المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

تعريف:
فيما يلي ترجمة لأهم مقاطع دراسة نشرها الباحث الإسرائيلي دان تامير في جريدة "هآرتس" حول قصة أوائل اليهود الفاشست في فلسطين والذين تأثروا إلى حد بعيد بأفكار الفاشية في أوروبا إبان أعوام ما بين الحربين العالميتين وكانوا في معظمهم من "المعسكر التنقيحي" الذي يعتبر من ناحية تاريخية بمثابة الأب الروحي لليمين الإسرائيلي الحالي.

وتامير هو محاضر في قسم السياسة ونظرية الحكم في جامعة بن غوريون في النقب ومعهد "عرافا" للدراسات البيئية. خريج قسم الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية في الجامعة العبرية - القدس. تشمل اهتماماته البحثية الفاشية والحركات اليمينية المتطرفة، ودور البيئة في النزاعات العنيفة. وعمل في السابق كمراسل ومحرر للشؤون الخارجية في "هآرتس".

سيطر مزيج من الحيرة والرعب على الكثيرين في إسرائيل وفي جميع أنحاء العالم خلال الحملة الانتخابية قبل الأخيرة، أمام شريط فيديو دعائي عرضت فيه وزيرة العدل التابعة لدولة إسرائيل (أييلت شاكيد) نفسها مع قارورة عطر تحمل علامة أيديولوجية مميزة. كانت الفكرة محببة بشكل عام، والرسالة واضحة: ما يرى فيه خصومها كرائحة تحيط بها، هو ليس فاشية، بل حكم سليم وحكومة ثابتة. الفيديو، كما هو معروف، لم ينقذ حملة دعاية وزيرة العدل، التي لم يتجاوز حزبها نسبة الحسم (المقصود خلال انتخابات نيسان 2019). ومع ذلك، أثار مرة أخرى العديد من الأسئلة ذات الشأن التاريخي والمعاصر. ما هي رائحة الفاشية؟ هل من الممكن شم رائحة الفاشية أصلا؟ هل سبق أن كانت مرة فاشية في إسرائيل؟ وإذا كان الأمر كذلك هل يمكن أن تعود اليوم؟.

يوجد لدى اليسار الشيوعي ميل للعثور على الفاشية في أي مظهر من مظاهر القومية أو، على الأقل، النظر إلى الفاشية على أنها صورة متطرفة (وحتمية، وفقا لهذا المنهج) للرأسمالية الحديثة. من ناحية أخرى، في الأوساط اليمينية المثابرة، فإن "الفاشية" هي لعنة يجب تجنبها، نوع من الشبهة المستمرة التي ينبغي التخلص منها؛ وإعلان العطور المشار إليه هو مثال على ذلك.

ولكن ما هي الفاشية؟ ما الذي يميزها وبماذا تختلف عن تيارات سياسية أخرى في اليمين؟

في العام 2004، عدّد روبرت باكستون، في كتابه "تشريح الفاشية"، سبع خصائص قد تحدد جميعها ملامح شخصية الفاشية كأيديولوجية وكممارسة سياسية (لقد ترجمت الكتاب إلى العبرية، ونشر في عام 2009 عن دار "عليات غاغ"). هذه الخصائص هي: الثقة بسمو المجموعة - الوطنية والإثنية – على كل حق للفرد وإخضاع الفرد لها؛ الاعتقاد بأن المجموعة المعنية هي ضحية لمجموعات أخرى وبالتالي لديها مبرر لاتخاذ أي إجراء ضد أعدائها (داخليين أو خارجيين، حقيقيين أو متخيلين)؛ الخوف من تعرض المجموعة للإيذاء بسبب نزعات ليبرالية أو تأثيرات "أجنبية" من خارجها؛ الحاجة إلى تكتّل وثيق لمجتمع قومي أكثر "نقاء"، سواء بالرضى أو بالعنف؛ التمسك بحق المجموعة في السيطرة على الآخرين دون أية قيود بشرية، وهو حق يُمنح للمجموعة بسبب تفردها أو مواهبها؛ شعور بأزمة خطيرة لا يمكن لأي حل تقليدي توفير إجابة عليها؛ الحاجة إلى سلطة القائد الواحد الوحيد - وأخيراً، إطاعة القائد انطلاقا من الإيمان بأن لديه رؤى أو قدرات خارقة للطبيعة. ميزة أخرى يجب إضافتها هي المقاومة القوية للاشتراكية بجميع أشكالها، وهي ميزة كانت واضحة في ممارسة الحركات الفاشية التي عملت في النصف الأول من القرن العشرين، حتى لو لم يكن ذلك في أيديولوجيتها المعلنة.

إن أكثر التماثلات مع الفاشية شيوعاً هي الأنظمة التي كان يترأسها بنيتو موسوليني وأدولف هتلر: عصابات "السرب" أو فرق الصاعقة المنفلتة بقمصان سوداء أو بنيّة اللون، ومسيرات جماهيرية حاشدة، وإخضاع مؤسسات إعلامية مستقلة للسلطة، والقضاء العملي على الهيئة التشريعية، والإطاحة بالنظام القضائي بأكمله، وتنظيم الاقتصاد على نحو منسجم، إذا جاز التعبير، والسعي وراء أعداء حقيقيين أو متخيلين من الداخل، ومعسكرات اعتقال، وإعدامات جماعية وتعبئة وتجنيد الأمة بأكملها، وأخيراً الحرب الخارجية التي تؤدي إلى دمار كامل. وبالفعل، فقد كان حزب موسوليني الفاشي وحزب هتلر الاشتراكي- القومي المنظمتين الفاشيتين الوحيدتين اللتين نجحتا بالتبلور، وتحشيد جمهور مؤيد جدي لهما وفرض سيطرة سياسية، والوصول إلى السلطة، وإنشاء نظام جديد، وفي النهاية قيادة بلديهم– اللذين قاما بقضم آلياتهما وأضرا بها من الداخل – وصولا الى حرب فظيعة (كانت ألمانيا وإيطاليا هما الدولتان الوحيدتان اللتان وصلت فيهما مثل هذه الحركات إلى السلطة بشكل مستقل؛ فحكومات الدُمى التي أنشأها المحتلون في أوروبا، بقيت على قيد الحياة فقط على حراب القوات المسلحة الإيطالية والألمانية، وانهارت فور طرد تلك القوات).

ومع ذلك، في الفترة ما بين الحربين العالميتين، تم إنشاء وتشغيل العديد من المجموعات والحركات الأخرى (بشكل أساسي في أوروبا ولكن أيضاً في الخارج) وفقاً للنموذج الفاشي - المجموعات التي سعت إلى تلبية الاحتياجات المماثلة وتنفيذ نماذج مماثلة في بلدانهم المختلفة. و"الركسست" في بلجيكا بقيادة ليون دغرل، و"الجمعية الوطنية" النرويجية التابعة لكويزلنغ، و"صليب السهم" المجري، و"فيلق الملاك مايكل" التابع لكورنيليو كودريانو في رومانيا، و"كتيبة بريم ودي ريورا" في إسبانيا، و"اتحاد الفاشيين البريطانيين" الذي أقامه أوسوالد موسلي - هذه مجرد أمثلة قليلة من الحركات التي لم تعمل فقط بأنماط وبأساليب موسوليني وهتلر، بل سعت أيضاً إلى إنشاء أنظمة مماثلة في بلدانها. لكل واحدة من الحركات المذكورة خصائص فريدة واعتمدت كل منها إستراتيجية سياسية مختلفة بعض الشيء، وفقاً للمناخ السياسي وهيكل النظام والرموز الاجتماعية التي عملت في داخلها؛ ولكن لم ينجح أي منها كنظيرتيها في إيطاليا وألمانيا. ومع ذلك، فقد تشاركت جميعا بما يسميه العلماء "الفاشية العامة". في الواقع، كانت الفاشية في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي ظاهرة سياسية برزت وعملت في كل مجتمع حديث كان يعاني من أزمة عميقة، من أولئك الذين كسبوا بعد الحرب العالمية الأولى.

من مفكرة فاشستي

مقارنة بالرعب المستمر للجبهة الغربية في الحرب العالمية الأولى أو المعارك الدامية في أوروبا الشرقية خلال تلك الحرب وإنشاء الاتحاد السوفييتي بعد ذلك مباشرة، كانت هوامش الإمبراطورية العثمانية هادئة نسبياً. لكن أهوال الحرب، وتفكك النظام السياسي القديم والاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية التي أعقبت ذلك، لم تفوت أرض إسرائيل في ذلك الوقت: من التعبئة الجماعية ومصادرة الممتلكات ونفي مجموعات سكانية كاملة، مروراً بالحرمان والجوع والقتل والاغتيالات الواسعة النطاق والانهيار الكامل للنظام الذي حكم على مدى أجيال واستبداله بنظام إمبريالي جديد، والذي احتفظ ببعض ملامح النظام القديم، ولكنه سرّع أيضا عمليات التحديث في المجتمع والاقتصاد والسياسة.

بالإضافة إلى التغييرات المحلية في "أرض إسرائيل" (فلسطين) جاءت موجات كبيرة من الهجرة. كانت هناك موجة هجرة من أوروبا إلى المستوطنة اليهودية في البلاد. وكما هي الحال مع أي مجتمع مهاجر، جلب المهاجرون الأوروبيون معهم عبوات ثقافية وأفكار سياسية مكتسبة في بلدانهم الأصلية. وإن وسائل الاتصال التي تطوّرت وتسارعت في ذلك الوقت (الهاتف، التلغراف، الصحف)، وكذلك الروابط السياسية بين أوروبا والبلاد وحرية الحركة النسبية قد مكنت بل وشجعت تدفق الأفكار بين الشواطئ الشرقية والشمالية للبحر الأبيض المتوسط. علاوة على ذلك، كان عدد قليل من المهاجرين الأوروبيين الذين أتوا من وسط وشرق القارة في عشرينيات القرن العشرين من الشباب "خريجي" الحرب العالمية الأولى والزلزال الذي تلاها. وسواء أكانوا قد تحرروا حديثاً من جيوش ألمانيا أو الدولة النمساوية- الهنغارية أو روسيا، أو كانوا بين إخوتهم الأصغر سناً، مثل معاصريهم الذين بقوا في أوروبا، فقد كانوا أيضاً الجيل الذي شوّهته الحرب العظمى.

إن مزيج الاقتصاد المتعثر، ومجتمع الجماهير ذي البنية الحزبية السياسية الحديثة (كما كانت الحال في المجتمع العبري)، ومجتمع قومي يتنافس مع مجتمع قومي مجاور، وخيبة الأمل مما بدا كضعف المؤسسة السياسية القائمة والثقة المحدودة في قدرة السلطات على توفير الحماية والدعم للسكان - هذا المزيج دفع نحو البحث عن إجابات سياسية جديدة. ومثلما في أوروبا، كان هناك من وجد البديل في الفاشية. وبالتدريج، تشكلت مجموعة فاشية في المعسكر التنقيحي (عملياً، الأب الروحي التاريخي لليمين الاسرائيلي الحالي- المحرر).

كانت البداية متواضعة: مثل العديد من الآخرين في منتصف عشرينيات القرن الماضي، فإن إيتمار بن أفي، ابن اليعيزر بن يهودا ورئيس تحرير صحيفة "دوأر هيوم"، عبّر عن المودة والإعجاب بموسوليني وممارساته ("رجل استثنائي"، كما وصف بن أفي موسوليني بعد سنة من وصوله إلى السلطة، "روح لن تنجلي للعالم سوى مرة واحدة في القرن، إن لم يكن أكثر"). على عكس الآخرين، تمنى أن يكون قائداً قوياً وقوياً للمستوطنة اليهودية في إسرائيل ورأى مثل هذا القائد في شخص زئيف جابوتنسكي. بموازاته، كان هناك كاتب مبتدئ بدأ حياته السياسية والصحافية في الأوساط الاشتراكية وفي جريدة "هبوعيل هتسعير"، وكتب عمودا دورياً في "دوأر هيوم"، أواخر عشرينيات القرن العشرين بعنوان "من مفكرة فاشستي"؛ كان اسمه آبا أحيمئير.

وجنبا إلى جنب مثقف آخر شعر بخيبة أمل من الأوساط الاشتراكية، هو كاتب وشاعر يدعى أوري تسفي غرينبرغ، وطبيب وكاتب اسمه يهوشع هاشل ييفين، شكّل أحيمئير مجموعة من الشباب المعروفة باسم "تحالف البلطجية"، والتي تهدف إلى رفع شأن القومية بين الشباب. وأفكار هذا الثلاثي - الذي قاد الفصيل "المُغالي" في الحركة التنقيحية- وجدت لها تعبيراً في صحافة تلك الفترة: بعد فترة من إدارة وتحرير "دوأر هيوم" في أواخر عشرينيات القرن العشرين، أقاموا في عام 1930 جريدة "الشعب" (التي أصبحت في العام 1931 "جبهة الشعب"). كانت رؤيتهم للعالم تمشي دائماً على حافة الأزمة والتهديد المستمر للمستوطنة اليهودية والمشروع الصهيوني. كان اليهود بشكل عام والصهاينة بشكل خاص بنظرهم ضحايا تاريخيين في أوروبا وفي "أرض إسرائيل". لقد رأوا مهد ولادة حركتهم في "الساحات الضاجّة بالصمت" في الحرب العالمية الأولى، على حد تعبير ييفين؛ وفقاً لذلك، احتقروا الليبراليين والمعتدلين "النباتيين" وطالبي التسوية مع العرب والبريطانيين. وتمجيد العنف السياسي - خاصة ضد الاشتراكيين والشيوعيين، ولكن أيضاً ضد الليبراليين والمعارضين السياسيين عموماً - امتزج جيداً مع إعجابهم بحلقات اليمين المتطرف في أوروبا. لم يهتموا بإخفاء توقهم لزعيم واحد أعجبوا به: في مؤتمر الحركة التنقيحية في فيينا في صيف 1932، اقترح عضو آخر في المجموعة، فولفغانغ فون فيزل، إعلان جابوتنسكي قائداً مطلقاً غير محدود الصلاحيات (جابوتنسكي من جانبه رفض الاقتراح).

تم حل "تحالف البلطجية" في أواخر عام 1933، بعد اتهام أحيمئير واثنين من النشطاء التنقيحيين (تسفي روزنبلات وأبراهام ستافسكي) بقتل حاييم أرلوزوروف في حزيران من العام نفسه. وتمت تبرئة أحيمئير من التهمة، لكنه أدين بالتنظيم غير القانوني وحُكم عليه بالسجن لمدة عامين؛ كذلك أغلقت جريدتهم وتوقفت عن الصدور.

بين فلورنتين والعلمين

لم ينجح "تحالف البلطجية" إلا لفترة قصيرة، وكان تأييده الجزئي للسياسة الهتلرية في ألمانيا في ربيع 1933 (المعبّر عنه في صحيفة "جبهة الشعب" والذي أثار غضب جابوتنسكي) قصير العهد أكثر؛ حتى أن بعض أعضاء الحركة احتجوا وسرقوا علم الصليب المعقوف من القنصلية الألمانية في "أرض إسرائيل". من ناحية أخرى، استمرت روابط الصهاينة التنقيحيين مع نظام موسوليني حتى العام 1938 على الأقل، عندما أصدر النظام قوانين عرقية مشابهة لقوانين العرق النازية.

إلى جانب طلاب المدرسة البحرية التابعة للحركة التنقيحية التي نشطت من 1935 إلى 1937 في مدينة تشيفيتفيكيا تحت رعاية النظام الفاشي، كان هناك شبان آخرون من التنقيحيين الذين اكتسبوا المعرفة والتعليم في جامعات إيطالية. أحدهم كان تسفي كوليتز، الذي نشر في نهاية دراسته كتابه "موسوليني: شخصيته ونظريته"، والذي تضمن، بالإضافة إلى سيرة ذاتية تمتدح الزعيم، مجموعة مختارة من رسائله (على الرغم من أن إقامته في إيطاليا لم يُمنع كوليتز من الانضمام للجيش البريطاني لاحقاً). وثمة خريج آخر من جامعة فلورنسا في ذلك العقد كان أبراهام شتيرن: بعد عودته إلى البلاد، تقدم في صفوف الإتسل، ولكن عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية ترك المنظمة وشكل منظمة منفصلة تسمى "الإتسل في إسرائيل" (لاحقاً، ليحي).

على المستوى الأيديولوجي، تصوّر شتيرن في كتاباته وفي "مبادئ البعث" التي صاغها، بعثاً قومياً يتلاءم جيداً مع النماذج الفاشية في ذلك الوقت (ولو أنها بصيغة رومانسية للغاية)؛ على المستوى العملي، سعى شتيرن إلى التعاون مع قوات المحور في الحرب ضد البريطانيين: محاولته الاتصال بالوفد الإيطالي في البلاد فشلت، لذلك أرسل في كانون الثاني 1941 أحد رجاله للاتصال بالممثل الألماني في بيروت. هذه المحاولة أيضاً لم تتيسر (إلى حد كبير بسبب اعتبارات مالية في وزارة الخارجية الألمانية)، لكنها جعلت الشرطة البريطانية تسرّع عملية البحث عن شتيرن وأعضاء منظمته.

هل كانت الصلات الجريئة بين الحركة التنقيحية والأنظمة الفاشية مبنية على تعاطف حقيقي وعميق، أم فقط على شراكة المصالح في الحرب ضد سيطرة بريطانيا على البحر المتوسط؟ في حالة جابوتنسكي، الذي كان بعيداً عن الاشتراكية بالمعنى الماركسي، لكنه أصر على أهمية وتطبيق قيم ديمقراطية ليبرالية، كان من المفترض أن تكون شراكة مؤقتة. لكن بالنظر إلى الخطب والمقالات والقصائد والطروحات في الحلقة المغالية في "أرض اسرائيل"، ولاحقاً "الإتسل في إسرائيل"، فإن هؤلاء الأخيرين رأوا في الفاشية درباً سياسية لائقة بل ودرباً مرغوباً بها أيضاً.

في النهاية، في عام 1942، تلاشت الفاشية اليهودية، بين فلورنتين والعلمين؛ وفي شباط من ذلك العام، في شقة صغيرة في حي فلورنتين بجنوب تل أبيب، تم اعتقال شتيرن على أيدي الشرطة البريطانية؛ في تشرين الثاني من ذلك العام، لحقت بجيوش المحور الهزيمة في شمال أفريقيا (معركة العلمين). حتى لو لم تكن هذه بداية النهاية، كما قال ونستون تشرشل، فقد كانت نهاية البداية: تم صد الفاشية على المسرح العالمي، تراجعت وخفت وهجها بشكل كبير. منذ عام 1945، لعقود من الزمان، كانت الفاشية مُدانة لا مكان لها في مجتمع سليم؛ لم تعد عطراً مرغوباً فيه، بل رائحة سيئة يجب التخلص منها.

ماذا بقي من الفاشية اليهودية بعد 80 عاماً؟

في اليمين الإسرائيلي اليوم، يمكن تمييز بعض ملامح الفاشية المذكورة أعلاه بوضوح.

هناك عدد غير قليل لدينا ممن يؤمنون بسموّ الأمة على كل حق للفرد ووجوب خضوع الفرد لها: بدءا بالسجود لطوطم الخدمة العسكرية، مرورا بالمطالبة بإخضاع جميع قوانين الأحوال الشخصية للمؤسسة الحاخامية ووصولا إلى ازدراء من يختارون الهجرة. كذلك، فالاعتقاد بأن "اليهود" في البلاد هم ضحايا الجماعات الأخرى لا يتطلب البحث عنه جهدا: الاستخدام النفعي لقتل الملايين في الحرب العالمية الثانية في أوروبا ونموذج "القلة ضد الكثيرين" هما عذران شائعان هنا لاستخدام دولة إسرائيل القوة العسكرية المفرطة.

المخاوف من تآكل "القيم القومية" الفريدة أمام القيم الليبرالية الكونية أو التأثيرات "الأجنبية" ليست غائبة هي الأخرى عن لوائح اليمين الإسرائيلي، سواء من خلال مواقف سلبية من "صندوق اسرائيل الجديد" أو "الحكومات الأجنبية" أو "المنظمات الدولية" أو بواسطة مشاريع فاعلة لـ "تعزيز الهوية اليهودية" بين السكان. كذلك، فإن الحاجة إلى مجتمع "أكثر نقاء" جليّة: بدءا من مخاوف "الذوبان" لدى زعران حركة "لهافا" وأصحاب البذلات الرسمية على حد السواء، العداء الصريح لطالبي اللجوء ووصم "اليسار" ليس كمعارض سياسي داخل المجتمع، ولكن كعميل أجنبي. وأخيراً، فإن الإيمان بحق الشعب المختار في السيطرة على الآخرين بلا حدود نراه كل يوم، منذ أكثر من نصف قرن، في الضفة الغربية وغزة.

مع ذلك، لا تزال بعض السمات المهمة للفاشية الكلاسيكية غائبة عن التجربة السياسية الإسرائيلية اليوم. الأول هو الشعور بأزمة حادة وحاسمة لا يمكن لأي حل تقليدي مواجهتها. من الممكن تماماً أن تؤدي الأزمات المستمرة التي يرزح فيها الوعي السياسي الإسرائيلي لعقود، الى خلق إحساس بوجود أزمة حادة وخطيرة وخاصة. إن حالة الطوارئ المستمرة (الدستورية وعلى مستوى الوعي) تخفف من حالة الذعر: عندما تسقط الصواريخ بانتظام في مناطق من البلاد، فإنها تصبح أيضاً روتينية، وإن كانت قاتلة. في الوقت نفسه، تتآكل المؤسسات السياسية الإسرائيلية ببطء: من ناحية، في غياب دستور، لا يمكن تعليق عملها، بل تغييرها تدريجياً فقط؛ من ناحية أخرى، فإن البدائل التقليدية (المجتمعات، الجمعيات، الشركات الخاصة، التيارات، ساحات الحاخامات) تحل محل الدولة في العديد من المجالات. هذه البدائل - وهي أيضاً جزء من خصخصة المجتمع الإسرائيلي - تقدم مجموعة متنوعة من الحلول على مختلف المستويات للاحتياجات الاجتماعية والسياسية لمختلف شرائح الجمهور الإسرائيلي.

ثمة ميزة أخرى مفقودة هي الحاجة إلى سلطة زعيم فردي وعبادة وتقديس قدراته. أولاً، أحد الأشياء التي تميز المجتمع الإسرائيلي - ولهذا، ربما، يجب على المرء أن يشعر بالامتنان لجذور عميقة في التقاليد الحاخامية والشرعية - هو التشكيك بالسلطة وغياب الطاعة العمياء لشخصية فردية. ثانياً، القمة مقفرة تماماً. "القائد القوي" المحاط بالشبهات، والذي يخاطب مؤيديه وخصومه بسلاسة، صحيح أنه يظهر ميولا استبدادية وشعبوية، لكنه يبدو في سنه المتقدمة كمن يحاول أكثر التهرب من الملاحقة القضائية - حتى بثمن الفساد والإفساد – وليس كمن يحاول بناء حركة جماهيرية جارفة.

لقد تم طرد وزير التعليم، الذي يطالب بوزارة الدفاع (نفتالي بينيت)، من الكنيست بعد أن حقق نجاحاً جزئياً بين ناخبيه، الذين لم يتأثروا بالعطر الذي كان يحاول تسويقه لهم. وبين الجنرالات الذين يرغبون في الوصول إلى السلطة، من الصعب العثور على زعيم قادر على جرّ حركة حازمة من الأشخاص المستعدين للتضحية بأنفسهم فقط بسبب قوة شخصيته. لقد حققت بعض المجموعات الصغيرة ذات الخصائص النازية بعض النجاح في الانتخابات الأخيرة، لكن توجد لدى الكهانيين مشكلة صغيرة: لقد مات زعيمهم منذ أكثر من ربع قرن.

مرجل يغلي

من الصعب، كما نعلم، وضع توقعات للمستقبل. في إسرائيل، يمكن أن يكون الأمر خطيراً أيضاً: عندما نشر كتاب عوزي فايل "يوم أطلقوا النار على رئيس حكومة" العام 1991، اعتبر ذلك مزحة في أحسن الأحوال، أو سخرية سوداء في أسوأ الأحوال؛ بعد أربع سنوات، أصبح القتل حقيقة واقعة. بين البحر والنهر، ما "لا يمكن تصوره" في مرحلة ما - يظهر لاحقاً كقابل جدا للتحقق.

ومع ذلك، من المهم عدم اعتبار الحركات الفاشية تهديداً متجانساً وفوق تاريخي؛ مثل كل شيء آخر في عالمنا، فهي أيضاً في تقلب مستمر. فمن ناحية، يتغير الناس ويغيرون رأيهم: مثلا، الدكتور فولفغانغ فون فيزل، الذي دعا جابوتنسكي إلى تولي سلطات دكتاتورية غير محدودة، بدأ نشاطه السياسي في عشرينيات القرن العشرين داخل حركة المزراحي، وبعد استيلاء مناحيم بيغن على اليمين في البلاد، قلل نشاطه السياسي إلى حد كبير؛ أصبح أحيمئير أحد المحررين الرئيسيين للموسوعة العبرية، وانتقل ييفين إلى الانشغال بالفكر الديني والروحي، بينما أصبح كوليتز منتجاً سينمائياً في الولايات المتحدة. وفي الوقت نفسه، اكتسبت الحركات الفاشية، مثلها في ذلك مثل جميع الحركات السياسية الحديثة، مؤيدين جدداً ولكنها خسرت أيضاً جماهير قديمة.

يواجه العالم حالياً أزمة بيئية واقتصادية غير مسبوقة، وقد تؤدي بدرجة احتمال عالية، إلى الفقر والعوز والضائقة على نطاق واسع. الملايين الذين كان لديهم في العالم الصناعي أمل بمستقبل أفضل، يرونه يتلاشى، مع انتهاء عصر الرخاء والازدهار و"النمو" في نصف القرن الماضي، وصعود موجات الهجرة العالمية وتعميق الفجوات الاقتصادية وعدم المساواة الاجتماعية. الناخبون والمواطنون الساخطون الذين تعبوا ليس فقط من هذا البرنامج السياسي أو ذاك، بل من أنظمة سياسية بأكملها، عددهم غير قليل.

هل سيتم توجيه خيبة الأمل من النظام في اتجاه فاشية متجددة؟ هذا أمر وارد الحدوث، حتى لو كانت خصائصه مختلفة جزئياً عن خصائص الفاشية القديمة.

بعض عناصر الفاشية الكلاسيكية موجودة معنا في إسرائيل أيضاً. وقد يخلق مزيج من أزمة دستورية حرجة، وتهديد قومي استثنائي، ووضع اقتصادي صعب، وظهور زعيم صاحب كريزما وعديم الكوابح، فاشية جديدة في البلد. لم نصل إلى هناك بعد، لكن من الممكن أن نكون في الطريق المؤدية إليه.

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات