المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

بدأ الكنيست الإسرائيلي دورته الشتوية في 23 تشرين الأول الماضي، وسط مشاهد بارزة للعبة شد الحبل بين أطراف الائتلاف الحاكم، رغم تماسك الائتلاف، وغياب المؤشرات التي من شأنها أن تؤدي إلى حل الكنيست. ويبرز هذا التماسك أساسا حول كل السياسات اليمينية المتطرفة، بما فيه أخطر القوانين المطروحة على جدول الأعمال، مثل قوانين القدس و"القومية"، في حين أن التجاذبات تدور حول مبادرات في حزب الليكود، تهدف لتوطيد السيطرة على الحكم، وإبعاد رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو قدر الامكان، عن احتمال مواجهة لوائح اتهام خلال ولايته الحالية.

 

وستستمر الدورة الشتوية حتى منتصف شهر آذار المقبل 2018. وسيغيب عن هذه الدورة الملف الأكبر الذي تعالجه الدورات الشتوية عادة: الميزانية العامة للدولة، إذ أن إسرائيل تتبع نظام الميزانية المزدوجة منذ العام 2009. ولذا فإن موعد الموازنة العامة للعامين 2019 و2020، سيكون في خريف العام المقبل 2018.

ومن أبرز ما سيكون على جدول أعمال الكنيست في هذه الدورة، محاولات الائتلاف لتمرير قوانين تتعلق بالقدس المحتلة من بينها قانون يبقي على الوضع القائم ولكن مع ضم مستوطنات إلى منطقة نفوذ القدس، على أن تقام في المستوطنات، والضواحي الفلسطينية الكبرى، مجالس محلية، تابعة لبلدية الاحتلال. وهناك قانون آخر، يقضي بفصل ضواحي فلسطينية كبرى، من شمال وشرق المدينة، وضم مستوطنات جديدة للقدس. وقد بدأ بالفعل الائتلاف يتقدم بهذه المبادرة، بعد أسبوع من بدء الدورة الشتوية، بناء على ضوء أخضر من نتنياهو ذاته في نهاية الدورة الصيفية.

إلا أنه قبل ساعات قليلة من جلسة اللجنة الوزارية لشؤون التشريعات، لاتخاذ قرار بتأييد مشروع القانون الذي طرحه النائب يوآف كيش، من حزب الليكود، أعلن نتنياهو أن الإدارة الأميركية طلبت ايضاحات حول هذا القانون، وهي الصيغة الدبلوماسية "المهذبة" للاعتراض الأميركي عليه في هذه المرحلة.

كذلك فإن الائتلاف سيسعى إلى تمرير قانون ما يسمى "إسرائيل دولة الشعب اليهودي"، ولو بالقراءة الأولى، على الرغم من استمرار وجود خلافات في الائتلاف، وبين الائتلاف وأحزاب المعارضة الصهيونية. والخلاف الأساس، البادي حتى الآن، يعود إلى عدة تحفظات لدى كتلتي المتدينين المتزمتين، "الحريديم"، كتلة "شاس" لليهود الشرقيين، وكتلة "يهدوت هتوراة". وتحفظهما غير المعلن، يعود إلى عقيدتهما الدينية القائلة إن "مملكة إسرائيل" يقيمها المسيح حينما يأتي إلى العالم لأول مرة، وهذا ما قد يتعارض مع تثبيت الكيان الحالي على أنه "الدولة القومية للشعب اليهودي". لكن من أبرز التحفظات المعلنة، هو مطلبهما بزيادة وزن أكبر للشريعة اليهودية في التشريعات وفي جهاز القضاء، وأن لا يكون مبدأ المساواة ساريا على جهات مجتمعية يرفضها الحريديم.

وكانت الهيئة العامة للكنيست قد أسقطت في الاسبوع الأول من الدورة الشتوية مشروعين لذات القانون، الأول للنائبة تسيبي ليفني، رئيسة حزب "الحركة" في كتلة "المعسكر الصهيوني"، والثاني لرئيس حزب "يوجد مستقبل" المعارض يائير لبيد. وكلا القانونين لا يختلفان من حيث الجوهر الأساس، من ناحية الشعب الفلسطيني، تحت صيغة "دولة الشعب اليهودي"، إلا أن هذه الصيغة لا تأخذ أولوية في النص، كما في حال القانون الذي طرحه الائتلاف الحاكم، وصادق عليه الكنيست بالقراءة التمهيدية في الدورة الشتوية السابقة. كما أن هذين القانونين يُبرزان طابع المساواة للمواطنين، ويلغيان البند الوارد في صيغة الائتلاف، والذين يقلل من مكانة اللغة العربية كلغة رسمية.

شد الحبل ونسبة الحسم

الخلافات داخل الائتلاف التي ظهرت مع افتتاح الدورة الشتوية، كانت حول مشروع قانون قدمه النائب من حزب الليكود دافيد إمسالم، وبدعم حزبه، ويقضي بمنع اجراء تحقيقات جنائية مع رئيس الوزراء خلال ولايته، وبأثر رجعي، وهو قانون منسوخ عن كتاب القوانين الفرنسي. ويلقى معارضة واسعة جدا في وزارة العدل، والمستشار القضائي للحكومة. كما ظهرت خلافات حول قوانين وأنظمة إدارية أخرى. وبعد أن ظهر الأمر كأزمة بين أحزاب الائتلاف، تم الاتفاق على تأجيل البت في هذا القانون إلى شهر آخر، ولكن علمت التجربة أن التأجيل هو صيغة تورية للنزول عن الشجرة، وابعاد الأمر عن جدول الأعمال.
ولكن يبدو أن نتنياهو كان متحمسا للقانون الذي سيخدمه، دون أن يجاهر بهذا على الملأ، ولذا اختار خطوة ليستفز بها شركاءه في الحكومة، بتسريب معلومة لوسائل الإعلام مفادها أن نتنياهو معني بتخفيض نسبة الحسم في الانتخابات البرلمانية، من 25ر3% إلى 2%. وقد اتجهت الأنظار بسرعة إلى "القائمة المشتركة"، التي تضم أربع قوى تنشط في شارع فلسطينيي الداخل، إلا أن هدف نتنياهو الأول من هذا هو خلق بلبلة عند ثلاثة من شركائه.

وأول الشركاء تحالف أحزاب المستوطنين "البيت اليهودي"، الذي يضم ثلاثة أحزاب، وتخفيض نسبة الحسم سيقود حتما إلى حل هذا التحالف، القائم أساسا بين حزب "المفدال"، وتحالف "هئيحود هليئومي" الذي بحد ذاته يضم حزبين. كذلك فإن تخفيضا كهذا قد يضرب كتلة "يهدوت هتوراة" للحريديم الأشكناز، التي تضم ثلاثة أحزاب. وأيضا يفسح المجال أمام دخول حركة متطرفة منبثقة عن حركة "كاخ"، متحالفة مع المنشقين عن حركة "شاس"، فهذا التحالف لامس في الانتخابات الماضية نسبة الحسم، ومن شأن دخوله إلى الكنيست أن ينعكس سلبا على حركة "شاس" أساسا.

ومن ثم تأتي حسابات نتنياهو تجاه المعارضة، فنسبة حسم منخفضة ستؤدي إلى حل تحالف "المعسكر الصهيوني"، كما يراهن نتنياهو على أن نسبة كهذه ستؤدي إلى فض الشراكة في "القائمة المشتركة"، ما يؤدي إلى خسارة القوة الاجمالية للشركاء الحاليين مقعدا أو اثنين، ليتجها إلى معسكر اليميني المتطرف.

وفي الحال واجه نتنياهو معارضة من كافة الكتل المشاركة في الحكومة، ما جعله يبلغ وسائل الإعلام بأن ما نُشر كان "مجرد فكرة"، ولن تكون أي خطوة يعترض عليها شركاؤه في الائتلاف.

الانتخابات المبكرة

ما كان في الأيام الأولى من الدورة الشتوية، مؤشر لما سنشهده في هذه الدورة، إذ سنشهد ارتفاعا في التجاذبات داخل الائتلاف الحاكم، بعد مرور قرابة ثلاثة أعوام على الانتخابات عند انتهاء الدورة الشتوية، ما يجعل أحزابا ترى أن ما تبقى حتى الموعد القانوني للانتخابات (10/2019)، يتطلب تحقيق انجازات على الأرض لقطاعات مصوتيها. وهو ما يعني أن مركبات الائتلاف سترفع من سقف مطالباتها، وبشكل خاص تحالف أحزاب المستوطنين "البيت اليهودي"، الذي يرى أنه سيزيد قوته في أي انتخابات برلمانية مقبلة. ورغم ذلك فإن الائتلاف حتى الآن يشهد تماسكا قويا، لضمان استمرار عمل الحكومة، على الأقل حتى أواخر العام المقبل 2018. ولا يبدو أن التحقيقات مع بنيامين نتنياهو بشبهات الفساد، وفق ما هو قائم حتى كتابة هذا التقرير، ستؤدي إلى خلخلة الائتلاف. وهذا يعني أنه لا تبدو مؤشرات إلى أن يحل الكنيست نفسه في الدورة الشتوية.
ومن العوامل التي تدعم تقدير عدم تقديم موعد الانتخابات البرلمانية:

**الائتلاف متماسك، وهو يحقق انجازات على صعيد أجندته اليمينية المتشددة، سياسيا واقتصاديا، فيما الأحزاب المشاركة، وخاصة الحريديم، تحقق أيضا انجازات على مستوى مطالباتها لجمهورها. وقد تعلم اليمين الاستيطاني من تجربتين، في العامين 1992 و1999، حينما أسقط حكومة الليكود، وخسر الشراكة في الحكومة، وهو ليس معنيا بتكرار التجربة، طالما أنه يحقق مكاسب على الارض.
**كل استطلاعات الرأي تشير إلى أن كل الأحزاب والكتل المشاركة في الحكومة الحالية، ما عدا تحالف "البيت اليهودي"، ستفقد شيئا من قوتها البرلمانية، أو تحافظ عليها. وقد يكون الليكود الخاسر الأكبر، إذ تشير كل استطلاعات الرأي إلى أنه سيخسر ما بين 5 إلى 8 مقاعد، من المقاعد الـ 30 التي يسيطر عليها. كما أن الخسارة ستلحق بحزبي "كولانو"، بزعامة وزير المالية موشيه كحلون، و"يسرائيل بيتينو" بزعامة أفيغدور ليبرمان.
**أمر آخر، هو أنه في نهاية نيسان المقبل 2018، تحيي إسرائيل ذكرى قيامها الـ 70، وسيكون نتنياهو معنيا بقيادة هذه المناسبة، وهو رئيس حكومة ثابت، وليس في ظل معركة انتخابات.

وأمر لا يقل أهمية، هو أنه في نهاية تشرين الأول 2018، سيكون استحقاق انتخابات المجالس البلدية والقروية، وستكون الأحزاب منهمكة في خوض هذه الانتخابات، لتكون مقدمة للانتخابات البرلمانية التالية. ولكن هذا قد لا يكون عائقا، فيما لو قرر الائتلاف أو نتنياهو حل الحكومة. ففي العام 1988، تصادف استحقاق الانتخابات البرلمانية، مع استحقاق انتخابات المجالس البلدية والقروية، فتقرر تأجيل انتخابات المجالس البلدية إلى شهر شباط 1989. وكانت تلك الانتخابات البرلمانية، آخر مرّة تجري بموجب موعدها القانوني، بمعنى ليس انتخابات مبكرة.

وفي المقابل، هناك عوامل قد تستدعي تقديم موعد الانتخابات البرلمانية، ومن أبرزها كشف أمور جديدة في قضايا فساد تتعلق بشخص بنيامين نتنياهو، بشكل يمنعه من الاستمرار في منصبه، ولو جماهيريا. وحتى الآن، فإن التحقيقات ما تزال في وحدة الشرطة الخاصة. وحسب تقارير صحافية، فإن نتنياهو يماطل في التجاوب مع دعوة الشرطة لإجراء جلسات تحقيق أخرى، في قضيتين: الحصول على "هدايا" ثمينة من الثري أرنون ميلتشين. والثانية، محاولة ابرام صفقة مع صاحب السيطرة على صحيفة "يديعوت أحرونوت"، أرنون موزس، كي تصبح الصحيفة "ودية" تجاه نتنياهو.

والأمر الآخر، أن نتنياهو لا يواجه ضغطا برلمانيا، من حلفائه أساسا، للتنحي على ضوء شبهات الفساد التي تلاحقه، لا بل أن الائتلاف يسانده حتى الآن. وما يعزز هذا، أنه لا يوجد حراك شعبي واسع، يطالب نتنياهو بالتنحي، وهذا يساعد نتنياهو على الاستمرار في منصبه، لا بل ويهاجم الشرطة ويتهمها بملاحقته على خلفية نهجه السياسي.

كذلك أن يقرأ نتنياهو تحركات حزبية أو تطورات تهدد مكانته هو وحزبه في الانتخابات المقبلة، وبناء عليه يفاجئ شركاءه بحل الحكومة والاتجاه لانتخابات مبكرة. أو أن يرى تحالف "البيت اليهودي" الاستيطاني أن مصلحته باتت تستدعي انتخابات مبكرة، أيضا لتسديد ضربة لليكود، الذي اقتطع من قوته البرلمانية في انتخابات 2015، ليعود "البيت اليهودي"، أقوى مما هو الآن، ويكون وزنه وتأثيره أكثر في أي حكومة مقبلة.

التململ المحدود في اليمين العقائدي

يواصل نتنياهو إحكام قبضته على حزبه الليكود، ولا يظهر أي شخص قادر على منافسته، ولا حتى مجرد الإعلان عن نيته بالتنافس. وهذا نتيجة عمل نتنياهو على مدى السنوات السابقة، إذ دأب على تصفية كل شخص، أعلن أو كان في نيته الإعلان عن منافسته على زعامة الليكود، ولكل واحد كان هناك أسلوب خاص به، وفق الظروف.

نذكر على سبيل المثال الوزير السابق سيلفان شالوم، الذي شغل منصب وزير لأقل من عام في الحكومة الحالية، حتى ظهرت شبهات تحرش جنسي، استقال على اثرها فورا منصبه، ومن ثم تبين أن الشبهات ليس لها ما يثبتها، وتم اغلاق الملف ضده. ومن قبل في الحكومة السابقة، الوزير غدعون ساعر، الذي ضيّق نتنياهو عليه العمل في الحكومة، ووصل الأمر إلى حد التضييق على زوجته الثانية الإعلامية غيئولا إيفن. وهو ما يزال يتحرك في فلك الليكود. وآخر هؤلاء، حتى الآن، هو وزير الدفاع موشيه يعلون، الذي أطاح به نتنياهو قبل 17 شهرا، وليتبين لاحقا أن يعلون كان قد عارض صفقة الغواصات مع ألمانيا، التي تحوم حولها شبهات فساد قوية، قد تطال نتنياهو شخصيا. وأولئك الثلاثة لا يختلفون عن نتنياهو، بل منهم من ينافسه على يمينية أشد تطرفا.

وفي المقابل، فقد لمسنا حالة التململ لدى من تبقى من التيار العقائدي القديم لحزب الليكود، من جراء نهج نتنياهو. وانعكس هذا في خطاب رئيس الدولة رؤوفين ريفلين في جلسة افتتاح الدورة الشتوية. وقد كان ذلك الخطاب مؤشرا واضحا إلى تعاظم القلق لدى التيار الصهيوني العقائدي، من أداء رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وحزبه الليكود، وباقي أحزاب اليمين الاستيطاني. ويرى هذا التيار، رغم أنه يميني متشدد، أن أداء نتنياهو يقود إلى سيطرة مجموعات يمينية منفلتة، تشكل تهديدا مستقبليا على طابع الكيان، وقدرته على الاستمرار.

وتركز خطاب ريفلين في المحاولات لضرب جهاز القضاء، وبالذات صلاحية المحكمة العليا في نقض قوانين الكنيست. وانتقد السعي لضرب صلاحيات مسؤولين كبار في الجهاز، الذين يتخذون قرارات حساسة، مثل المستشار القانوني للحكومة، الذي هو أيضا بمثابة المدعي العام الأعلى للنيابة، إلى جانب سعي نتنياهو الدائم للسيطرة على وسائل الإعلام الرسمية. ويرى ريفلين، كآخرين، أن هذه المؤسسات والمسؤوليات هي مفاتيح "النظام الديمقراطي"، الذي يريد نتنياهو ضربه، في الوقت الذي تتزايد فيه شبهات الفساد ضد نتنياهو.

ويرى أقطاب التيار العقائدي أن اليمين المتطرف المنفلت، وبالذات من التيار الديني الصهيوني، الركن الأقوى في حكومات نتنياهو الثلاث الأخيرة، يضع إسرائيل على مسارات تصادم عديدة هي في غنى عنها، وبشكل خاص الصدام الداخلي بين اليهود أنفسهم. والقلق يتعاظم أكثر تجاه جمهور اليهود العلمانيين، الصامت حاليا أمام كل ما يجري، إلا أن التطورات الحاصلة ستنعكس سلبا عليه مستقبلا.

وهم ينتقدون نتنياهو، لكونه فتح الأبواب كليا أمام سطوة التيار الديني الصهيوني الاستيطاني، على المؤسسات الرسمية، رغم أنهم يشكلون حوالي 16% من اجمالي اليهود الإسرائيليين. وقال تقرير سابق إن غالبية مستشاري نتنياهو الحاليين هم إما من هذا التيار، أو من المقربين منه، فنتنياهو بحاجة لهذا التيار، لأنه الصوت السياسي الأعلى، وهذا ما يتيح له تعميق سطوته على النظام، لاستمرار بقائه في الحكم.

لكن هذا التيار العقائدي تلاشى تقريبا، أو تلاشى تأثيره داخل حزب الليكود، لصالح اليمين الاستيطاني؛ ولذا فإن نتنياهو لم يعد يرى بهذا التيار عائقا أمامه لاستمرار سيطرته على الحزب والحكومة حتى الآن.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات