لو صدر 100 قرار عن محكمة العدل العليا، ولن نرضى إلا بأن يكون هناك صرح تعليمي لهؤلاء الطلاب.

المصطلحات المستخدمة:

رئيس الحكومة, تهويد الجليل, تهويد, باراك

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات