المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

تشير آخر الخطوات التي قامت بها الحكومة الإسرائيلية الحالية إلى أنها ماضية نحو تعزيز طابع إسرائيل الديني في بعده الأرثوذكسي، مما يحولها إلى دولة يهودية أرثوذكسية. وساهمت في ذلك مجموعة من القوانين والسلوكيات التي اتخذتها الحكومة الإسرائيلية في المجال العمومي وفي سياساتها بشكل عام.

 

وينعكس تفاقم تديين المجال العمومي في إسرائيل على علاقة الدين والدولة من جهة، وعلى تصديع تفاهمات الوضع القائم التي صاغها دافيد بن غوريون بعيد تأسيس دولة إسرائيل، كما ينعكس على نفوذ الشارع العلماني في إسرائيل، ويؤدي إلى إعطاء مجموعة صغيرة في المجتمع الإسرائيلي إمكان التحكم والهيمنة على المجال العمومي وعلى نمط الحياة في المجتمع الإسرائيلي، كما أنه يساهم في تأزم علاقات إسرائيل مع المجموعات اليهودية في العالم ولا سيما في الولايات المتحدة والتي غالبها لا ينتمي إلى التيار الأرثوذكسي.

ويعتقد البعض أن تعزيز طابع إسرائيل الديني في بعده الأرثوذكسي ينطوي على تأثير ذي جانب استراتيجي وتحديدا في كل ما يتعلق بعلاقات إسرائيل مع يهود العالم. وهذا ما ستبديه بالتأكيد الأيام المقبلة.

ومع أن دراسة عدد المتدينين في إسرائيل وصفاتهم الديمغرافية تعتبر من القضايا المختلف عليها في إسرائيل، وهناك تقديرات مختلفة لعدد المتدينين في إسرائيل، ولتحديد صفة المتدين عموما، إلا إن هناك اتفاقا على أن ثمة ازديادا في نسبتهم السكانية في المجتمع اليهودي. وتؤدي التحولات الديمغرافية في صفوف المتدينين والمحافظين إلى زيادة قوة الأحزاب الدينية واليمينية، فالمتدينون وخاصة المحافظين منهم يصوتون للأحزاب الدينية، أو الأحزاب اليمينية القومية، بينما يميل العلمانيون أو غير المتدينين للتصويت لأحزاب اليسار أو الوسط.

وازداد تأثير المتدينين عموما وأبناء الصهيونية الدينية خصوصا في المشهد السياسي الإسرائيلي، وقد تجلى ذلك في زيادة تمثيلهم البرلماني، وزيادة تأثيرهم على الحكومات الإسرائيلية، خاصة وأن الأحزاب الحاكمة باتت تحتاج إلى الأحزاب الدينية لتشكيل الحكومة ولاستقرار الائتلاف الحكومي. وعندما قرر بنيامين نتنياهو استبعاد الأحزاب الدينية الأرثوذكسية من حكومته عام 2013 فإنها لم تصمد أكثر من عامين، فعاد وأكد أن الأحزاب الدينية حلفاء طبيعيون لحكومات اليمين. ويعتبر تمثيلهم البرلماني وحجمه أحد المؤشرات على زيادة قوتهم ونفوذهم السياسي في المشهد السياسي الإسرائيلي، برغم أنهم متفرقون بين أحزاب عديدة، ولكن وجودهم وحضورهم يعتبر إقرارا حتى في الأحزاب غير الدينية كالليكود مثلا بأهمية هذا القطاع وخطابه في المجتمع الإسرائيلي، حيث تعتمد الحكومة الحالية بشكل كامل على الأحزاب المتدينة في ديمومتها في الحكم. وهو ما يزيد من تأثيرهم على قرارات الحكومة.

وازداد عدد أعضاء البرلمان المتدينين في الكنيست الإسرائيلي منذ منتصف التسعينيات. ففي انتخابات الكنيست السابع عشر (عام 2006)، وصل عددهم إلى 34 عضو كنيست، وفي انتخابات الكنيست الثامن عشر وصل إلى 29 عضو كنيست (عام 2009)، وفي انتخابات الكنيست التاسع عشر (2013) وصل إلى 40 عضو كنيست أي بنسبة تصل إلى حوالي 31% من أعضاء الكنيست، وفي انتخابات الكنيست العشرين (2015) وصل عددهم إلى 27 عضو كنيست، وذلك نابع مع تراجع تمثيل شاس و"البيت اليهودي"، وبسبب الانشقاق الذي حدث في شاس وخسارة الطرف المنشق في الانتخابات وضياع أربعة مقاعد على الحركة، والثاني بسبب سياسات الليكود التي جذبت مصوتين من القواعد الاجتماعية لحزب "البيت اليهودي".

كذلك الأمر ازداد تمثيل المستوطنين (أبناء الصهيونية الدينية غالبا) في الكنيست، فبينما كان هناك عضو كنيست واحد من المستوطنات في عام 1984، وصل تمثيلهم في الكنيست التاسع عشر (2013) إلى 12 عضو كنيست (6 من قائمة "الليكود- بيتنا" [تحالف حزبي الليكود و"إسرائيل بيتنا" برئاسة أفيغدور ليبرمان] و5 من "البيت اليهودي") ووصل تمثيلهم في الكنيست العشرين (2015) إلى عشرة أعضاء كنيست. وهو تمثيل أكبر من نسبتهم من بين السكان في إسرائيل. ويبين هذا الإحصاء قوة الأحزاب الدينية الانتخابية، لكنه لا يعبر عن قوة المتدينين الذين يتواجدون في أحزاب غير دينية وخاصة في حزب الليكود.

واتخذت الحكومة الإسرائيلية الحالية سلسلة من القوانين التي تهدف إلى تعزيز أرثوذكسية المجال العمومي في إسرائيل. ويمكن في هذا السياق الإشارة إلى مجموعة من اقتراحات القوانين والقوانين التي اتخذتها الحكومة الإسرائيلية في هذ الصدد:

1- قانون تنظيم الصلاة والشعائر الدينية في ساحة "حائط المبكى" (الجدار الجنوبي للمسجد الأقصى المبارك)، والذي قامت من خلاله الحكومة بإلغاء التفاهمات التي توصلت إليها الحكومة سابقا وسمحت للنساء بالصلاة في مساحة مخصصة لهن، أو إعطاء مجال لليهودية غير الأرثوذكسية في ممارسة شعائرها الدينية، حيث أبقت الحكومة وشرعنت السيطرة الأرثوذكسية على ساحة الحائط الجنوبي، وهو ما أثار غضب اليهودية الإصلاحية والمحافظة عموما وفي الولايات المتحدة خصوصا.

2- إلغاء قانون التجنيد: وهو القانون الذي سنته الحكومة في دورتها السابقة عندما كان حزب "يوجد مستقبل" في الحكومة والذي فرض عقوبات على المتدينين المتزمتين الذي لا يخدمون في الجيش، وتحت تأثير ممثلي الأحزاب الدينية في الحكومة الحالية، الذين لم يكونوا جزءا من الحكومة السابقة، تم إلغاء هذا القانون وإصدار قانون جديد متفق عليه مع الأحزاب الدينية يرجع الوضع إلى ما كان عليه في السابق.

3- حصرية التهويد الشخصي للمؤسسة الدينية الأرثوذكسية في إسرائيل، حيث حصلت المؤسسة الدينية الأرثوذكسية على احتكار التهويد الشخصي ملغية بذلك كل تهويد لا يتم من خلالها أو من خلال حاخامين من طرفها أو حصلوا على شرعيتها، ولا ينحصر هذا الإجراء على التهويد في إسرائيل فحسب، وإنما أيضا طال التهويد الذي يتم في العالم حيث أنه لكي يتم قبول هذا التهويد عليه أن يكون من خلال مؤسسات وشخصيات حاصلة على شرعية المؤسسة الأرثوذكسية في إسرائيل.

4- تعزيز مكانة المحاكم الدينية في الحياة المدنية في إسرائيل، فيما يتعدى قضايا الأحوال الشخصية.

5- اقتراح قانون القومية، والذي يعطي أهمية للتراث القضائي العبري اليهودي في المحاكم المدنية، حيث ينص أحد بنود قانون القومية على أنه في حال لم يجد القاضي إجابة على قضية من القانون المدني يمكنه العودة إلى القانون العبري وأخذ حكمه منه على القضية المطروحة أمامه.

6- ترتيبات العمل يوم السبت والتي تشمل محاولة إغلاق المحال التجارية، ومصادرة صلاحية السلطات المحلية في تحديد سياساتها المحلية في هذا الشأن وإعطاء الصلاحيات الكاملة بهذا الخصوص لوزير الداخلية.

7- منع العمل على صيانة سكة الحديد أيام السبت، والتي كانت ستؤدي إلى إسقاط الحكومة لولا تدخل نتنياهو في اللحظة الأخيرة ومنع العمل أيام السبت في هذه الصيانة.

تأزم العلاقة مع يهود العالم

وساهم تعزيز أرثوذكسية إسرائيل في تصديع العلاقات بين الجالية اليهودية في أميركا وبين إسرائيل. وقد بدأ هذا التصدع بشكل كبير بعد انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة، فقد راهن اليمين في إسرائيل على إدارة ترامب في إسقاط أيديولوجيته على أرض الواقع، وذلك على الرغم من التوجهات التي يحملها مستشارو ترامب، سواء تلك ذات الطابع العنصري وتلك ذات الملامح اللاسامية، وهو ما يعزز القطيعة بين اليهود في الولايات المتحدة وبين إسرائيل. وكتب مراسل صحيفة "هآرتس" في الولايات المتحدة الأميركية، حيمي شاليف، مثلاً أنه "لو كان باراك أوباما هو من يتلعثم حول إنكار المحرقة، كما يفعل دونالد ترامب هذه الأيام، لقامت الدنيا على طرفيّ المحيط، ولكان مشرعون جمهوريون سيطالبون برأسه، وكانت منظمات يهودية على اختلافها ستنتقده بكلمات شديدة اللهجة، وكان بنيامين نتنياهو سينشر بيانا شديد اللهجة [...] وكان وزراء الحكومة وأعضاء كنيست سيصفونه بأنه لاسامي، كاره لإسرائيل، مسلم من كينيا ومؤيد للنازية. ولكن عندما يكون الحديث عن ترامب، عزيز اليمين وإله المستوطنين، فلا أحد في الدولة يفتح فمه. الرئيس الأميركي الجديد شطب اليهود من البيان الذي أصدره في ذكرى اليوم العالمي للمحرقة، وأوضح بعد ذلك أن الأمر كان مقصودا وليست لديه نية للتراجع عنه. كل المنظمات اليهودية في الولايات المتحدة بمن في ذلك أولئك الذي ينتمون لليمين ومع شلدون إدلسون، احتجوا بشدة، كما أن مشرعين أميركيين احتجوا بشدة، برغم أن كل الضجة اختفت في عاصفة التقييدات التي فرضها ترامب- بالذات في يوم المحرقة العالمي- على استيعاب لاجئين ومهاجرين مسلمين، أما في إسرائيل فلا شيء، صمت مطبق".

غير أن الشرخ الكبير بدأ في هذه الاثناء بين إسرائيل واليهود في العالم عموما واليهود الأميركان خصوصا، وذلك على ضوء القرارين الذي اتخذتهما الحكومة الإسرائيلية الحالية: الأول بشأن إعطاء سلطة مطلقة وحصرية للمؤسسة اليهودية الأرثوذكسية في إسرائيل لتحديد سيرورة التهويد الشخصي (قبول شخص لليهودية)، حيث ترفض هذه المؤسسة أي سيرورة إدخال شخص لليهودية لا تكون خاضعة لمؤسساتها وحاخاميها، وهذا يضرب المئات من المؤسسات الدينية في العالم وينزع الشرعية عن عمليات التهويد التي يقوم بها رجال دين يهود لا ينتمون إلى اليهودية الأرثوذكسية (هناك أيضا التياران الإصلاحي والمحافظ في اليهودية واللذان تنزع عنهما اليهودية الأرثوذكسية شرعية التهويد، والبعض حتى يشكك في صفائهما الديني). أما القرار الثاني فهو القرار الذي اتخذته الحكومة الإسرائيلية بإلغاء التسوية التي تم التوصل لها بين التيارات الدينية اليهودية حول الصلاة في الحائط الجنوبي (حائط البراق) للمسجد الأقصى المبارك، فبعد أن اتخذت الحكومة قرارا بتقسيم مساحة الحائط وإعطاء حيز لليهودية الإصلاحية والسماح للنساء اليهوديات بإقامة شعائر دينية فيه، تراجعت الحكومة وألغت هذه التسوية مما أثار غضب المجموعات اليهودية في العالم وفي أميركا خصوصا.

وقد اعتبر توماس فريدمان الصحافي الأميركي اليهودي أن هذه القرارات تشكل خطرا على الأمن القومي الإسرائيلي. ويشير فريدمان إلى أن هناك ستة ملايين يهودي في إسرائيل، وستة ملايين يهودي في الولايات المتحدة، وأربعة ملايين في أنحاء العالم، حيث أن 75% من يهود العالم هم يهود غير أرثوذكس. واعتبر أن هذه القرارات ستحدث قطيعة بين إسرائيل ويهود العالم الذين يدعمون إسرائيل ماليا وسياسيا في دولهم. كما اعتبر أن هذه القرارات استراتيجية تؤثر على مستقبل العلاقات بين الطرفين وليس مجرد حدث عابر، فهي تعني في جوهرها نزع الشرعية عن يهودية غالبية يهود العالم من أجل تحقيق مصالح أحزاب يهودية أرثوذكسية في الائتلاف الحكومي.

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات