المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

إشتعلت في الأيام الأخيرة ضجة إعلامية في إسرائيل بعد تعليق لافتات باللغة العربية كجزء من الترويج الدعائي لمسلسل إسرائيلي تعرضه شبكة "يس" التلفزيونية. وبرز في غضون ذلك كمٌّ هائل من التوجهات المعادية للعربية، لغة وهوية وانتماء.

 

فبعد فترة قصيرة جداً على تعليق اللافتات الدعائية لمسلسل بعنوان "فوضى" (وهو ما لا يتطرق هذا التقرير إلى مضمونه لأنه ليس موضوعه) أمر رئيس بلدية كريات جات بإزالة اللافتات. وادعى أن هذه الخطوة جاءت "في ضوء طلب الكثير من السكان وسوف تتم ازالتها يوم الأحد بعون الله ومشيئته". ومثله فعل عضو بلدية نيشر عن حزب "الليكود" الذي قال في منشور على فيسبوك: "يسعدني أن أبشر بالتزام بلدية نيشر أمامي بإزالة دعاية شركة "يس" التي علقت على الجسر في شارع تساهل المجاور للمدرسة الثانوية في المدينة". بل ذهب ابعد من ذلك عندما وصف موقفه هذا على أنه "حماية للجمهور" لا أقلّ!

تلك الحملة الدعائية اشتملت على شعارات باللغة العربية منها "في الطريق اليك"،"شوي وببلش الأكشن" و "حضّروا حالكو"، لغرض إثارة انتباه الجمهور، ولكن ليس فقط، بل غرائز الخوف والعدوانية في عدد من شرائحه غير القليلة. وهكذا، فبعد تعليق هذه اللافتات خرجت شكاوى من سكان لم يفهموا مضمون الحملة، فتوجهوا إلى شرطة إسرائيل. واعتبر الصحافي إيتاي شطيرن والصحافية نوعا شبيغل ("هآرتس") أن "الهستيريا الشعبية التي اندلعت حول إطلاق هذه الضجة هي مسألة محبطة. فاللغة العربية لا تزال لغة رسمية في دولة اسرائيل ولكن يتضح انه يكفي وضع لافتات شوارع بها حتى يهتز الشعور بالأمن لدى معظم الإسرائيليين اليهود". وعبر الصحافيان عن املهما بأن "يتعاطى المسلسل نفسه مع اللغة العربية والمتحدثين بها، ليس من خلال النظرة التهديدية فقط".

"كلما كان التحريض أكبر فإن الدعاية أفضل"

عيدان رينغ من جمعية "سيكوي" نشر مقالا بالعبرية، لكنه عنونه باللغة العربية: "من ماذا تخافون؟" وكتب فيه أن العاملين في مجال الدعاية كانوا في مرة من المرات يبيعون منتوجات لكنهم اليوم يخلقون ضجة لبيعها. فهم يعدون الزبون بأن تتحدث الدولة كلها عن منتوجه، ويسارعون إلى البحث عن الاستفزاز الذي سينجح بذلك. ورأى أن الأمر ينطبق على لافتات مسلسل "فوضى"، معتبراً أن تصميم لافتات الشوارع جاء مهدِّدا "فاللافتات سوداء مع كتابات كبيرة باللغة العربية وبتصميم داعشي يرمز ويهدد أن ثمة أمرا كبيرا سيقع قريبا. ومن دون أن يفكروا مرتين وجهوا الضربة إلى النقطة الأدنى، فالامر لا يقتصر على العنصرية او على التشكيك الإسرائيلي التقليدي نحو اللغة العربية – بل إنه انتهازية شعبويّة لسياسيين محليين ونشطاء في شبكات التواصل الذين وصلت درجة انتهازيتهم تلك التي لدى مديري هذه الحملة ودعائيّيها. لقد عرفوا مسبقاً ما الذي ستؤدي اليه الحملة وتبين انهم كانوا دقيقين".

وهو يشبّه ما يجري في هذه الحالة وفي حالات مشابهة، على انه تعبير عن معادلة قوامها: "كلما كان التحريض أكبر فإن الدعاية أفضل". وبرأيه، بعد ان كان يتم استخدام هذا الأسلوب في حملات لمنظمات يمين ومجموعات تدور حول الأمن، فإن ما جرى هنا ببساطة هو نسخ ذلك وإحضاره إلى الساحة التجارية. ومثلما يصف الأمر: "يتم هنا إذكاء غدد الكراهية والعدوانية في الجمهور الواسع ضد بعض اللافتات المجهولة باللغة العربية". وبرأي الكاتب، إن النتيجة المؤكدة "لا تنبع من ارتفاع منسوب العنصرية او الخوف من اللغة العربية، بل إن هناك مؤشرات معاكسة تتجلى في توجه إسرائيليين بالغين لتعلم اللغة العربية طوعياً، فيما يشبه الموضة في السنة الأخيرة"، وإنما "لأن من يقفون في الطرف المقابل ينتظرون كل فرصة لإنتاج عنوان في الصحيفة او منشورة واسعة الانتشار على مواقع التواصل الاجتماعي، بواسطة استغلال مخاوف الجمهور". وهو يتهم السياسيين في البلدتين المذكورتين بالقفز والهرولة لإزالة اللافتات بحجة منع تخويف السكان.

يرى الكاتب أن "الثمن القاسي للرقص القبيح من قبل الدعائيين والسياسيين ونشطاء التواصل الاجتماعي في اليمين هو ثمن سيواصل دفعه جميع المواطنين الذين يعيشون هنا معا". فاللغة العربية، كما يؤكد، هي لغة رسمية وهي لغة أم لدى الكثيرين من مواطني الدولة. ولا يشير هنا فقط إلى المواطنين العرب بل إلى كثير من اليهود الذين هاجروا إلى البلاد من دول عربية. ويشدد على أن "تكريس مكانة اللغة العربية كلغة عدو وكتهديد على الحيز العام تواصل إبعاد ذلك اليوم الذي سيتحول فيه الصراع المستمر بين اليهود والعرب إلى قسم من الماضي ليستبدله مجتمع مشترك ومتساو ومزدهر للشعبين. ولكن في الواقع الحالي حيث لا يرى جهاز التعليم قيمة عليا في تعليم اللغة العربية وبدلا من دفع هذا قدماً، تفضل وزارة التعليم التركيز على خطط التفوق في الرياضيات والانجليزية، ولتتواصل شيطنة اللغة العربية وإبرازها في سياقات داعشية، مما يعقد خطورة الوضع وينقل رسالة سلبية إلى الشباب تؤدي إلى المساس ليس فقط بالمواطنين العرب بل بكل المجتمع الإسرائيلي".

رينغ يستعرض ما حدث في العام 2017، في إشارة إلى الحملات الواسعة ضد مشيّئي النساء والمتحرشين بهن. وهو يقول إن "العاملين في شركات الدعاية سيفكرون مرتين قبل استخدام اية نكتة مهينة للنساء وأية صورة تستغل جسد النساء لغرض بيع سيارة او بيرة والخ. ولكن في السنة الماضية حدث شيء آخر وهو إضافة لافتات الكترونية باللغة العربية في معظم خطوط الباص والقطار، وارتفاع نسبة العاملين العرب في الوزارات الحكومية ونسبة من تتم مقابلتهم في التلفزيون والراديو بعشرات النسب المئوية". ويعبر الكاتب عن أمله في أن "يفهم العاملون في سلك الدعاية عام 2018 انه لا يمكن للغة العربية ان تشكل بعد أداة للمناكفة والمناطحة وإشعال النيران. ولكن يجب بالأساس ان تفهم وزارة التعليم اخيرا مدى اهمية اللغة العربية ومكانتها في المجتمع لتهتم بتحويلها إلى موضوع الزامي بحيث لا يتخرج طالب من جهاز التعليم بدون أن يعرف حروفها".

"العربية مقبولة فقط حين ينطق بها مستعرب يهودي"

عميت ليفي تساءل في مقال له: متى بدأ اليهود بالخوف إلى هذه الدرجة من الأحرف باللغة العربية؟ ويعتقد أن معظم الإسرائيليين مستعدون لسماع اللغة العربية فقط حين ينطق بها مستعرب يهودي. ويستذكر كيف انه في 24 أيار 2016 تم الاحتفال في الكنيست بيوم اللغة العربية الأول (بمبادرة النائب عن "القائمة المشتركة" د. يوسف جبارين). وكان بين المتحدثين على منبر الكنيست ناطقون باللغة العربية سواء ممن تعلموها في البيت او في جهاز "الشاباك".. وبرزت هناك النائبة عنات باركو من الليكود التي توجهت إلى أعضاء الكنيست العرب وناشدتهم بعدم القيام باستغلال سلبي "للقوة السحرية" الكامنة في اللغة العربية. وربما، يقول الكاتب، إن هذا التوجه قد تردّد صداه في آذان الدعائيين الذين قرروا تصميم تلك الحملة للمسلسل المذكور.

ويرى أن المضامين التي كُتبت بشكل تهديدي قد حققت اهدافها بما يفوق المتوقع. فهذه ليست المرة الأولى التي تكتب فيها دعاية موجهة لليهود باللغة العربية بالذات، من منطلق ان جمهور الهدف غير قادر على فهمها، ليصبح الهدف هو التخويف وإنتاج ضجة. ويشير الكاتب إلى انه في العام 2010 خلال النضال الجماهيري بخصوص خلاصات لجنة شيشينسكي لفحص سياسة الضرائب على الغاز والنفط المكتشفين في اسرائيل، نشرت منظمة صغيرة سمت نفسها "الفوروم من أجل أرض إسرائيل" إعلانا تهديديا مع كلمات باللغة العربية وإلى جانبها كتبت بالعبرية: "هناك من لا يريد لكم أن تفهموا". وزعمت المنظمة في هذا الإعلان أن "صندوق إسرائيل الجديد" (يدعم منظمات مجتمع مدني نقديّة) يسعى إلى المساس بإسرائيل وانتاج تبعية في الغاز للدول العربية.

وتكمن السخرية، كما يتابع الكاتب، في أن "هناك فعلا من لم يرد ان تفهموا: فالكتابة باللغة العربية كانت تنعدم أي منطق لغوي مما أظهر أنه لا يوجد أي احتمال بأن من كتب ذلك النص يعرف اللغة أصلا". وهو يتساءل: كيف للغة تحدث وكتب وغنى بها وأبدع فيها يهود في كل انحاء العالم على امتداد اجيال طويلة، أن تتحول هكذا إلى لغة مرعبة. وهو يشير أولا إلى الصراع القومي واعتبار اللغة العربية لغة عدو يسعى كثيرون إلى ابعادها عن اعينهم وعن آذانهم وكأن إبعادها سيبعد العدو.

الكاتب يشير إلى تحليلات الباحث حول مكانة اللغة العربية في المجتمع الإسرائيلي يونتان مندل، الذي يحاجج في أبحاثه أنه منذ سنوات الثلاثينيات وخصوصا بعد 1948 تم تصميم لغة عربية جديدة – "عربية إسرائيلية" - من قبل المؤسسة التعليمية والامنية، انطلاقا من رؤية العربية على أنها لغة الضعفاء بل لغة الشتات ولغة الغريب. يقول مندل: "هذه اللغة يتم تعليمها تقريبا كاللغة اللاتينية وبالأساس من أجل تأهيل من يجب ان يعرف اللغة العربية لفهم العدو العربي ولكن من دون الكثير من اللغة لئلا يصبحوا شبيهين بالعرب. والخوف من التشبه بالعرب أو الانخراط الناجح أكثر من اللازم في الشرق الساحر ولكن المتخلف، قد اقلق كثيرين في الحركة الصهيونية. والعديد من الأبحاث أشارت إلى العلاقة ما بين تبلور الصهيونية في اوروبا وبين الجهود لإزالة الملامح الشرقية عن اليهود. من جهة ثانية ولغرض العودة إلى الوطن التاريخي، أرض إسرائيل، طولب اليهود بإعادة اكتشاف جذورهم فيها وهو ما تجسد في سكان البلاد الحاليين، أي العرب وبلغتهم العربية الحية".

"على اليهود معرفة العربية ليس كلغة غامضة وسحرية وخطيرة"

علاقات التجاذب والتنافر مع الشرق كانت قوة محركة في تاريخ الصهيونية في البلاد وهو ما يشمل الجهود الكبرى لتحويل اللغة العبرية إلى لغة رائجة. ويشير الكاتب إلى مقالات دعت إلى "حماية الحنجرة اليهودية" ومنها الذي نشره المؤرخ ماركو ديجوليو عام 2016 ، وقدم أمثلة عن كيفية دمج حجج من عالم الطب في الجدل الصهيوني الداخلي خلال بدايات الاستيطان حول شكل اللفظ الصحيح للأحرف الحلقية بالعبرية، أي الحاء والعين. فكان هناك حتى من حذر من أن لفظ هذه الحروف بشكل قريب من اللغة العربية قد يؤدي إلى المساس بالأوتار الصوتية في الحنجرة اليهودية الأوروبية، وهكذا تم تصوير اللغة العربية بالإضافة إلى كل المتاعب كخطر صحي أيضا!

ويشير الكاتب إلى مضمون المسلسل ("فوضى") الذي يدور حول مستعربين يتمتعون بمكانة عالية في المجتمع الاسرائيلي منذ ما قبل الدولة وحتى اليوم. فهناك ما يشبه التقديس لليهودي المتخفي كعربي منذ ايام "كتائب السحق" (البلماح) الصهيونية. وهناك إشادة بقدرة المتخفي على خداع العرب وإقناعهم بأنه عربي حقيقي. ويشير إلى أن عالم الاجتماع جيل إيال رأى في المستعربين حالات يتحول اليهودي فيها إلى عربي ليتحقق الخطر الكامن في الشرق، لكنهم في الحقيقة متخفّون ويمكنهم في لحظة واحدة إزالة القناع والعودة ليصبحوا يهوداً طبيعيين وفقا لمشيئتهم. وبالتالي فهم لا يهددون النظامين الاجتماعي والسياسي. وهكذا، برأي إيال، "يمكّن المستعربون من تشديد الفصل بين اليهود وبين العرب وهم اصلا موجودون على الحدود ويبعدون العرب ويساهمون في خلق حيز آمن ونظيف من اللغة العربية ونظيف من العرب".

يرى الكاتب رمزية هائلة في انه حين نشأ في وقت متأخر جدل، مهما بلغ من التلوث، حول حضور اللغة العربية في الحيز العام، فإنه يدور حول لافتة دعائية لمسلسل تلفزيوني حول المستعربين، وذلك بغض النظر عن المواقف التي يعبر عنها المسلسل. ويخلص إلى أن الاستغلال الانتهازي من قبل الدعائيين قد نجح، ولكن استخدام العربية لأغراض التخويف سيظل ماثلا في الجدل العام طالما ظلت لغة عدو غريبة وخطرا على الهوية اليهودية. لكن اللغة العربية، كما يؤكد عميت ليفي منتقداً، هي لغة الفضاء الذي نعيش فيه. ومن الغباء الهرب منها ومن الجبن استهلاكها فقط من خلال قصص البطولة لمن يتخفون كناطقين بها. ويجب على اليهود مواطني اسرائيل معرفة اللغة العربية ليس كلغة غامضة وسحرية وخطيرة، بل كلغة تشكل جزءا لا يتجزأ من حياتهم اليومية ومن هويتهم أيضا.

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات