المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

أعاد "قانون القومية" (قانون أساس: إسرائيل دولة قومية للشعب اليهودي) الذي أقرّه الكنيست، بصورة نهائية، فجر يوم 19 تموز الجاري، إلى واجهة السجال الإسرائيلي ـ اليهودي العام، مسألة العلاقة بين دولة إسرائيل واليهود في مختلف أنحاء العالم (ما يسمّى "يهود الشتات")، إذ اعتبر كثيرون من المحللين والمراقبين الإسرائيليين، السياسيين والقانونيين، هذا القانون "تخلياً إسرائيليا، نهائيا وبوثيقة دستورية، عن يهود الشتات"، بدلا من "أن تسعى الحكومة الإسرائيلية إلى تقريب العالم اليهودي إلى دولة إسرائيل".

فقد رأى د. شوكي فريدمان، مدير مركز "القومية، الدين والدولة" في "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" وأستاذ القانون في "مركز بيريس الأكاديمي"، أن "الصيغة المعدَّلة (التي أقرت نهائيا) من قانون القومية تكرس هذا الاغتراب في وثيقة دستورية. فهو (القانون) يتيح للحكومة مواصلة تجاهل يهود الشتات وصدّ أي ادعاء بأن ممارسات الحكومة أو قوانين الكنيست التي تمس بيهود الشتات هي غير دستورية". وأضاف (هآرتس، 10/7/2018) أن "سياسة التجاهل التي تعتمدها الحكومة الإسرائيلية حيال يهود الشتات هي حقيقة قائمة، لكنَ تكريسها في نص دستوري هو أخطر بكثير، ذلك بأنه يمثل إعلانا صريحا، واضحا وحازما، من جانب الحكومة والكنيست أنهما غير مستعدتين لاتخاذ أية خطوة من أجل تعزيز هذه الرابطة التي يترتب عليها ثمن محلي باهظ". ويخلص فريدمان إلى القول إنه "يتضح لليهود في العالم، الذين ينظرون إلى سياسة حكومة إسرائيل ويراقبونها، أن هذه الحكومة لا تراهم، مطلقا".

من جهته، رأى د. أريئيل بيكار، مدير مركز "كوغود" لدراسات الفكر اليهودي والمدير التربوي لـ"برنامج باري لتعميق الهوية الإسرائيلية اليهودية" في "معهد شالوم هيرطمان" الإسرائيلي، أن "قانون القومية سيء لإسرائيل لأنه يقصد إذلال يهود الشتات. فالبند رقم 6 منه ينصّب دولة إسرائيل أخا أكبر للشعب اليهودي في الشتات. نحن، اليهود في إسرائيل، نتعهد بإنقاذ اليهود في الشتات، أينما كانوا. حسناً، لكن نحن سنهتم أيضا بأن يحافظوا هم ـ لا نحن! ـ على الرابطة بين الدولة وبين أبناء الشعب اليهودي، إذ ينص القانون على أن "الدولة ستعمل في الشتات على تعزيز الرابطة بين الدولة وبين الشعب اليهودي في أي مكان". لقد أضيفت عبارة "في الشتات" الآن، إلى الصيغة الأولى من القانون، تلبية لطلب الحريديم، كما يبدو، على خلفية خشيتهم أن يكون في أي شيء قد تقوم به الحكومة "لتعزيز الرابطة" ما هو منوط بالوضع في الحائط الغربي/ حائط المبكى". ثم يقترح بيكار "أن يبادر مؤيدو القانون، في المرحلة الأولى، إلى تنظيم حملة تبرعات واسعة لتثقيف يهود الشتات وأن يطلبوا، بكل ما أوتوا من قوة الطلب، من المتبرعين اليهود الأميركيين التوقف عن تقديم التبرعات لدولة إسرائيل، بل توجيه كل تبرعاتهم هذه من أجل حفظ الرابطة، في الشتات، في الدولة والشعب اليهودي".

تعمق الشرخ بين إسرائيل ويهود الولايات المتحدة

قبل سن "قانون القومية" بأيام، نشر عميت إفراتي، الباحث في "معهد دراسات الأمن القومي" الإسرائيلي، دراسة خاصة أعدّها حول هذا الموضوع، لكن بالتركيز أساسا على "إسقاطات تعميق الشرخ بين دولة إسرائيل ويهود الولايات المتحدة"، نشرت في مجلة "عدكان استراتيجي" الصادرة عن المعهد المذكور (العدد 21، 2 تموز 2018).

يستهل إفراتي دراسته بالإشارة إلى أنه "إلى جانب الازدهار الذي شهدته العلاقات السياسية بين الولايات المتحدة وإسرائيل في الفترة الأخيرة تحديدا، أكثرت وسائل إعلام أميركية من النشر عن خطوات اتخذتها الحكومة الإسرائيلية مؤخرا، ومنها بصورة خاصة مساعي سن "قانون القومية"، وسنّ "قانون التهوّد" الرسمي، وتجميد "التسوية بشأن حائط المبكى"، مع التأكيد على أن هذه الخطوات قد عمقت وفاقمت، بصورة كبيرة، أزمة الثقة لدى أوساط واسعة جدا من يهود الولايات المتحدة بدولة إسرائيل". ويضيف: "كما نشر، أيضا، أن أزمة الثقة القديمة ـ الجديدة هذه، التي تتجسد في تصريحات إعلامية وفي أنشطة احتجاجية لم نشهد مثيلا لها من قبل، قد تضع علامة سؤال كبيرة على استمرار الدعم الاقتصادي الذي يغدقه اليهود الأميركيون على إسرائيل، كما على دافعيتهم في استغلال تأثيرهم، مستقبلا، لممارسة الضغط على الإدارة الأميركية في كل ما يتعلق بمعوناتها لإسرائيل في المجالات المختلفة".

يستعرض إفراتي، في دراسته هذه، مسببات التراجع المتواصل في تأييد يهود الولايات المتحدة ودعمهم لإسرائيل، ثم يحاول تقصي الاسقاطات الجدية المترتبة على تعميق الشرخ بين الطرفين على دولة إسرائيل في المستوى الاستراتيجي على المدى البعيد، ليختم بتقديم بعض المقترحات لتحسين الوضع، تعتمد أساساً على إحداث تغيير جوهري يتمثل في إدراك واعتراف اليهود في إسرائيل وقادتهم السياسيين بأهمية المجتمع اليهودي الأميركي وحيويته القصوى بالنسبة للشعب اليهودي ولدولة إسرائيل، إلى جانب تعزيز الدور الحكومي (الإسرائيلي) في مهمات التثقيف اليهودي والصهيوني بين اليهود في الولايات المتحدة.

الخلفية ـ "قانون التهوّد" وسيطرة التيار الأرثوذكسي

في حزيران 2017، أقرت اللجنة الوزارية الإسرائيلية لشؤون التشريع "قانون التهود الرسمي" الذي يكرس، على نحو دستوري، سيطرة الحاخامية الرئيسية الحصرية على مجال التهوّد في إسرائيل ويمنع، في المقابل، أي اعتراف مستقبلي بإجراءات التهوّد (اعتناق اليهودية) على منهج التيارين الإصلاحي والمحافظ، كما تجري في إسرائيل. وبالتزامن مع ذلك، قررت الحكومة الإسرائيلية تجميد التسوية التي كان جرى التوصل إليها بشأن "حائط المبكى"، والتي قضت بإفراد ساحة خاصة في منطقة الحائط تخصص لأتباع التيارين المذكورين لإقامة صلواتهم وتأدية شعائرهم الدينية فيها، على أن تناط مهمة إدارة هذه الساحة والإشراف عليها بمجلس جماهيري جديد، يقام لهذا الغرض خصيصا، ويكون منفصلا تماما عن الحاخامية الرئيسية.

لكن بالرغم من تجميد القرار بشأن سنّ قانون التهوّد الرسمي الجديد لبضعة أيام، عقب إقراره في اللجنة الوزارية لشؤون التشريع، إلا أن التقارير العديدة التي نشرتها وسائل الإعلام الأميركية أفادت بأن هذه الإجراءات قد عمقت الشرخ بين دولة إسرائيل ويهود الولايات المتحدة، الذين يبلغ تعدادهم نحو 3ر5 مليون شخص ينتمون، في غالبيتهم الساحقة، إلى التيار الإصلاحي (35%) والتيار المحافظ (18%)، لكن يتميزون بتبينيهم القيم الليبرالية (36%)، بينما لا تزيد نسبة اليهود الأميركيين المنتمين إلى التيار الأرثوذكسي/ التقليدي عن 10% فقط. يشار هنا إلى أن هذه التقديرات الديمغرافية تعتمد على تعريف بحثيّ تقليدي يفيد بأن يهود الولايات المتحدة يتوزعون على مجموعتين: الأولى ـ يهود يعلنون انتماءهم إلى الديانة اليهودية (2ر4 مليون شخص)؛ والثانية ـ يهود علمانيون لا يعلنون انتماءهم إلى الديانة اليهودية، لكنهم ترعرعوا كيهود أو أحد والديهم هو يهودي؛ أي أنهم يعرّفون أنفسهم يهودا، لكن ليس من ناحية دينية (1ر1 مليون شخص).

يذكر هنا أن اليهود في الولايات المتحدة يشكلون نحو ثُلث عدد اليهود في العالم قاطبة وأكبر تجمع يهودي في العالم، بعد إسرائيل.

طبقا للتقارير المختلفة وللمعطيات الديمغرافية المذكورة، فإن هذا الشرخ الجديد ـ القديم يضع علامة سؤال كبيرة حول شعور قطاع كبير من يهود الولايات المتحدة بالتعاطف مع دولة إسرائيل، كما على مستقبل دعمهم السياسي والاقتصادي لها. ومع أن العلاقة بين دولة إسرائيل ويهود الولايات المتحدة قد بقيت حميمة ودافئة طوال سنوات عديدة، رغم سياسات الحكومات الإسرائيلية الرسمية المتمثلة في وضع كل ما يتعلق بشؤون الأحوال الشخصية وأحكام "الحلال" (الكاشير) بين يدي الحاخامية الرئيسية بصورة حصرية، إذعانا لرغبة التيار الأرثوذكسي وابتزازات أحزابه السياسية في الحكومة والكنيست، إلا أن ثمة مؤشرات عديدة تدل على أن التحولات السياسية الداخلية في إسرائيل خلال السنة الأخيرة تحديدا قد تشكل نقطة تحول فارقة في هذه العلاقة. أبرز هذه المؤشرات، التي يوردها إفراتي: أولا ـ بعد أيام قليلة من إقرار "قانون التهود الرسمي"، حضر إلى إسرائيل وفد من قادة "لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية" (إيباك) في زيارة عاجلة التقى خلالها مع رئيس الحكومة لاطلاعه على الإسقاطات الخطيرة المترتبة على القانون، من وجهة نظرهم؛ ثانيا ـ قدم دبلوماسيون إسرائيليون في الولايات المتحدة تقارير أفادت بأنه منذ تجميد "تسوية حائط المبكى" تنهال على القنصليات الإسرائيلية هناك رسائل الاحتجاج من أوساط اليهود الأميركيين، حتى أن وزارة الخارجية الإسرائيلية أصدرت تعليماتها إلى قنصلياتها بالاستعداد لاحتمال تصعيد تلك الأنشطة الاحتجاجية، بما في ذلك احتمال تنظيم مظاهرات يهودية أمام القنصليات الإسرائيلية؛ ثالثا ـ تضمنت تقارير إعلامية نشرتها وسائل الإعلام الأميركية المختلفة تصريحات عديدة عبر فيها يهود أميركيون عن نيتهم التوقف عن تقديم التبرعات المالية لدولة إسرائيل؛ رابعا ـ في خطوة استثنائية لافتة، أعلن مدير "الاتحاد اليهودي" في شيكاغو الامتناع عن استقبال أعضاء الكنيست الإسرائيليين الذين أيدوا قانون التهود الرسمي لدى زيارتهم إلى المدينة.

أسباب تراجع دعم اليهودالأميركيين لإسرائيل

سجل دعم اليهود الأميركيين لإسرائيل تراجعا مستمرا خلال السنوات الأخيرة، وخاصة في أوساط الشباب بينهم. فقد بيّنت دراسة حديثة أجرتها إحدى المؤسسات اليهودية في الولايات المتحدة أن 57% فقط من الطلاب اليهود في الجامعات والكليات الأميركية عبروا، في العام 2016، عن تأييدهم لإسرائيل في سياق الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، مقابل 84% منهم في العام 2010. وفي الوقت نفسه، ارتفعت نسبة المؤيدين للفلسطينيين من بين هؤلاء الطلاب، من 2% في العام 2010 إلى 13% في العام 2016. كما بينت الدراسة، أيضا، أنه بينما كان 95% من الطلاب الجامعيين اليهود في الولايات المتحدة يحملون آراء إيجابية عن إسرائيل في العام 2010، هبطت هذه النسبة إلى 82% في العام 2016، إضافة إلى أن الأغلبية الساحقة منهم أصبحت تعتقد بأن "دولة إسرائيل تنتهك حقوق الإنسان".

يعيد إفراتي، في دراسته الجديدة الآن، هذا التراجع الحاد في دعم اليهود الأميركيين لإسرائيل إلى جملة من الأسباب، أبرزها: أولاً ـ تخلي أبناء الجيل الشاب من اليهود الأميركيين عن الفكرة القائلة بضرورة وجود دولة إسرائيل، لتكون ملجأ لليهود في حال احتياجهم إلى ملجأ مرة أخرى. ويمثل هذا الموقف تحولا عما كان يشكل في السابق "محط إجماع" بين اليهود الأميركيين. وتشكل الهوية الأميركية مركز اهتمام الجيل الشاب من اليهود في الولايات المتحدة، مقدّمينها على الهوية اليهودية، ويبدون تأثرا واضحا بالنقد الدولي الحاد الموجه إلى دولة إسرائيل، على خلفية سياساتها وممارساتها. ثانيا ـ أدى الازدياد الكبير في عدد الطلاب المسلمين في الجامعات الأميركية إلى توسيع النشاط العلني ضد الطلاب اليهود الذين يبدون تماثلا صريحا مع إسرائيل والحركة الصهيونية. ويضاف إلى هذا اتساع دائرة الأساتذة الجامعيين في الجامعات الأميركية الذين يعارضون السياسة الخارجية الأميركية عامة، وسياستها الداعمة لإسرائيل خاصة. هذه التطورات تدفع بالعديد من الطلاب اليهود "الى الزاوية" فتضطرهم إلى "إخفاء تعاطفهم مع إسرائيل" في أحيان كثيرة، بل حتى إلى الانخراط في نشاطات مناوئة لها أحياناً. ويشير إفراتي هنا إلى حقيقة أن منظمات يهودية أميركية مختلفة تتصدر أنشطة حركة "المقاطعة، سحب الاستثمارات والعقوبات" (BDS) ضد إسرائيل، من خلال التأكيد على أن "سياسات إسرائيل في الضفة الغربية وقطاع غزة هي التي تؤدي إلى ابتعاد اليهود الأميركيين الشباب عن إسرائيل". ثالثا ـ كثيرون من الشبان اليهود الأميركيين، يشكلون نسبة مرتفعة من مجمل هؤلاء، ولدوا من زيجات مختلطة، بين يهود وغير يهود. ويشير استطلاع جديد أجراه معهد "بيو" إلى أن نسبة هؤلاء مرشحة للارتفاع بصورة حادة على خلفية حقيقة أن زوجات/ أزواج نحو 58% من اليهود الأميركيين المتزوجين هم ليسوا من اليهود. رابعا ـ يشير استطلاع آخر أجراه معهد AJC بالتعاون مع صحيفة "جيروزاليم بوست" إلى أن غالبية اليهود الأميركيين يطرحون سببا مركزيا آخر، رابعا، لتراجع دعم اليهود الأميركيين لإسرائيل يتمثل في الحصرية التي تمنحها مؤسسات إسرائيلية رسمية للتيار اليهودي الأرثوذكسي على حساب التيارات اليهودية الأخرى، التي ينتمي إليها الجزء الأكبر من يهود الولايات المتحدة.

أبرز انعكاسات تعميق الشرخ بين يهود الولايات المتحدة وإسرائيل

يؤكد عميت إفراتي في دراسته الجديدة أن لتعمق الشرخ بين يهود الولايات المتحدة ودولة إسرائيل إسقاطات خطيرة على دولة إسرائيل مستقبلاً، أبرزها اثنان: على مسألة الهوية وعلى القضية الاستراتيجية.
في مسألة الهوية، وبالنظر إلى حقيقة أن يهود الولايات المتحدة يشكلون نحو ثُلث عدد اليهود في العالم كله والتجمع اليهودي الأكبر، عدديا، بعد دولة إسرائيل، قد يثير الشرخ بين دولة إسرائيل وجزء كبير من هؤلاء اليهود (الأميركيين) تساؤلات جوهرية حادة حول قدرة إسرائيل على أن تشكل عاملا موحِّدا لليهود في العالم أجمع، بل حول قدرتها على تشكيل "بيت قومي" لليهود أيضا.

في المستوى الاستراتيجي، وبالنظر إلى حقيقة أن العلاقات الثنائية بين دولة إسرائيل والولايات المتحدة ترتكز على العلاقة بين دولة إسرائيل ويهود الولايات المتحدة وتتأثر بها، قد يعود هذا الشرخ بضرر جسيم على علاقات إسرائيل مع حليفتها الاستراتيجية الأكثر أهمية، أي الولايات المتحدة، في المدى البعيد. ذلك أن هذا الشرخ قد يمس بدافعية اليهود الأميركيين واستعدادهم لاستخدام تأثيرهم واستثماره في ممارسة الضغط على الإدارة الأميركية لمواصلة تقديم الدعم والمعونات لدولة إسرائيل في المجالات المختلفة.

ثم يشير إفراتي إلى أن العلاقات الإسرائيلية ـ الأميركية الرسمية تستند أيضا (إضافة إلى ما ذكر عن العلاقة بين إسرائيل ويهود الولايات المتحدة) على دعامتين أساسيتين أخريين، هما: الأولى ـ المصالح الاستراتيجية المشتركة لكلتا الدولتين. ولكن، بالرغم من الدور المركزي الذي تلعبه هذه المصالح المشتركة في كل ما يتعلق بالمعونات الأميركية العديدة والمختلفة لإسرائيل، إلا أن المصالح الأميركية قد تتغير مع مرور الوقت، تبعا للواقع الميداني وللتحولات السياسية المحتملة. والثانية ـ شعور التضامن بين الشعبين، الأميركي والإسرائيلي، المستند إلى الإيمان بقيم مشتركة، وفي مقدمتها القيم الليبرالية المتعلقة، أساسا، بحرية الفرد والسوق الحرة. ومع ذلك، فمن شأن تشريع "قانون التهود" وتجميد "تسوية الحائط الغربي" وغيرهما من الخطوات الأخرى التي اتخذتها السلطات الإسرائيلية الرسمية وتتميز بتكريس وتعزيز النهج المحافظ، أن تمس هذا الشعور وتؤدي إلى تآكله.
في المقابل، ثمة من يدعي بأن هذه الخطوات الإسرائيلية الرسمية قد تؤدي إلى تعزيز التأييد الذي تحظى به إسرائيل من جانب المسيحيين الأفنجيليين في الولايات المتحدة، والذين يشكلون قوة ذات تأثير مركزي على الإدارة الأميركية. غير أن أبحاثا كثيرة أجريت خلال السنوات الأخيرة تثبت أن قوة هذا التيار ومكانته تشهدان تراجعا دراماتيكيا، وخاصة حيال خطوات العلمنة المتسارعة التي يشهدها المجتمع الأميركي.

بالاستناد إلى هذا كله، قد ينشأ وضع تصبح فيه العلاقة بين دولة إسرائيل ويهود الولايات المتحدة، عاجلا أم آجلا، الأساس الوحيد الذي تقوم عليه العلاقات الثنائية الرسمية بين الدولتين. وعليه، فإن للشرخ بين دولة إسرائيل وهؤلاء اليهود إسقاطات محتملة بعيدة الأثر على دولة إسرائيل، مستقبلا.

انعكاسات اقتصادية

إذا ما شكل "قانون التهود" و"تجميد تسوية الحائط الغربي" نقطة تحول فعلية في تعميق الشرخ بين دولة إسرائيل ويهود الولايات المتحدة، فستترتب على ذلك انعكاسات اقتصادية مباشرة، يتوقع أن تتمثل، أولا وأساسا، في تراجع حاد في حجم التبرعات التي يقدمها هؤلاء اليهود لدولة إسرائيل ومنظمات إسرائيلية مختلفة، علما بأن هذه التبرعات كانت ـ ولا تزال حتى اليوم ـ تشكل حصة كبيرة من ميزانية دولة إسرائيل، وخاصة في السنوات الأولى بعد قيامها، ما يعني أنها لعبت دورا مركزيا في إقامة الدولة وتنظيمها وتعزيزها آنذاك.

حتى أواخر التسعينات، كانت المنظمات اليهودية المختلفة في الولايات المتحدة تتولى مهمة جمع هذه التبرعات وتحويلها إلى دولة إسرائيل من خلال "الوكالة اليهودية". وقد أظهرت دراسة أجراها "معهد كوهن" في جامعة برانديس الأميركية مؤخرا أن هذه التبرعات قد بلغت نحو 8ر1 مليار دولار بمعدل سنوي، خلال الأعوام 1975 – 1994. وهي تبرعات قُدّمت إلى دولة إسرائيل مباشرة، إلى مؤسساتها التعليمية والطبية، إلى شركات ومنظمات إسرائيلية مختلفة. كما أظهر البحث، أيضا، أن حجم هذه التبرعات قد تضاعف خلال العقدين الأخيرين وهو يبلغ نحو 1ر2 مليار دولار في السنة، منذ العام 2007 وحتى اليوم. ويشكل هذا المبلغ نحو 6ر2% من مجمل الميزانية السنوية لدولة إسرائيل.

إضافة إلى هذا، قد يؤدي تراجع التأييد اليهودي الأميركي لدولة إسرائيل إلى انخفاض حجم مشتريات اليهود الأميركيين من البضائع والصادرات الإسرائيلية المختلفة، لأسباب ودوافع إيديولوجية خالصة، كما قد يؤدي إلى توقف اليهود الأميركيين عن تشكيل عامل هام جدا في فتح أسواق محلية أمام الصادرات الإسرائيلية. وستكون لهذين التطورين انعكاسات سلبية جدا على حجم الصادرات الإسرائيلية إلى الولايات المتحدة، مما سيكبد الاقتصاد الإسرائيلي خسائر تقدر بمليارات الدولارات سنويا، ناهيك عن تقليص حجم الاستثمارات التي يوظفها يهود أميركيون في الاقتصاد الإسرائيلي وقطاعاته المختلفة من جهة، وضرب السياحة اليهودية في إسرائيل مما سيكبدها خسائر تقدر بعشرات ملايين الدولارات سنويا من جهة أخرى.

انعكاسات سياسية وأمنية

إلى جانب الانعكاسات الاقتصادية المذكورة، قد تترتب على تعميق الشرخ بين دولة إسرائيل ويهود الولايات المتحدة انعكاسات سياسية وأمنية، أيضا، تتمثل في تراجع الدعم السياسي والأمني الذي تقدمه الولايات المتحدة لإسرائيل. وستكون هذه الانعكاسات نتيجة حتمية لتراجع دافعية اليهود الأميركيين واستعدادهم لاستخدام قوتهم وممارسة الضغط والتأثير على الإدارة الأمريكية لمواصلة تقديم الدعم لدولة إسرائيل.

يوضح إفراتي أن تأثير اليهود الأميركيين على السياسات الأميركية الرسمية نابع من جملة عوامل، أبرزها: أن اليهود الأميركيين (الذين يشكلون نحو 2% من مجموع السكان في الولايات المتحدة) هم أصحاب المداخيل الأعلى في الدولة، حسب التقسيم الديني، إذ يبلغ معدل دخل 46% من اليهود الأميركيين أكثر من 100 ألف دولار في السنة؛ وأن اليهود الأميركيين يعتبرون من الأكثر تبرعا في المجال السياسي (للأحزاب السياسية وللحملات الانتخابية)، علاوة على كونهم أصحاب النسبة الأعلى من المشاركة في الانتخابات (التصويت)، إذ تزيد نسبة مشاركتهم في الانتخابات بنحو 35% عن النسبة العامة في الولايات المتحدة كلها، ناهيك عن حقيقة تواجدهم في ولايات مركزية "متقلبة" هي التي تحدد وتحسم نتائج الانتخابات الأميركية عادة. ويُضاف إلى هذا كله، بالطبع، حضور اليهود الأميركيين البارز والفاعل في الحياة السياسية ومؤسساتها المختلفة وفي المناصب الرسمية الرفيعة في الولايات المتحدة.
هذه القوة، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، تمنح اليهود الأميركيين القدرة على ممارسة التأثير والضغوط على الإدارة الأميركية وسياساتها في المجالات المختلفة، وخاصة في كل ما يتعلق بمواصلة تقديم الدعم والمعونات لدولة إسرائيل، اقتصاديا وسياسيا وأمنيا.

وإذا ما استمر تعمق الشرخ بين دولة إسرائيل واليهود في الولايات المتحدة، كما هو الحال في السنوات الأخيرة، فمن شبه المؤكد أن يؤدي ذلك إلى تراجع التأثير والضغط اليهوديين الأميركيين على الإدارة الأميركية، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وهو ما ستكون له انعكاسات سلبية خطيرة على مدى استعداد الإدارة الأميركية لمواصلة الالتزام بتوفير الدعم السياسي والأمني لدولة إسرائيل على المدى البعيد.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات