المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

الادعاء الأساس لدى كاتب هذا المقال، يونتان هيرشفيلد، وهو قيّم فنّي وكاتب في مجالات فكرية متعلقة أيضاً بالسياسة، أن الأفكار التي نتجت في تاريخ حركات اليسار المختلفة، تخضع لعملية استيلاء عدوانية في جميع أنحاء العالم، وهي تستخدم خارج السياق الذي أفضى إليها ومخصصة للعمل بها كأسلحة لا غير، مضيفاً أن هذا ما يحدث أيضاً في إسرائيل]

موضوع هذا المقال هو سؤال قديم نوعاً ما: كيف تأتي الأفكار وتنتشر بدون بطاقة ضمان؟ كيف يمكن استخدامها خلافا لتعليمات الشركة التي أنتجتها؟ وبالتحديد، كيف يمكن للعديد من الأفكار الفكرية التي تتبع لاجتهاد ونشاط اليسار التقدمي على مدى القرن الماضي أن تجد طريقها إلى استخدام اليمين المحافظ؟ هذا سؤال جاد وفلسفي، لأنه يتعلق بجوهر النص التنويري والفشل البنيوي الداخلي للفكر.

لغرض النقاش، سوف نعرّف اليسار على أنه الرأي الذي يسعى إلى التحرك نحو الحرية والأخوة والمساواة، وفقاً لتقاليد الثورة الفرنسية، وفي حالته المتطرّفة هناك الأناركية والشيوعية الدولية؛ بينما من ناحية أخرى، فإن اليمين هو الحركات التي تسعى إلى الحفاظ على شكل الملكية وتكريس النظام الاجتماعي بموجب تقاليد الملوك القوميين خلال تلك الثورة، وفي أطرافها المغالية هناك الفاشية والنازية.

ولأن النسختين اليسرى واليمنى اللتين نواجههما اليوم معتدلتان جداً – فمن اليسار مجتمع أكثر انفتاحاً بقليل، أكثر علمانية وهو اشتراكي- ديمقراطي قليلاً، بينما من اليمين مجتمع مغلق قليلاً مع ميول قومية ودينية ورأسمالية – فإن ما يقف على المحك هنا أقلّ بكثير مما كان سابقاً. فلا الفاشيّة قائمة فعلا من جهة، ولا الشيوعيّة الحقيقيّة موجودة من الجهة الثانية.

ومع ذلك، فيما يلي عدد من الأمثلة. لقد كتب إدوارد سعيد عن النظرة الاستشراقية لدى الرجل الغربي وعن أنه يرى في الشرق غير عقلاني وأنه أنثوي انفعالي، وهكذا يؤكد العقل الغربي بالتالي حق الغرب في الحكم والهيمنة وسلب الشرق. ولكن، بدلاً من أن يقوم النص بعمله المُراد له، فإنه يعمل في خدمة أجندات الاحتلال والسلب من خلال كتّاب مثل أفيشاي بن حاييم. إن الحجّة الأعمق لدى بن حاييم هي أن اليسار الإسرائيلي - "إسرائيل الأولى" بلغته - هو المستعمر الأوروبي الذي وصفه سعيد.

يجلس المنظرون التقدميون ويعملون جاهدين سعياً للخروج من الدولة كمشكِّل للهوية، من ما-قبل- السردية الحداثوية القومجية، وينشئون حركة لسياسات الهوية التي يفترض بها أن تعمل باتجاه الاعتراف بالتنوع وتعزيز المساواة. وفجأة - نجد نفس النظرية التي استخدمتها الوزيرة ميري ريغف (من حزب "الليكود" اليميني). حجة ريغف العميقة هي أن الكونية الصهيونية تأتي على حساب الهوية الشرقية الخاصة، في حين أن الآليات الحكومية والاجتماعية والمعيارية والتشريعية والقضائية كلها آليات تعمل لحل الهوية. وهنا يأتي أيضاً منكرو أزمة المناخ، والناطقون بلسان أباطرة النفط وجماعات الضغط في دهاليز الحكم، ويستخدمون أعمال ثيودور أدورنو في نقد الفكر المنطقي وأعمال ميشيل فوكو في نقد علاقات القوة والمعرفة، لغرض تقويض المنطق العلمي والسماح بسواد الرأسمالية الخنازيرية الانتحارية ("ماذا، ألا تعرف من الذي موّل هذه الأبحاث؟ يقولون للباحث الذي يحذّر").

يستخدم اليمين الأفكار موضعياً وبشكل منفصل عن القيم التي صاغتها

تجدر الإشارة هنا إلى نقطة سامة ومؤلمة بشكل خاص لتوضيح عمق المشكلة: بعد كل شيء، كان الحزب النازي يسمي نفسه الاشتراكي الوطني. لقد استخدم النازيون أنفسهم الفكرة الاشتراكية. لقد رأوا أنفسهم كحزب اشتراكي. فكيف يعقل ذلك؟

حسناً، بادئ ذي بدء، يجب أن نشير إلى قدرة اليمين اللافتة على استخدام الأفكار، بشكل أداتي وموضعي- جراحي، من دون المعرفة التي ترافقها، وبشكل منفصل عن القيم التي يتم نسجها في داخلها. في هذه الحالة، النازية، كانت "الاشتراكية" هي التي تهتم بالحقوق الاجتماعية، ولكن حقوق الألمان الآريين فقط. إن اليمين يقوم عملياً بفصل الاشتراكية عن إنسانيتها الكونية ويجعلها مجرد وسيلة لفرض أهدافه. من الناحية الفكرية، هذا هو بالضبط ما يفعله أفيشاي بن حاييم عندما يستثني المواطنين العرب من "إسرائيل الثانية" الفقيرة والمضطهدة التي يتحدث عنها: اشتراكية - ولكن عنصرية (يجدر التوضيح أنني لا أقارن بن حاييم بالنازية – فهو شخص لطيف ونواياه ليست سيئة، المقارنة هي من الناحية البنيوية- الفلسفية فقط).

من هنا، لدينا ظاهرة ليست عينيّة عابرة أو جاءت نتيجة لتفوّق المحلّل على النص، وإنما شيء يتكرر بشكل منهجي مراراً وتكراراً لمدة قرن من الزمن على الأقل.
يمكن للمرء أن يحدد ثلاثة عوامل رئيسية تفتح الباب على السيطرة العدائية لمثل هذه الأفكار. وهي عوامل داخلية للفكر التنويري تتشابك معاً، وتزداد قوتها كلما ظهرت ثلاثتها معاً.

أوّلا، الأسلوب. من يهمه هذا أصلا، سيُقال للوهلة الأولى؟ فالأسلوب هو الأسلوب. ما هي العلاقة بين النمط الذي تتم فيه كتابة بعض النصوص والطريقة التي يمكن استخدامها بها؟ حسناً، أود أن أحاجج بأن هناك علاقة وثيقة جداً بينهما. الأفكار التي نتحدث عنها هنا نشأت من نصوص مكتوبة بانعدام تام للحذر. غالباً ما تمت كتابتها كإدمان على متعة تعدد المعاني، والحواف المفككة، والصياغات الملتوية، والمقاطع الطويلة الغامضة التي تتخللها لغة سهلة الاقتباس، والمصطلحات الخصبة، واللغة الفريدة، وغيرها من الميزات الأسلوبية للفكر الأوروبي. وكلما كان الأسلوب مقتَحَماً أكثر، زاد استخدامه لمختلف الغايات. هكذا وجدت شخصية الإنسان المتفوّق لدى نيتشه نفسها متورطة في النظرية العنصرية النازية، على الرغم من أن نيتشه كان من أكثر المفكرين المناهضين للقومجية والتعصب الألماني. وبالمثل، وجدت أفكار فوكو نفسها تحمي أتباع معتقدات رفض مبدأ كرويّة الأرض العلمي، والزعم بأنها مسطحة، وكذلك أفكار بودريار جُعل منها مصدر إلهام لمنتجي تلفزيون الواقع. أما الحالة الشهيرة للجنرال شمعون نافيه الموصوف بـ "فيلسوف الجيش الإسرائيلي"، الذي خطط لهجمات عسكرية بروح جيل ديلوز وفليكس غواتري (وفقاً لمقاله "المشي عبر الجدران")، فقد شحذت الحاجة الملحّة للمساعدة والتفكير في آلية دفاع ضرورية تُزرع في النص لمنع تحويله الى قنبلة.

العامل الثاني والأهم هو مناهضة العلم. لا يتسع المجال في هذا المقال لكي نحكم على الحجج الواحدة تلو الأخرى بذاتها؛ ربما أن العلم والتقدم والغرب هي في الحقيقة كل ما كتب جاك دريدا عنه، حيث وضع تفكير الغرب والمركزية الأوروبية أمام المحاكمة وأدانهما. قد يكون جميع المفكرين المذكورين على حق. كل شيء على ما يرام، ولكن من الضروري أن نسأل من تخدم هذه الأجندة؟ والأهم من هو المستفيد؟ إذا كان الغرب الشرير رمزاً للعقلانية التقنية العلمية، فإن إضعافه يتم عبر دعم القوى الدينية والمحافظة. بكل بساطة، يصبح نقد العقل ذخيرة لمن يبغض العقل ونقد التقدم دعم للرجعية. هذا غير قابل للنفي.

إن لب المشكلة يكمن في العامل الثالث وهو التنازل عن الذات الكونية. في خاتمة المطاف، يستند التفكير اليساري على خيانة لفكرة الذات الكونية لدى الثورة الفرنسية. لم يعد هناك الإنسان، الذي يملك حقوقه بشكل طبيعي وفطري، بل نتاجات عمياء لآلات السيطرة والرقابة والعقاب؛ قطع من الخشب التي تتدفق في غمرة تيار القولبة الاجتماعية والوعي الزائف، في متاهة من حقول القوة والترميز. هذا الشكل من التفكير يجعل الإنسان الكوني فائضاً عن الحاجة. والى هذا الفراغ يدخل مستهلك رأس المال، والأكثر من ذلك، مواطن الدولة القومية. المواطن الذي تتعلق حقوقه بآليات الدولة. هذا هو السبب في أن الدولة ورأس المال يحبان سياسات الهوية: فيما يتعلق بالدولة، فإنها تنال إعفاء من الحقوق الطبيعية. من جهة رأس المال، هذا مجرد تحزيز للسوق. إن المشكلة ليست في التفسير، بل في الأفكار نفسها.

كان مفهوم الذات الكونية مريضاً منذ البداية. بالفعل في عصر النهضة، لم يكن يشمل الجميع، كان لا يمكن أن يكون أكثر من رجل أبيض أوروبي. لم يكن موجوداً في كتاب "أنا أفكر إذاً أنا موجود" لدى رينيه ديكارت (الى أية درجة يجب أن يكون الشخص منفصلاً عن ظروف حياة البؤساء المضطهدين حتى يفكر في نفسه بدون جسد وظروف؟)؛ مفهوم الذات الكونية لم يشمل السود والنساء في الثورتين الفرنسية والأميركية. كما أنه كان أعمى مقابل التمييز الضمني المرسّخ في "المفهوم ضمناً" للغة ومعمار وعلم جمال المجتمع. لقد أدرك العديد من المفكرين اليساريين بالفعل مشكلة الكونية واليوتوبيا المتجسدة فيها. لا عجب أنها كانت هدفا مباشرا للهجوم اليساري منذ قرن. ولكن من الناحية العملية، لم يعد هناك موضوع كوني.

فكيف يمكن إعادة تأهيل هذا الموضوع؟ تعتمد الحداثة على تمييز واضح بين الإنسان والطبيعة، بين عالم البناء الاجتماعي والعالم المستقل بمعزل عن الناظر. الحداثة تنتج الإنسان كمعارضة، وبالتالي فهو مقيد اليدين لمشاريع حاسمة وطوباوية. الحداثة متناقضة، لأن زيادة مجال تطبيق المرء يطمس الحدود (وصياغة البشر هي رسم للحدود). لهذا السبب لم نكن حديثين أبداً، ولم تصل الذات الكونية أبداً إلى شكلها النهائي. صحيح، لقد فسدت منذ ولادتها، ولكن عليك أن تعترف أنها تحسن مع مرور الوقت. السؤال هو، لماذا لا ندعها تنمو إلى أقصى إمكاناتها؟ يجب أن نوجه أنفسنا إلى نزعة إنسانية لها موضوع: عالم يأتي كل شيء فيه تحت تعريف الإنسانية. أنا أتحدث عن توسيع "قطع الكعكة" بطريقة تشمل الحيوانات والجماد. ستكون هذه أخلاق يقع كل شيء فيها تحت فئة ذات كونية. لذلك فكل شيء يستحق المحبة والحماية تحت راية الحرية والأخوة والمساواة.

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات