المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

أدى اللقاء بين الإستراتيجيا الفلسطينية المشار إليها (راجع القسم الأول من هذا المقال في العدد السابق من "المشهد الإسرائيلي") وبين الطريقة الإسرائيلية في إدارة المفاوضات إلى تآكل في المواقف الأساسية لإسرائيل.

ووفقا للمقابلات في برنامج "همكور" (قناة التلفزيون الإسرائيلية العاشرة) فقد كانت الوفود الإسرائيلية منقسمة في مواقفها، وذكر صائب عريقات أن الإسرائيليين كانوا منشغلين في 95% من وقت المفاوضات في مفاوضات داخلية جرت بين بعضهم البعض. فقد كانت هناك أحيانا عدة قنوات للمفاوضات، والتي لم يكن ثمة تنسيق فيما بينها كما يبدو. بالإضافة إلى ذلك فقد أجرى سياسيون إسرائيليون اتصالات غير رسمية ومحادثات "تشاورية" مع الفلسطينيين وذلك دونما تنسيق مع رئيس الحكومة الإسرائيلية، كذلك فقد أديرت المفاوضات بتسرع وخرجت عن منهج المفاوضات المألوف، وعلى سبيل المثال فقد أبدى مندوبون إسرائيليون مثل الوزير شلومو بن عامي استعدادا لتقديم تنازلات كبيرة فيما يتعلق بحجم الانسحاب الإسرائيلي (95% عوضا عن 92%)، ومنح الفلسطينيين سيادة في الحرم القدسي (المسجد الأقصى) كما عرضوا اقتراحا بشأن أعداد اللاجئين الذين ستقبل إسرائيل بعودتهم إلى داخل حدودها، وذلك دون أن يُظهر الفلسطينيون استعدادا لدفع المفاوضات قدما. فضلا عن ذلك فقد فسر مسؤولون إسرائيليون كبار (ومنهم أولمرت وبيريس) تصريحات فلسطينية تكتيكية "مُطمئنة" وغير ملزمة في موضوع اللاجئين والإعتراف المتبادل، كما لو أنها تُعبر عن مواقف أساسية للجانب الفلسطيني في المفاوضات.

والسؤال هنا: هل تنازلت إسرائيل بسرعة عن مكتسباتها في المفاوضات أم أن أسس المفاوضات كانت مهلهلة أصلا؟

مثل هذا النقاش أو الجدل نشب بعد انهيار المفاوضات في العام 2001.

وقد رفض الوزير بن عامي إدعاءً من جانب شمعون بيريس بأن تعثر التوصل إلى تسوية دائمة مرده ذهاب المندوبين الإسرائيليين شوطا بعيدا أكثر من اللازم في تقديم التنازلات، في حين ادعى بن عامي في المقابل بأن فشل المحادثات ناتج عن استنادها على الأسس الهشة لعملية أوسلو (التي كان بيريس ذاته مسؤولا عنها). وقال بن عامي إن "فلسفة أوسلو انهارت كليا" موضحا أن عملية أوسلو استندت على مفهوم إسرائيلي (لا أساس له) يمكن بموجبه إحضار مجموعة من الأشخاص من تونس وإعطاؤهم مساحات من الأرض وأن يتولوا هم أنفسهم المحافظة على أمن إسرائيل في الضفة الغربية وقطاع غزة وأنه يمكن في قابل الأيام التفاوض مع أفراد هذه المجموعة حول التسوية الدائمة.

في عهد أولمرت لم يجرِ إستخلاص عبر المفاوضات التي جرت فيما مضى، إذ واصل الجانب الإسرائيلي البحث عن الأشجار دون أن يرى الغابة.

ولقد احتاجت إسرائيل لسنوات طوال كي تدرك أن ثمة بين الطرفين فجوات عميقة جوهرية وليس كمية فحسب. وعلى ما يبدو لم يجرِ فهم الحاجة الإستراتيجية للرئيس "أبو مازن" وأهمية مسائل العام 1948 (عودة اللاجئين، عدم الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية والموافقة على إنهاء النزاع) في نظر زعيم يرى نفسه لاجئا من صفد وثوريا يقاتل من أجل حقوق الفلسطينيين، وليس كزعيم يساهم بدور فاعل في إقامة الدولة الفلسطينية بعد قيامها.

ينبغي إستخلاص العبر من الطريقة التي أدارت بها إسرائيل المفاوضات مع الفلسطينيين، والتي كان يمكن استخلاص جزء منها من المفاوضات حول اتفاقيات أوسلو.

إسرائيل: طرق عمل ممكنة

في ضوء ما ورد آنفا، ليس هناك حاليا أفق سياسي مشترك للتوصل إلى تسوية دائمة، غير أنه ما زال يمكن المراهنة على أن مثل هذا الأفق سيدشن مستقبلا إذا ما عرضت الزعامة الفلسطينية مواقف واقعية تستجيب لحل (دولتين لشعبين)، وتتوقف عن مساعيها الرامية إلى تقويض هوية دولة إسرائيل.

ويمكن في ظل هذه الظروف تفحص الإمكانيات المتاحة أمام إسرائيل:

أولا- مواصلة المفاوضات حول التسوية الدائمة. من حيث المبدأ، على إسرائيل أن تبقي الباب مفتوحا لأية مفاوضات سياسية. غير أن العودة إلى المفاوضات بصيغتها السابقة تنطوي على إشكالية، ذلك لأن الفجوات جوهرية، وبحجم التوقعات تزداد أيضا خيبات الأمل والعنف، كما ثبت في الانتفاضة الثانية بعد فشل المحادثات في كامب ديفيد. وبناء على ذلك، من المستحسن في موضوع التسوية الدائمة أن تجري المحادثات في إطار طواقم مقلصة جدا، وسط التركيز على المسائل الجوهرية. بالإضافة إلى ذلك، وفي اختبار النتيجة، فإن المبادرات الإسرائيلية لن تساهم في دفع المفاوضات قدما، ومن هنا فإنه ما من جدوى في تقديم مبادرات جديدة لا تلتقي مع مواقف مرغوبة لدى الجانب الفلسطيني، بل ويمكن لها أن تضعف موقف إسرائيل في المفاوضات. في الوقت ذاته، ينبغي المساعدة في تحسين مكانة السلطة وبلورة أفق اقتصادي - اجتماعي في الضفة الغربية وقطاع غزة، الأمر الذي من شأنه أن يساهم في إيجاد أفق سياسي مشترك في المستقبل. ينبغي مطالبة السلطة الفلسطينية مجددا بوقف التحريض في جهازي التعليم والإعلام الفلسطينيين، والذي يشكل دعامة للإرهاب وعقبة ثقافية أمام إيجاد أفق سياسي مشترك.

ثانيا- الاحتفاظ بإمكانية للتوصل إلى تسوية دائمة على المدى البعيد. يتعين على إسرائيل أن ترسم لنفسها أفقا سياسيا واضحا، سواء كانت هناك مفاوضات أم لم تكن، وذلك لأغراض داخلية إسرائيلية وأغراض خارجية تتعلق بالساحة الدولية. ويرتبط هذا الأمر برسم وتعيين خطوط مستقبلية في المفاوضات لا يتم التراجع عنها، وسياسة استيطانية تبقي خيارا إقليميا للتوصل إلى تسوية دائمة، حتى وإن لم تكن مثل هذه التسوية بادية للعيان لغاية الآن، كالامتناع على سبيل المثال عن توسيع المستوطنات اليهودية خارج نطاق جدار الفصل والكتل الاستيطانية، وعدم إقامة مستوطنات جديدة وعدم توسيع مساحة المستوطنات القائمة، إلى أن يتم البت في مصيرها في نطاق التسوية الدائمة. ويمكن لإسرائيل في هذه الأثناء القيام بنقل مناطق معينة إلى سيطرة السلطة الفلسطينية، لإعتبارات مختلفة.

ثالثا- مفاوضات للانفصال في نطاق اتفاق. يرفض "أبو مازن" التوصل إلى اتفاق انتقالي آخر، لا يشمل انسحابا إسرائيليا يستند إلى خطوط الرابع من حزيران 1967 (وسط تبادل أراضٍ)، ولكن ربما يوافق على إجراء مفاوضات للتوصل إلى "اتفاق جزئي"، هدفه إقامة دولة فلسطينية في حدود التسوية الدائمة، مع الإبقاء على مسائل العام 1948 مفتوحة. في ضوء عدم حدوث تغيير عميق في مواقف الفلسطينيين فيما يتعلق بمسائل العام 1948، فإن هذا السبيل يمكن أن يكون الوحيد الممكن للتوصل إلى إتفاق طويل الأمد.

رابعا- انسحاب أحادي الجانب من الضفة الغربية. ثمة وجهة نظر أخرى، مؤداها أنه يتعين على إسرائيل القيام بإنسحاب عميق أحادي الجانب في الضفة الغربية، وذلك على غرار "خطة الانطواء" من العام 2006. أي إعادة إنتشار قوات الجيش الاسرائيلي وإخلاء ما لا يقل عن 80 ألف مستوطن، من المناطق الواقعة خارج حدود مدينة القدس والكتل الإستيطانية والأغوار. هذا الطريق يمكن له أن يقلص الاحتكاك اليومي بين إسرائيل والسكان الفلسطينيين في الضفة الغربية، غير أن من المشكوك فيه إذا ما كان في مقدوره أن يصوغ واقعا جديدا، يعيش فيه كل طرف حياته بطمأنينة وهدوء بشكل منفصل. ومن المرجح هنا أن لا يتقلص تهديد الإرهاب، وأن يقوض الاستقرار الداخلي، وأن يغدو اتفاق التسوية الدائمة بعيدا أكثر. كما ومن المتوقع أن لا يرى العالم في ذلك خطوة نحو إنهاء "الاحتلال"، وأن لا يؤدي ذلك إلى إعفاء إسرائيل من مسؤوليتها تجاه مصير السكان في الضفة الغربية، فضلا عن أن مثل هذه الخطوة لن تساهم في تعزيز مكانة إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية. ولا بد من أن نضيف إلى ذلك أثمانا مؤكدة في الساحة الداخلية الإسرائيلية من قبيل معارضة شديدة للانسحاب ولإخلاء مستوطنات وتكاليف مالية باهظة، وغير ذلك. إن من المشكوك فيه أن تكون مثل هذه المخاطر والأثمان مبررة دون التوصل إلى تسوية دائمة. وعليه من الأفضل إذن الانتظار لريثما يدشن أفق سياسي في المستقبل، يتيح مثل هذا الاتفاق، حتى وإن كان الأمر يستوجب انتظار صعود زعامة فلسطينية محلية، تعطي أفضلية لإقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة ولرفاهية سكانها، على مطالب غير واقعية تقوض هوية إسرائيل.

المصطلحات المستخدمة:

رئيس الحكومة

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات