المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

قال عالم الاجتماع الإسرائيلي ليف غرينبرغ، المحاضر في جامعة "بن غوريون" في بئر السبع، إنه يشعر دوماً بالاغتراب والغضب في الأيام الرهيبة للكينونة الإسرائيلية. وهذه الأيام الرهيبة تقع ما بين الثاني عشر من حشفان (بالتقويم العبري) وما بين الرابع من تشرين الثاني، بين يوم الطقوس الرسمية لإحياء ذكرى رحيل رئيس حكومة إسرائيلي في التاريخ العبري، وبين التاريخ العالمي لاغتيال إسحاق رابين. وأوضح أنه اغتراب وغضب على خطاب يتجاهل برمّته المشروع السياسي لرابين نفسه، الرجل الفعلي، وليس على ما يشكل نتاج المواجهة بين اليمين واليسار. فهل سمع أحد رابين يصف نفسه بـ"اليسار" أو يتحدث عن أنه في "معسكر اليسار"؟ هل كان يهاجم "اليمين" بأكمله أم الأجزاء المتطرفة فيه؟

 

وأضاف غرينبرغ في مقال جديد نشره هذا الأسبوع: إن الخطاب الجاري في الأيام الرهيبة للكينونة الإسرائيلية والمتمحور في "يسار- يمين" يمحو الذاكرة السياسية لمشروع رابين، والذي قُتل بسببه. وهذا التفكيك وقع بسرعة كبيرة، وظلّ على حاله. فلقد بدأ مع إحياء ذكراه في التاريخ العبري (بمبادرة من ميرتس!) مما شطب حق المواطنين غير اليهود في الحداد على القتل، وكذلك المعنى الإقليمي والدولي لبتر عملية أوسلو. فنحن فقط "شعب واحد"، وهذا النحن منغلق ويقصي العرب، الفلسطينيين، والدول المجاورة بالطبع. وهذا المعسكر هو بالضبط ما أراد رابين تفكيكه، بواسطة مشاركة الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة والحزب الديمقراطي العربي في قاعدة دعم حكومته، مع أن الأمر لم يجر على شكل مشاركة في الحكومة، إلا أنه وقّع معهما على اتفاقية ائتلافية. هذا الفعل كان في مركز التهجمات على حكومته واللينش الجماهيري الذي ارتكب بحقه أمام أعين نتنياهو وشارون المغلقة. أعضاء الكنيست من الليكود الذين شاهدوا وأبدوا ملاحظات، مثل دافيد ليفي ودان مريدور، تم رميهم من الشرفات. لقد اشتمل اللينش ليس على صورة رابين بكوفية عرفات فحسب، بل على خطابات اتهمته بخدمة منظمة التحرير الفلسطينية والفلسطينيين، وشعار "ليس لديه تفويض". أي تفويض لم يكن لديه؟ تفويض اليهود، "الشعب الواحد والدولة الواحدة"، ذلك لأنه يشارك "العرب" في الائتلاف الذي يدعمه.

ومضى قائلاً: حين سئل رابين عشيّة المظاهرة التي قُتل فيها ما إذا كان لديه تفويض للتنازل عن أراض بدعم العرب؟، أجاب أن ذاك هو "سؤال عنصري". ليس أن الادعاء عنصري، بل السؤال نفسه، والتشكيك في حق المواطنين العرب بأن يكونوا جزءا من العملية السياسية. فماذا لدينا منذ الاغتيال؟ عنصرية فقط، من اليمين ومن اليسار. بمجرد استخدام كلمتي يسار ويمين يجري إقصاء المواطنين العرب من الخارطة السياسية، فالعرب كما هو معروف ليسوا يميناً ولا يساراً، إنهم عرب. والخطاب العنصري لمعارضي رابين ومؤيدي القتل، تبناه "اليسار"، وهو خطاب تبلور حول الإجماع القومي، حيث أن الائتلاف يجب أن يقتصر على النقاء اليهودي، كاستنتاج سياسي في إثر الاغتيال. وهكذا فليس نتنياهو فقط، بل باراك أيضاً، أقام حكومة مع حزب المفدال، أكثر الأحزاب تطرفاً ضد أوسلو.

لقد سعى رابين إلى تفكيك خطاب الـ"يسار- يمين"، وبالذات حين نجح، تم قتله، لأنه نجح. وفور قتله عاد أنصاره الى خطاب الـ"يسار- يمين". لقد كافح رابين لتسمية معسكره كـ"معسكر السلام"، وتعريف الصراع السياسي على أنه بين مؤيدي السلام وبين معارضيه. كان بين المؤيدين بالطبع يمينيون دعموا أوسلو، وفلسطينيون ممن حاورهم، وعلى رأسهم عرفات. فمن الذي يتحدث بهذه المصطلحات اليوم؟ معارضو السلام ضموا متعصبي مجلس "يهودا والسامرة"، في المفدال والليكود، وكذلك حماس والآخرين، والذين توجب على الشريك الفلسطيني الساعي للسلام أن يلجمهم. حين خرج المتعصبون الى مظاهرات "الموت للعرب" بعد عمليات تفجير، وقام نتنياهو باستخدام هذه الحوادث لمهاجمة أوسلو، اتهمهم رابين بالتعاون الخفي مع حماس.
وبرأي غرينبرغ فإن المشروع السياسي لدى رابين ضم أيضاً تفكيك "معسكر اليمين"، الذي يرمز الى المركب الشرقي، الدين والمناطق الطرفيّة. ولهذا الغرض بنى حلفاً مع الحاخام عوفاديا يوسيف وشاس. فإشراك حزب شاس وزعيمه درعي في الحكومة لم يكن حيوياً لإنتاج أغلبية (كان هناك 61 عضو كنيست داعماً بدونه) بل لغرض تشكيل شرعية للحكومة وتفكيك الصورة الرمزية لليمين، لأن شاس دينية وهي صوت الشرقيين في المناطق الطرفية. وليس من قبيل الصدفة أن رابين عارض التظاهر دعماً له حتى الرابع من تشرين الثاني. فهو لم يرغب في مظاهرات "يساريين"، بل رغب بأن يأتي الى الميدان ويعتلي المنصة أيضاً معتمرو القبعة الدينية (كيبا)، مؤيدون لليكود وشرقيون إلى جانب العرب. وفي الرابع من تشرين الثاني، بعد توقيع اتفاقية أوسلو ب ومع تفاقم اللينش الجماهيري ضده، وافق على القدوم لمظاهرة، بعد اقتناعه أن هؤلاء جميعا آتون الى الميدان، وقد أتوا فعلا.

لكن عاد حزب العمل وبمساعدة نشطة من ميرتس إلى خطاب الـ"يمين- يسار" وإخراج شاس والعرب من المعسكر. تعهدوا "بمواصلة دربه" وانحرفوا بشدة عائدين الى التقسيمة اللاسياسية المطلقة ذاتها، والتي تؤدي الى هزيمة معسكر اليسار لأسباب ديموغرافية. فليس الموقف السياسي هو ما يجد تعبيراً عنه في الاقتراع، بل الانتماء القبلي، الواسع (يسار- يمين) أو الهويّاتي العيني: أشكناز، شرقيون، عرب، روس، حريديم، متدينون قوميون. أي أن كل شخص ملزم بولاء لهوية "أشخاص مثلنا" ليتم إقصاء الجدل جانباً حول مشاكل إسرائيل والدرب للخروج منها.

هكذا انتقلت السياسة الإسرائيلية برمّتها من ناحية مواقفها إلى اليمين السياسي (خلافاً للتصنيف القبلي على شاكلة "نحن يسار")، لأنه إذا كان المنتصر ديمغرافيا هو اليمين، فيجب علينا أن نكون على صورته. فالمعسكرات القبلية تتميز بالكراهية والخوف من الآخر. وهكذا يخاف "اليمين" ويكره العرب و"محبيهم"، بينما يخاف اليسار ويكره الحريديم ومعتمري القبعات الشائعة لدى المتدينين- القوميين. أما الوسط فيُبنى من خلال تبنّي مخاوف وكراهية الجميع، لأنه إذا لم تكن الخارطة السياسية قائمة على المواقف، فيجب على الوسط أيضاً أن يكون قبلياً. الإضافة التي يقدمها الوسط هي أن الزعيم عنصر لجذب الأصوات ويسيطر أيضاً بشكل دكتاتوري على حزبه، لكي يتحلى بالقدرة على المناورة والارتباط بمن يريد بعد الانتخابات (أنظروا نماذج: لبيد، كحلون، شارون، ليفني، ليبرمان). بهذين المعنيين، طبعاً، حوّل آفي غباي بممارساته "المعسكر الصهيوني" الى حزب وسط.

وتساءل غرينبرغ: ماذا تبقى من التسوية مع الفلسطينيين وتغيير سلم الأفضليات، وهما ما يشكلان بمثابة إرث رابين؟. وماذا تبقى من تغيير الخارطة السياسية وتفكيك المعسكرات القبلية الديمغرافية؟ وأجاب قائلاً: لا شيء. بالتعاون ما بين زعماء الـ"يمين- يسار" جرى محو درب رابين السياسية.

وتابع: لا أقترح القيام بمثلنة رابين، فقد أسس على امتداد حياته قوة إسرائيل على الجيش، وكان قائد هيئة أركان الاحتلال ومؤسسه عام 1967، وكوزير للدفاع دعا الجنود إلى تكسير عظام الفلسطينيين في الانتفاضة الأولى. وإجراءات أوسلو كانت إشكالية أيضاً، فلقد رأى في عرفات، أساساً، شريكاً في قمع حماس، وبمفهوم ما "متعاونا" سيهادنه في المستقبل ويقبل بالتنازل عن القدس والمستوطنات في الكتل، وإن لم يتنازل فسيظل حاكماً لرام الله فقط. ومن غير الواضح ما إذا مخططات رابين هذه كانت ستنفجر من تلقاء نفسها في الانتفاضة الثانية، لكن ما أقترحه هو فهم تحرّكات رابين لبناء قوة سياسية لمعسكر السلام، وفهم ظروف الاغتيال وتداعياته حتى يومنا هذا. وكل هذا يبدو لي للأسف خارج نطاق الخطاب الجماهيري الإسرائيلي العام.

المصطلحات المستخدمة:

الكنيست, الليكود, باراك, معسكر السلام

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات