المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

في أواخر شهر تشرين الأول المنصرم، في حديث مع رئيس تحرير صحيفة "ذي ماركر" الاقتصادية، عبّر وزير التربية والتعليم الاسرائيلي نفتالي بينيت (رئيس "البيت اليهودي") مجددًا عن رؤيته لجهاز التعليم الاسرائيلي. وقد صاغها كالتالي: "يجب على جهاز التعليم أن يوفّر الصهيونية وكذلك التفوّق. يمكنه

توفير خمس وحدات تعليمية في الرياضيات وكذلك تربية قيميّة. القيم لا تناقض التفوّق". السؤال بالطبع ليس عن ضرورة التثقيف على القيم، هذا سيوافق عليه معظم العالم، بل عن فحوى ومضمون وماهية القيم المقصودة.

معادلة الوزير عن "الصهيونية والتفوّق" سبق أن عبّر عنها في أيلول 2016. ففي مؤتمر تعليمي في مدينة قيسارية لصندوق يقدّم برنامج دراسات يهودية للمدارس الحكومية، اعتبر بينيت أن "التعلم عن اليهودية والتفوق في الموضوع، أهم حسب رأيي من الرياضيات والعلوم". قلنا إنها "معادلة" لكنها في الواقع ترتيبٌ هرمي واضح: الصهيونية/ الأيديولوجية أولاً وبعدها يأتي التعليم. وعندما انتقد البعض الوزير على توجّهه رفع الوتيرة قائلا: "بالرغم من أن اسرائيل هي قوة كبرى في مجال التكنولوجيا، مصدّرة للعلم والاختراعات للعالم، لكن علينا أيضًا أن نكون قوة روحية كبرى تصدر العلم الروحي للعالم. هذا هو الفصل القادم في الرؤية الصهيونية. بهذه الطريقة سنعود لنكون نورًا للأمم. لأنه من صهيون ستخرج التوراة، وكلمة الله من القدس".

هذا السياسي لا يمزح حين يتحدّث بلغة لا يخجل بها أيّ أصولي في العالم، بل لديه برنامج متكامل وحدّد أيضًا "الفصل القادم في الرؤية الصهيونية". المسألة تتعدى وزارة ومناهج التعليم. وعن هذا سأفصّل لاحقًا.

قبل استعراض عدد من المضامين أو الخطوط الموَجِّهة للسياسة التعليمية التي ينتهجها الوزير، يجدر تقديم "مساهمته" في التضييق على كل إنتاج مسرحي لا ينصاع لإملاءات الائتلاف الحكومة وسياسته.

صورة بينيت تختلف عن صورة وزيرة الثقافة ميري ريغف في المحصّلة التي تقدمها عنهما الأوساط الليبرالية الإسرائيلية. فبينما تقدّم الثانية في هيئة المتعصبة رافعة الحراب على منتجي الثقافة – وهذا صحيح إلى حد بعيد – تتعاطى تلك الأوساط بكثير من التوقير مع الأول. ربما لأنه ليس شرقيًا بل يمثل نخبة التيار الديني- القومي غربيّ الأصول. وربما لأنه يعمل بصمت ويقود حربه بشكل حاذق في جهاز ضخم، بعيدًا عن مصالح النخبة المثقفة المباشرة التي تنشغل عادة بنفسها وتترك ما عداها، لتظل تتفاجأ في كل مرة كيف انهزمت أمام قوى اليمين.

وسط الجدل عن غزوات ريغف على مراكز ثقافة تتجرأ على التذكير بوجود شيء اسمه احتلال، خرج بينيت بموقف بزّ فيه الجميع. فقد قرّر في شباط 2016 فرض تغييرات سياسيّة على سلّة الثقافة في وزارة التعليم. سلّة الثقافة وفقًا لتعريفها الرسمي هي "برنامج تربوي مسؤول عن تعريف الطلاب بالثقافة والفنون كقسم من التعليم الرسمي (...) في ستة مجالات – مسرح، رقص، موسيقى، سينما، أدب وفن تشكيلي". الوزير قرر أن أية مسرحية يرفض منتجوها وطاقمها عرضها في المستوطنات، سوف تُشطب من السلة الثقافية.

كتبت صحيفة "هآرتس" أنه قبل تعيين بينيت وزيرًا للتعليم، لم تكن هناك أية رقابة على اختيار مسرحيات وعروض للمدارس. وتمتع مديروها بحرية اختيار مسرحيات من خارج "السلة الثقافية". وقال عضو في إحدى اللجان المسؤولة عن اختيار المسرحيات إن الوزارة بحثت في وضع معيار ينص على مطالبة كل فنان بالالتزام بعرض عمله المسرحي "خارج الخط الأخضر"، لا بل الإعلان عن ولائه للدولة. هذه المعايير لم تجرِ صياغتها رسميًا، لكنها تعبّر عن المناخ الذي يسود الوزارة في عهد بينيت. وهي ليست مسألة نظرية بل ذات آثار ميدانية تطبيقية. مثلا: صدرت مطلع هذا العام أوامر بإخراج رواية "جدار حيّ" للكاتبة ذات الأصول الايرانية دوريت رابينيان من المنهاج لأنها تحكي عن قصة حب بين إسرائيلية وفلسطيني. والوزير تنصّل من مسوّغ القرار المكارثي هذا ولكن ليس من القرار نفسه، بل دافع عنه بتسويغ آخر: اعتبر في مقابلة مع "إذاعة صوت إسرائيل"، أن الكتاب يصور الجنود الإسرائيليين "مجرمي حرب" لأنه يتضمن مشهدًا لجنود يضربون معتقلين فلسطينيين. وهو ما لا يجوز وضعه ضمن مضامين تربوية.

واستقبل أحد المواقع اليمينية واسمه "كيباه" (الطاقية الدينية اليهودية) بترحاب ذلك القرار معتبرًا أنه "يمكن رؤية سعي الوزير في هذا القرار إلى دمج مضامين أكثرَ يهودية وصهيونية مما كان عليه الوضع في السابق". هذا الموقع امتدح الوزير في مكان آخر بسبب حمايته لمكانة وتأثير الجمعيات "ذات الطابع الديني-القومي" على جهاز التعليم. فقد كتب في آذار 2016 أنه وفقًا لتقرير وزارة التعليم حول الميزانيات التي تم تحويلها إلى جمعيات خارجية ناشطة في مجال التربية وقدّمت خدمات للوزارة، قامت هذه الأخيرة بتقليص نطاق التعاقدات مع الجمعيات عمومًا بما يعادل 388 مليون شيكل، لكن هذا التقليص لم يضرّ بالجمعيات "ذات الطابع اليميني أو الديني- القومي". ويمضي الموقع في سجلّ المدائح: تم تحويل أموال إلى "جامعة (مستوطنة) أريئيل"، وإلى المدرسة الدينية في مستوطنة "هار عتصيون"، وعدد من الجمعيات التي تعزف على أوتار سياسة حزب الوزير.

الحملة الدينية التي يقودها بينيت شملت أيضًا برنامجًا لجعل المدارس الرسمية تعلّم "حصة عن اليهوديّة" بشكل يومي.

وقالت صحيفة "ذي ماركر" في أيلول 2015 إنه على الرغم من التقليصات في ميزانية الوزارة، فهي تسعى إلى زيادة حجم الحصص عن اليهوديّة المخصصة لصفوف السابع حتى الثاني عشر في المدارس الحكومية، أي غير تلك المعرّفة كمدارس دينية. وخطة الوزارة هي "تشجيع" المدارس الحكومية التي تزيد من حصص الدين، بواسطة تخصيص ميزانيات أكبر لها. وتقول الصحيفة إن حصص الدين اليومية تساوي في هذه الحالة 5ر8 ساعة تعليمية، أي أنها تفوق حصص تعليم الرياضيات. مرة أخرى: التفوّق العلمي في الدرجة (2).

ميزانية وزارة التعليم لـ"دعم مواضيع اليهودية" ارتفعت بنسبة 77%!

هذا المثال عن دروس الدين هو صورة مصغّرة عن السياسة العامة التي يقودها زعيم حزب المستوطنين كما يتضح من تقرير لموقع "واينت" في أيلول 2015. ووفقًا للأرقام الرسمية، ميزانية وزارة التعليم لعامي 2015- 2016 بلغت 50 مليار شيكل (13 مليار دولار أميركي). وقد قفزت فيها ميزانية "دعم مواضيع اليهودية" بنسبة 77%. ويحدث هذا في وقت يواجه جهاز التعليم فيه مجموعة من المشاكل الجدية المتقادمة المتواصلة، منها اكتظاظ الصفوف التعليمية والحاجة إلى بناء المزيد منها، محدودية جهاز التعليم الخاص بالطفولة المبكرة، التراجع المستمر في تحصيل الطلاب بموضوع الرياضيات والعلوم عمومًا.

بلغت الزيادة التي تقرّرت لميزانية وزارة التعليم نحو 7 مليارات شيكل، ما جعل منها الميزانية الأكبر بشكل غير مسبوق. لكن 14% من الزيادة خُصّص "لتطبيق اتفاقيات ائتلافية مع أحزاب شاس، يهدوت هتوراه والبيت اليهودي"، أي للتعليم الديني بتياراته المختلفة وفقًا لسياسة كل حزب. للمقارنة: مشكلة الاكتظاظ في المدارس تقرّر لها أن تكتفي بـ 4ر2% فقط من الميزانية، هذا على الرغم من اعتبار المسألة تحديًا ذا أولوية. ملاحظة: هذه المشاكل تعاني منها أساسًا بطبيعة الحال الشرائح المستضعفة والمُقصاة، قوميًا وطبقيًا. فالشرائح الغنية التي تسكن في بلدات وأحياء "محصّنة"، وفي المستوطنالت المدلّلة، لا تواجه ما يواجهه طالب فلسطيني في الجليل والنقب أو طالب شرقي في بلدة فقيرة شمال أو جنوب البلاد.

وكتبت نوريت كانيتي، محررة أحد البرامج الإذاعية البارزة في إذاعة الجيش (اسمه "ما بوعير" أي الحدث الساخن)، في موقع "يسرائيل بلوس" (شباط 2016)، أن الوزير بينيت جعل من وزارة التعليم حلبة للصراعات السياسية. وعدّدت بعض ممارساته التي أدت لهذا الوضع: إخراج مسرحية "الزمن الموازي" لمسرح "الميدان" من السلة الثقافية، رفض كتاب "جدار حيّ" الذي سبقت الإشارة اليه، تجميد ميزانيات جمعيات تعلّم مضامين تشجّع "اليهودية التعدّدية"، وترجيح كفة الميزان التي تحتوي "اليهودية" مقابل تلك التي تضم "الديمقراطية" في التربية للمواطنة في المدارس. ونقلت عن جهات في الوزارة أنه تم تعيين لجنة جديدة لموضوع المواطنة معظم أعضائها من أصحاب التوجهات اليمينية.

أمّا الصحافي والمعلّق في شؤون التعليم في صحيفة "هآرتس" أور كشتي فيقول إنه على الرغم من أن كل وزراء التعليم حاولوا تمرير رؤاهم السياسية في جهاز التعليم، فإن الأمر يتميّز بدرجة عالية من الهوس تحت إمرة وزير "البيت اليهودي"، فهو يشدّد على الجوانب القومجية ويتصرّف كمبشّر لا أقلّ.

قلت أعلاه إن هذا السياسي لا يمزح، لديه برنامج متكامل بل حدّد أيضًا "الفصل القادم في الرؤية الصهيونية". المسألة إذن تتعدى وزارة ومناهج التعليم. ويمكن رؤية علاقة مباشرة بين الانقلاب الذي يقوده في جهاز التعليم وتعزيزه البرامج والمضامين الدينية والقومية المتشددة، وإقصاء كل من وما لا يتفق مع رؤية اليمين السياسية، ومع طروحاته العامة فيما يخص مستقبل المناطق المحتلة ومشروع الاستيطان. فعندما بدأ نجمه السياسي بالسطوع طرح خطة ضم ما يُعرف بالمناطق "ج" حسب اتفاقيات "أوسلو". ووفقًا لـ "المركز الفلسطيني للإعلام" (أيار 2014) قال بينيت لصحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية: "إن الحكومة الإسرائيلية لا تنوي التفاوض مع حكومة فلسطينية تشمل ممثلين عن حماس والتي يدعو ميثاقها لتدمير إسرائيل" والرد المناسب على أي اتفاق وحدة فلسطيني، هو البدء بتطبيق خطة ضم مناطق "ج"، التي أطلق عليها اسم "خطة الاستقرار" والتي ينوي طرحها كمشروع قانون. وكان يؤكد أنه يقبل بهذا ولو "بثمن" ضم سكانها الفلسطينيين ومنحهم مواطنة او إقامة دائمة على الأقل. لكنه في الآونة الأخيرة بدأ يرفع من حدّة وشدّة طروحاته. فخلال كلمة ألقاها في مؤتمر عقد في القدس مطلع الشهر المنتهي تشرين الأول، قال إنه "يجب البدء في مرحلة الحسم في كل ما يتعلق بأرض إسرائيل، وذلك من خلال بدء العمل منذ اليوم مع الاستعداد للتضحية بالأرواح على جعل مناطق الضفة الغربية جزءا لا يتجزأ من دولة إسرائيل وأن تخضع لسيادتها (...) لا وقت لدينا لتقسيم أرض إسرائيل، ليس بالأقوال ولا بالأفعال وليس بالاتفاقيات الهادئة ولا بالذرائع". هذا يعكس الاتجاه المتفاعل اليوم لدى قوى الاستيطان: نحو التصعيد.

وعودة إلى الموقف الافتتاحي للوزير بينيت: "يجب على جهاز التعليم أن يوفّر الصهيونية وكذلك التفوّق" – إنه يشكل الخط العريض لتوجه هذا السياسي الذي يتزعم الحزب المركزي للمستوطنين، تعدادًا وطرحًا. هذا الموقف يحدّد نطاق القيم المطلوب التثقيف عليها، وهي مشروطة بكلمة المفتاح: الصهيونية. بل يجعلها تسبق التفوّق. إذن فكل القيم التي يمكن الإتيان بها كجزء من بنود المنهاج التعليمي، محصورة مسبقًا وبالضرورة في حدود الصهيونية إياها. الصهيونية هي أيديولوجية محددة، لا تتطابق بأي شكل مع اليهودية التي تتألف من رؤى وتيارات عديدة، ككل دين. لكن "تجديد" الصهيونية هو إزاحة الدين اليهودي إلى رتبة القومية. ووفقًا للّبنات الأساسية التي يقوم عليها جهاز التعليم الذي يتصوّره ويتولاّه بينيت، فإن كل تجاوز لأسوار تلك الأيديولوجية أمر أشبه بالمُستحيل. لأن الأيديولوجية هي المصدر الحصري للقيم التي ستُزرع في وعي الطلاب. لو حدّدت أية دولة قيمها التربوية التعليمية وفقًا لأيديولوجية محددة، لكان ليبراليو إسرائيل نعتوها بأقسى النعوت. ولكن لا يطفو هذا التناقض على سطح الجدل والتساؤل والنقد، لأن الصهيونية ما عادت ترتسم في الفضاء الإسرائيلي العام بكل أطيافه، كأيديولوجية، بل هي أشبه ببديهيات الرياضيات التي تؤخذ كما هي دون تردّد أو تشكّك. وهذا يعكس النجاح الساحق للأيديولوجية. فقد تم تشرّبها والذوبان فيها لدرجة الاستبطان المطلق بحيث اختفت تمامًا فيما هي المحرّك الحصري. وهكذا تنتقل الأمور من درجة التناقض الى درجة العبث!

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات