المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
نتنياهو في زيارة انتخابية لبيت شَعر قرب مدينة رهط.
نتنياهو في زيارة انتخابية لبيت شَعر قرب مدينة رهط.

 للوهلة الأولى، قد تبدو الحملة الانتخابية المركزة التي يوجهها بنيامين نتنياهو ومن بعده بقية أحزاب اليمين واليسار الإسرائيلية على حد سواء، للمجتمع العربي في الداخل، ساذجة وعديمة الجدوى من حيث مردودها الانتخابي وحجم الأصوات الذي يمكن أن تعود به على هذه الأحزاب، إلا أنها في جوهرها، وإلى جانب المكاسب الانتخابية الحسابية والآنية، تعكس توجها مختلفا، ووعيا متزايدا بالدور والمنحى الآخذ في الاستقلال والندية الذي ينحو إليه المجتمع العربي، والذي بلغ ذروته في الحملة الانتخابية السابقة وقدرة القائمة المشتركة على "كنس" الأحزاب الصهيونية من صندوق الاقتراع في المجتمع العربي من جهة، ورفع نسبة التصويت لصالح القائمة المشتركة، وتمليكها قوة سياسية غير مسبوقة داخل الكنيست جعلتها القوة الثالثة من حيث الحجم، وهو ما جعلها تشكل حجر عثرة أساسيا، ورقما صعبا، أمام مساعي نتنياهو للعودة إلى الحكم، وتشكيل حكومة تنقذ حكم اليمين وتبعد عنه شبح السجن.

"الاحتضان" اللافت للمجتمع العربي، والسعي المحموم من قبل الأحزاب الصهيونية للتسابق على الصوت العربي، والذي أطلق شرارته الأولى رئيس الحكومة نتنياهو مبكرا وخلال الأسبوع الأول بعد حل الكنيست، لم يكن وليد اللحظة ولا نشأ في الفراغ، بل تضافرت عوامل عدة داخلية وخارجية هيأت له وجعلته ممكنا، أو على الأقل مهمة جديرة بأن تنجز من قبل نتنياهو وأحزاب اليمين الإسرائيلية.

"العربي الجيد"

تساءل نتنياهو بدهاء أثناء زيارته لأم الفحم، والتي أشرف فيها على حملة التطعيم ضد كورونا للمواطن رقم مليون، والذي كان (بالصدفة البحتة) عربيا، وبالصدفة أيضا كان ذا ماض جنائي، وممن أمضوا فترة طويلة في السجن: "لماذا لا يحتضن العربي (الفلسطيني) في الداخل المواطن الإسرائيلي كما يفعل ذلك العربي في دبي؟".

تساؤل نتنياهو ينطوي على الإجابة والمغزى في الوقت ذاته، حيث أن توقيع اتفاق التطبيع الذي قاده شخصيا مع الإمارات، وثلاث دول عربية أخرى، فتح شهيته على إعادة إحياء مفهوم "العربي الجيد" الذي يقبل بإسرائيل كما هي، بل وينبهر بها، ويتخلى عن تحفظاته تجاه سياساتها العنصرية وطبيعتها اليهودية واحتلالها للأراضي الفلسطينية وقوانينها التفضيلية لليهود، مقابل مكاسب ومنافع فردية.

لا يستوعب عقل نتنياهو اللاهث خلف السلطة، والمشبع بالنظرة الاستعلائية للعربي، أن العرب يمكن أن يستمروا في شق طريق مستقل وندّي أمام الإغراءات التي يقدمها لهم وتقدمها لهم دولته، وأنه يمكنه من خلال دعاية انتخابية مركزة ومكثفة، ووعود مكررة لا ينوي للحظة تنفيذها، أو من خلال بث صوره الكاريكاتورية وهو يشرب القهوة في بيت شعر بدوي قرب راهط، وأخذ بعض صور (السلفي) مع المواطنات والمواطنين العرب، أو عبر اجتماعات (زووم) مع رؤساء سلطات محلية عرب ممن يحسبون أنفسهم على الليكود، أن يخرج من تحت كم قميصه السحري، العربي "الجيد" الذي يبحث عن المتعة، وأقصى طموح لديه أن يستثمر، أو أن يسافر للسياحة في البلدان العربية التي "فتحها" نتنياهو أمامه، عربي يقبل بالمرتبة الثانية أو الثالثة في دولة اليهود صاحبة قانون القومية، ولا يجد أي رابط يربطه بما يحدث مع أشقائه خلف الخط الأخضر.

وعلى الرغم من أن نتنياهو محترف في الحملات الانتخابية، واستطاع خلال أربع جولات انتخابية أن يحافظ على تفوقه وقدرته على التحكم بجدول أعمال الانتخابات السياسي والإعلامي من دون منافس، وكونه وفق ما وصفه به مستشاره السابق يوسي ليفي في إحدى مقابلاته مع صحيفة "معاريف"، "لا يعرف الخطوط الحمر، أو الحواجز، ومستعد لفعل أي شيء من أجل الفوز" إلا أن قدرته على قطع هذا الشوط والتجرؤ على الذهاب بهذه الثقة إلى المجتمع العربي، تحاول الاستفادة من اتفاقات التطبيع التي يؤكد توقيعها بمعزل عن حل القضية الفلسطينية، ومن شقّ القائمة المشتركة على خلفية النقاش حول ضرورة انتهاج خطاب متوازن حيال كل الأحزاب الصهيونية والدعوة لعدم اتخاذ موقف مسبق ضد نتنياهو، وإعفائه من وزر الحالة التي وصلت اليها القضية الفلسطينية، أو الجماهير العربية في الداخل والتي تغرق في موجة عنف منظم ودموي، وإعطائه فرصة أسوة ببقية أحزاب اليسار و"استغلاله" أو الموافقة على مبدأ الاستغلال المتبادل، وهو ما خلق الأرضية الخصبة أمام نتنياهو والأحزاب الصهيونية لاختراق المجتمع العربي.

اكتشاف الصوت العربي

عندما وصف نتنياهو العرب بأنهم "يهرعون" إلى صناديق الاقتراع، وحاول نزع الشرعية عن صوتهم الانتخابي، اكتشف أن تكتيكه قاد إلى نتائج عكسية وأن دعوته تلك وحالة العداء والتشكيك بشرعيتهم أدت إلى مضاعفة قوتهم وتوحيدهم، وشكلت مادة جيدة لدى قادة الجمهور العربي من أجل تحشيد الناخبين وجذبهم إلى التصويت لهم بكثافة، واستثارة مشاعرهم نحو الوحدة وتحدي محاولات تهميشهم وإلقاء أصواتهم في سلة المهملات.

اكتشاف نتنياهو لفشل تكتيكه، جعله "يكتشف بشكل أوضح إلى أي درجة العربي جيد"، وفق الكاتب إيتاي لندسبورغ نابو والذي اعتبر أن أزمة كورونا والحالة الاقتصادية الرثة لدى الفلسطينيين في الداخل طورت مشاعر "الحب" من قبل الليكود تجاه العرب.

مشاعر "الحب" هذه وصفتها صحيفة "معاريف" بأنها السبب وراء إطلاق الليكود "لأكبر حملة غزل في الوسط العربي" والتي ترمي إلى حصد مقعدين على الأقل على حساب أحزاب اليسار "التي تتقن الشعارات" لصالح نتنياهو الذي "يأتي وبيده حقائق مثبته في اللقاحات واتفاقيات السلام وخطط مواجهة الجريمة المنظمة".

لا يريد نتنياهو أن يشكل حكومة تستند إلى الصوت العربي، بل الوصول إلى القوة الكامنة لدى الناخب العربي، والذي تشير الاستطلاعات التي أجراها يوسف مقلدة ونشرتها القناة 13 إلى أن هناك ما بين 1.6 إلى 2.1 بالمئة من الجمهور العربي يمكن أن يصوت لليكود. القناة قالت إن النائب منصور عباس فتح الباب أمام الليكود ونتنياهو في الوسط العربي، سواء في خطابه الذي يتناغم مع طرح الأحزاب الصهيونية في كون الصوت العربي لا يساوي أي وزن سياسي من موقع المعارضة والمتفرج لعدم انخراطه في اللعبة السياسية، أو بشقه للقائمة المشتركة ودخوله للانتخابات في قائمة مستقلة.

هذه القوة الانتخابية الكامنة في الوسط العربي، والتي استطاع نتنياهو بغريزته السياسية تمييزها، وخلق الأرضية الصالحة لاستثمارها والانقضاض عليها، أعطت ما يشبه الضوء الأخضر لبقية الأحزاب الصهيونية لتجريب حظها وأخذ فرصتها، فبعد نتنياهو جاء جدعون ساعر، منافسه من اليمين والمنشق عن حزبه، الذي وضع نصب عينيه التكفل بمهمة إسقاطه، وأجرى جولة في المجتمع العربي واجتمع برؤساء سلطات محلية، ليتبعه حزب "يمينا" الذي يرأسه نفتالي بينيت والذي ذهب أبعد من ذلك، واقام مركزا انتخابيا خاصا به في البلدات العربية، وبذلك التم شمل الأحزاب الصهيونية كافة في المجتمع العربي الذي يعاد اكتشافه من جديد.

نجاح أم فشل؟

بغض النظر عن حجم الأصوات التي سيجنيها نتنياهو وبقية الأحزاب الصهيونية من المجتمع العربي، وإن كان سيستطيع تحقيق الهدف الذي حدده بالحصول على مقعدين لليكود يضمنان له الحكم من أصوات العرب، فإن ما حدث حتى الآن هو إضعاف القائمة المشتركة من خلال شقها، ما سينعكس حتما على نسبة التصويت والإقبال على صناديق الاقتراع.

والقائمة المشتركة التي فشلت في الحفاظ على قوتها وتماسكها، وصون القيمة الأساسية التي جعلت الجمهور العربي يلتف حولها وهي وحدتها (بسبب انشقاق القائمة العربية الموحدة)، ستضطر إلى استنزاف جهدها ودعايتها من أجل رفع نسبة التصويت، وأن يكون هذا التصويت لها هي وليس للأحزاب الصهيونية، وهي قفزة كبيرة إلى الخلف مقارنة بالجولة السابقة من الانتخابات، وبمثابة نجاح أولي لنتنياهو.

كما أن نجاح المشتركة في المهمة الأولى برفع نسبة التصويت لن يضمن لها أن تعود إلى قوتها السابقة، وفي حال فوز القائمتين (في أحسن الأحوال) لن يعطيها ذات القوة في التأثير على تشكيلة الحكومة، أو أن تكون قوة ثالثة مانعة على ضوء خطاب منصور عباس وتوجهاته، وحالة الغزل بينه وبين نتنياهو، وهو أمر تروج له أحزاب اليمين، وتترجمه على شكل خطاب يبث شعور اللا جدوى من التصويت لقائمة (تجلس على مقعد الاحتياط) وضرورة الاستثمار انتخابيا في احزاب منخرطة في اللعبة وقادرة على تقديم "إنجازات" أكبر على المستوى الحياتي.

لا أحد يضمن أن لا يكون لهذه الأجواء والاحتضان تأثير على مزاج الناخب العربي، والحافز لديه للتصويت لقائمة عربية فقط، أو أن يخرج إلى التصويت، أو أن لا يصوت لأحزاب صهيونية، وهذا هو جوهر ما أراده نتنياهو من خلال حملته المتواصلة والتي ستتكثف حتى يوم الانتخابات، خاصة وأن السباق على الأصوات في الوسط اليهودي شبه محسوم، ولا يشكل حلا لمعضلة حالة التساوي بين المعسكرين.

النجاح أعلاه قد يترجم انتخابيا بفوز نتنياهو، أو قدرة معسكر "لا نتنياهو" على تشكيل حكومة، إلا أنه لا يضمن إعادة خلق عربي "جيد" مع أنه أحدث تصدعا في قوة ووحدة خطاب الحقوق الجماعية غير المشروطة وحالة الندية، التي تتنامى في المجتمع العربي لدى الأقلية الأصلية من الفلسطينيين، سواء من يشاركون أو لا يشاركون في الانتخابات للكنيست، كما أنه حرف النقاش من كونه موجها تجاه جهة معادية واحدة هي المؤسسة الحاكمة بكافة تلاوينها، إلى كونه جدلا داخليا منقسما على ذاته بين نهجين وتيارين، وهو ما جرى التعبير عنه مثلا على خلفية زيارة نتنياهو لتجمع بدوي قرب راهط والتقاط صور له وهو يحتسي القهوة العربية ويصبها لمضيفيه، والتي اعتبرها أنصار تيار القائمة الموحدة إنجازا صافيا لهذا النهج تحقق خلال سبعين يوما بـ"إجبار نتنياهو على صب القهوة للعرب، بينما طرح الغير أجبر العرب على صب القهوة لنتنياهو"، وتحول هذه الصفحة إلى واحدة من حلبات السجال بين التيارين وانتقال هذا الجدل إلى الشارع وقيام البعض بطرد النائب عباس من مظاهرة أم الفحم، وهذه المظاهرة وما تبعها من مظاهرات أخرى يمكن اعتبارها واحدة من مؤشرات الوعي العميق والفطري بخطورة التوجه اليميني وعدم المراهنة على الوعود الانتخابية وإحدى علامات فشل نتنياهو.

صحيفة "هآرتس" شككت مبكرا ومن خلال تحليل لجاكي خوري في 4-1-2021 في قدرة نتنياهو على كسب الصوت العربي، أو أن ينجح في إزالة الشكوك العميقة تجاهه وتجاه المؤسسة حتى في ظل الحالة الداخلية التي تعيشها والتطبيع مع دول عربية.

وخلاصة القول، إن متابعة الحملات الانتخابية للأحزاب الصهيونية وتسابقها على الصوت العربي، وإن كانت تظهر على أنها تسابق انتخابي، إلا أنها في جوهرها عبارة عن محاولة لإعادة ترويض الفلسطيني العربي، ولجم حالة الندية التي يبديها والقوة السياسية التي يراكمها والشعارات الوطنية ومركبات الهوية التي يعبر عنها، من خلال إضعاف القائمة المشتركة، واختراق صندوق الانتخاب العربي ودعم خطاب مطلبي قادر على تحقيق مكسب آني انتخابي. وهو ما يعني أن هذه المعركة الانتخابية قد تكون واحدة من علامات الطريق والمؤشرات على شكل وطبيعة العلاقة المستقبلية بين فلسطينيي الداخل، والمؤسسة الحاكمة المتجهة أكثر وأكثر نحو اليمين ونحو حصر وجودهم وحقوقهم وسقف خطابهم في الشأن اليومي والمعيشي الفردي.

 

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات