المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

تثبت أربعة تقارير مختلفة نشرت في إسرائيل خلال الأيام والأسابيع الأخيرة واقع التردي الخطير، القائم والمتفاقم، في كل ما يتعلق بالأوضاع والخدمات الصحية بين المواطنين الفلسطينيين في الداخل. والحقيقة المؤسية التي تظهر على نحو بارز من هذه التقارير كلها هي أن الأوضاع والخدمات الصحية بين العرب الفلسطينيين مواطني دولة إسرائيل تبقى متخلفة عنها في إسرائيل بشكل عام وعنها بين المواطنين اليهود في الدولة، بما يشير إلى استمرار ـ بل تعمق ـ سياسة التمييز والتفرقة، رغم كل ما يُقال ويُشاع عن خطوات وإجراءات حكومية رسمية "تحاول" سد ولو جزء من الهوة السحيقة الناجمة عن عقود متواصلة ومتراكمة من سياسة الحرمان والتمييز العنصريين ضد المواطنين العرب، في شتى مجالات الحياة ومناحيها ولكن في المجال الصحي ـ الطبي بوجه خاص. وإذا كانت المعطيات الرسمية قد أشارت إلى أن وزارة الصحة الإسرائيلية قد خصصت أقل من 6ر0% فقط من مجمل ميزانيتها في العام 2002 لتطوير المرافق الصحية في المدن والقرى العربية داخل إسرائيل، فإن التقارير الأخيرة تأتي لتؤكد أن هذه النسبة، أو ما يقاربها، لا تزال على حالها بشكل عام وأن التغيير الجوهري المزعوم لا يزال "حلما" بعيد المنال.

التقرير الأول هو نتائج "المسح الصحي البيئي الأول للمجتمع العربي الفلسطيني في البلاد" الذي أجرته "جمعية الجليل للبحوث والخدمات الصحية" (مقرها في مدينة شفاعمرو)، والتي ستُطرح تفصيليا وبالكامل خلال مؤتمر خاص تعقده هذه الجمعية في الثلاثين من شهر تشرين الثاني الجاري بعنوان "أزمة الصحة في المجتمع الفلسطيني في البلاد".

ثُلث العرب في سن 21 عاما وفوق يعانون أمراضاً مزمنة!

وتؤكد نتائج هذا المسح، مما نشر منها حتى الآن، خطورة الأوضاع الصحية والبيئية التي يعاني منها المجتمع العربي في إسرائيل، إذ تبين أن عدد المصابين بأمراض مزمنة من بين المواطنين العرب في إسرائيل قد تضاعف مرتين خلال العقد الأخير وأن نحو الثُلث من بين المواطنين العرب أبناء 21 عاما وما فوق يعانون من أمراض مزمنة! ويحتل مرض السكري المرتبة الأولى بين هذه الأمراض المزمنة، إذ يعاني منه نحو 7ر12% من المواطنين العرب في إسرائيل، يليه مرض ضغط الدم المرتفع بنسبة 11% من المواطنين العرب، ثم مرض ارتفاع نسبة الكولسترول في الدم بنسبة 10% من المواطنين العرب.

وتبين نتائج المسح، أيضا، أن نسبة المواطنين العرب المصابين بمرض السرطان، على اختلاف أنواعه، قد سجلت ارتفاعا ملحوظا خلال السنوات العشر الأخيرة، إذ بلغت نسبتهم الآن نحو 7ر0% من مجمل المواطنين العرب في إسرائيل، مقابل 2ر0% في العام 2004.

وفي هذا السياق، كانت "جمعية مكافحة السرطان" في إسرائيل قد نشرت مؤخرا معطيات مقلقة جدا عن عدد الرجال العرب في إسرائيل المصابين بمرض سرطان الرئة، نتيجة "التدخين الثقيل"، مشيرة إلى أن نحو نصف (50%) الرجال العرب في إسرائيل يُعتبرون "مدخنين ثقيلين" ("المدخن الثقيل" هو الذي يدخّن في اليوم الواحد 23 سيجارة على الأقل).

وأشار معدّو "المسح الصحي" إلى واقع "عدم توفر أية عيادات خاصة لمعالجة الأمراض المزمنة في الوسط العربي"، وخاصة في شمال البلاد، وحقيقة أن الأغلبية الساحقة من المواطنين يُعالَجون لدى أطباء في عيادات خاصة "وأحياناً، تجد لدى الطبيب الواحد أكثر من 2000 مُعالَج، وهو أمر غير معقول، على الإطلاق"! وهو ما يؤدي، في النتيجة الحتمية، إلى أن "المرضى لا يتلقون العلاج الطبي الملائم، مما يعيق أيضا عملية التشخيص المناسب"!

وأشارت معطيات المسح إلى أن برامج الوقاية والعلاج في إسرائيل تُنظَّم وتنفَّذ للجمهور اليهودي بصورة رئيسية، أي باللغة العبرية، ثم تجري ترجمتها لاحقاً للغة العربية، بمعنى أن هذه البرامج لا توضع من قبل أخصائيين عرب ولا تكون موجّهة للجمهور العربي بشكل مباشر، على كل ما ينطوي عليه ذلك من قصور وعدم ملاءمة في كثير من المجالات والأحيان. فهذه البرامج "ليست متاحة بوفرة وسهولة للجمهور العربي، ليست مُعدّة بما يتلاءم مع نمط الحياة في المجتمع العربي، مع التقاليد والقيم، الأمر الذي ينعكس في كونها، في نهاية المطاف، أقل نجاعة بكثير وأقل إقبالا من جانب المعنيين العرب، بكثير".

ويورد معدو المسح مثالا معبرا جدا يعكس مدى التمييز والإهمال الحكوميين: في قرية كابول (في الجليل)، مثلا، ينشط طبيب أسنان بشكل تطوعي محاولاً مكافحة التدخين بين أهالي القرية. أعدّ خطة وقائية ـ علاجية متكاملة لهذا الغرض، تتلاءم مع تقاليد السكان ونمط حياتهم ومنظومتهم القيمية، لكن وزارة الصحة ترفض رصد أية ميزانية لتمويل تنفيذ هذه الخطة!!

ويقرّ المواطنون العرب، إجمالا، بأنهم يعانون من مستوى متدن جدا من المعرفة والوعي بشأن حالتهم الصحية، وهي معرفة حيوية جدا من أجل الوقاية من العدوى والإصابة بالأمراض، من جهة، ومن أجل المساعدة في العلاج والشفاء، من جهة أخرى. فقد قال 4ر48% من أبناء 18 عاما وما فوق إنهم يفتقرون إلى أية معرفة بشأن الأمراض المزمنة أو أن مستوى المعرفة لديهم متدن جدا وغير كاف، البتة. وكذلك الحال بين المصابين بأمراض مزمنة، إذ قال النصف منهم (50%) إن معرفتهم بشأن الأمراض التي يعانون منها قليلة جدا، فيما قال 8ر53% إنهم لا يعرفون شيئا، تقريبا، عن الأمراض الوراثية!

ويعرض المسح، إجمالا، صورة قاتمة عن الأوضاع الصحية بين المواطنين العرب في إسرائيل، إذ هي من بين الأسوأ على الإطلاق في إسرائيل، وخاصة بين المواطنين البدو في النقب. وتبين أن "مأمول الحياة" (متوسط عدد سنوات العمر التي يعيشها الإنسان) بين المواطنين العرب يقل بثلاث سنوات عنه بين المواطنين اليهود في إسرائيل وأن "مأمول الحياة" بين الرجال العرب في إسرائيل تراجع بسنة واحدة في المتوسط خلال العام 2014، مقابل ارتفاع طفيف في "مأمول الحياة" بين الرجال اليهود.

وشمل المسح، أيضا، معطيات مقلقة حول المشكلات البيئية الخطيرة في المجتمع العربي، والتي تؤثر بشكل مباشر على صحة المواطنين. وأشار أكثر من نصف المواطنين العرب إلى وجود مزابل غير منظمة تشكل آفات بيئية خطيرة، علاوة على انتشار العدوى من جراء الحيوانات الضالة المنتشرة في القرى والمدن العربية عامة.

الوزن والسمنة الزائدة والحوادث

في تقرير آخر صدر عن المكتب المركزي للإحصاء في إسرائيل الأسبوع الفائت، تبين أن 40% من طلاب الصف السادس الابتدائي (11 ـ 12 عاما) بين المواطنين العرب في إسرائيل يعانون من زيادة في الوزن أو من السمنة الزائدة، وهي نسبة أعلى بكثير منها بين الطلاب في السن نفسه في الوسط اليهودي.

وتبين من التقرير الرسمي، المبني على معطيات حول الطول والوزن تم جمعها من المدارس المختلفة خلال العام 2015، أن 21% من الطلاب العرب في صفوف الأول حتى السادس الابتدائية (سن 6 – 12 سنة) و31% من طلاب صفوف السابع (سن 13 عاما) يعانون من ارتفاع في "مؤشر كتلة الجسم" (BMI) يشير إلى زيادة في الوزن أو سمنة زائدة، وهي نسبة لم تتحسن منذ العام 2011!!

وبينت المعطيات الرسمية أن نسبة زيادة الوزن أو السمنة الزائدة بين طلاب صفوف السابع العرب هي الأعلى في البلاد وتبلغ نحو 40% منهم! وهذا، علماً بأن زيادة الوزن والسمنة الزائدة هي من بين الأسباب الرئيسة للإصابة بأمراض القلب المختلفة، مرض السكري وأمراض أخرى، علاوة على ما تسببه من مسّ كبير بجودة الحياة وعلى كونها ترتبط بأمراض أخرى بصورة غير مباشرة.

وفي المعطيات أن الزيادة الأكبر في نسبة الطلاب العرب الذين يعانون من زيادة الوزن والسمنة الزائدة تحصل بين الصف الأول الابتدائي وبين الصف السابع الابتدائي: من 23% إلى 38%. وسجل ارتفاع حاد، بشكل خاص، بين الطلاب العرب البدو في النقب، من 13% في الصف الأول إلى 27% في الصف السابع.

ويتطرق تقرير مكتب الإحصاء الرسمي للمرة الأولى إلى إصابات الأولاد من جراء حوادث الطرق في إسرائيل، فتبين أن نسبة الأولاد العرب الذين أصيبوا جراء حوادث طرق خلال العام 2015 تفوق نسبتهم من بين الأولاد في إسرائيل عامة: فهم يشكلون 25% من الأولاد في إسرائيل، بينما شكلوا نسبة 32% من الأولاد الذين أصيبوا في حوادث الطرق في البلاد ونسبة 58% من الأولاد الذين قُتلوا جراء حوادث الطرق في إسرائيل خلال 2015.

الانتحار والخدمات النفسية في المجتمع العربي

نسبة محاولات الانتحار في المجتمع العربي هي الأعلى في إسرائيل بالمقارنة مع نسبتها في الوسط اليهودي: 4ر24 محاولة انتحار لكل 100 ألف مواطن بين المواطنين العرب، مقابل 11 محاولة في الوسط اليهودي ـ هذا ما بينته معطيات رسمية نشرتها وزارة الصحة الإسرائيلية مؤخرا.

وكان بحث علمي قد أجري مؤخرا فحص مميزات عمليات الانتحار التي وقعت في المجتمع العربي في إسرائيل بين الأعوام 1999 و 2011 ومحاولات الانتحار التي جرت في هذا المجتمع بين الأعوام 2004 ـ 2012.

وتبين من نتائج هذا البحث أن نسبة عمليات الانتحار بين المواطنين "المسلمين غير البدو" كانت الأقل وبلغت 5ر2 حادثة لكل 100000 مواطن، تليها النسبة بين "المسلمين البدو" و"العرب المسيحيين" إذ بلغت 3ر3 حادثة لكل 100000 مواطن، بينما سجلت نسبة حوادث الانتحار الأعلى بين "الدروز" بواقع 7ر8 حالة لكل 100000 مواطن، وكانت النسبة الأعلى من هذه هي بين الرجال الشبان بوجه خاص.

وأظهرت نتائج البحث أن نسبة حالات الانتحار كانت أعلى بين الرجال العرب، مقارنة بالنسبة بين النساء العربيات، وأن نسبة حوادث الانتحار الأعلى بين المواطنين العرب في إسرائيل كانت بين أبناء 15 ـ 24 عاما. أما في محاولات الانتحار، فقد كانت النسبة الأعلى بين "المسلمين غير البدو"، بواقع 8ر84 محاولة لكل 100000 مواطن، تليها النسبة بين "المسلمين البدو" بواقع 4ر72 محاولة، ثم كانت النسبة الأدنى بين "العرب المسيحيين" بواقع 6ر56 محاولة. هذا، علماً بأن النسبة العامة لمحاولات الانتحار في إسرائيل بلغت 8ر89 محاولة لكل 100000 مواطن.

وتتصل هذه المعطيات، بصورة مباشرة، بأوضاع الخدمات النفسية وخدمات الطب النفسي في المجتمع العربي في إسرائيل، والتي تعاني هي الأخرى من نواقص وقصورات عديدة وخطيرة تجعلها متخلفة كثيرا عما هي عليه في الوسط اليهودي، وفق ما أكدته مؤخرا تقارير ومعطيات إسرائيلية رسمية.

فخلال الجلسة الخاصة التي عقدتها "لجنة الكنيست للعدالة التوزيعية"، الأسبوع الماضي، بينت معطيات رسمية حصلت عليها اللجنة ووضعتها على طاولة أبحاثها أن المجتمع العربي يعاني من نقص حاد وخطير في عدد الأخصائيين النفسيين والأطباء النفسيين العاملين في القطاع العام (الحكومي والرسمي، خلافا للقطاع الخاص)، كما في عدد العيادات النفسية أيضا.

وبحثت اللجنة في أوضاع الخدمات النفسية في القطاع العام في إسرائيل عامة، على ضوء "خطة الإصلاح" التي بدأ تطبيقها في هذا المجال منذ أكثر من سنة واحدة بقليل (في تموز 2015). وتبين خلال الجلسة أن تراجعا حادا وخطيرا حصل في مجال الخدمات النفسية في القطاع العام في المناطق النائية في إسرائيل بشكل عام، وفي المجتمع العربي بشكل خاص، منذ البدء بتطبيق "خطة الإصلاح" المذكورة.

وقال رئيس اللجنة البرلمانية، عضو الكنيست ميكي زوهر (ليكود): "لقد تبين لنا وجود مشاكل عديدة في تطبيق خطة الإصلاح، مع تأكيد خاص على الوضع في الوسط العربي"! بينما اعترفت مندوبة وزارة الصحة الإسرائيلية، أمام اللجنة، بأنه "لا يزال هنالك نقص كبير في الوسط العربي في القوى البشرية، في عدد الأخصائيين النفسيين وفي عدد الأطباء النفسيين ـ وخاصة للأولاد والشباب".

وكان التأكيد على خطورة الوضع المزري في مجال الخدمات النفسية في المجتمع العربي قد ورد، من قبل أيضا، في تقرير خاص وضعه "مركز الأبحاث" التابع للكنيست، وكذلك في تقرير مراقب الدولة من العام 2010.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات