المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

منذ عودة بنيامين نتنياهو إلى رئاسة الحكومة الإسرائيلية في العام 2009، واجهت إسرائيل تحديات جمة ابتداء من التحول المعادي لتركيا، مرورا بالبرنامج النووي الإيراني، وأنفاق "حماس" وإطلاق الصواريخ على المدنيين، وإنتهاء بـ "إرهاب" السكاكين.

لقد كان من شأن أي تحدٍ من هذه التحديات أن يضع على المحك أيضا الخبراء ورجالات الإستراتيجيا اللامعين. علاوة على ذلك، فقد انزلقت كل من مصر وسورية إلى أتون إضطرابات أهلية في فترة ولاية نتنياهو، وحولت الحرب الأهلية في سورية حدود إسرائيل الأكثر هدوءاً، الى "منطقة مستباحة"، تكتظ بمجموعات "جهادية" متناحرة. وفي مصر أطيح بنظام حكم الرئيس حسني مبارك، مما أدى لمرابطة حكومة الإخوان المسلمين، وإن بصورة مؤقتة، على الجانب الآخر للحدود في قطاع غزة.

صحيح أن رئيس مصر الحالي، عبدالفتاح السيسي، تصدى منذ ذلك الوقت بقوة لحركة "حماس"، ولكن في ظل الفلتان السلطوي في شبه جزيرة سيناء تحولت المنطقة الى مأوى لإرهابيين بايعوا تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش).

إلى ذلك، وفيما يتعلق بالولايات المتحدة فقد تغير التوجه الأميركي نحو الشرق الأوسط بصورة كبيرة عقب إنتخاب باراك أوباما للرئاسة والذي رأى في المستوطنات عائقا مركزيا أمام تحقيق سلام مع الفلسطينيين.

وقد استغلت إيران بدورها الفراغ الناشيء لتوسيع دائرة تأثيرها إلى العراق وسورية ولبنان وغيرها. وفيما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني وقع أوباما مع الإيرانيين على إتفاق وقعت عليه أيضا ألمانيا والدول الخمس الكبرى، مما ساهم في إعلاء شأن إيران ومنحها شرعية متجددة بالعودة إلى أسرة الشعوب، في الوقت الذي بقي فيه البرنامج النووي الإيراني على حاله دون أي مساس أو ضرر تقريبا.

كيف عالج نتنياهو هذه التهديدات؟

صحيح أنه لم يعالجها بصورة ناجعة تماما، لكنه أثبت نفسه كزعيم حذر، يقرأ بصورة واعية أوضاعا مركبة وينجح في تحريك خصومه كما يشاء وحماية مصالح إسرائيل.

كذلك فإن التهديد المتزايد من جانب حركة "حماس"، والمخاطر المنعكسة من إيران، لم تقل أو تتوارى. ولكن إذا ما تفحصنا أعمال وسلوك نتنياهو كرئيس للحكومة، فسوف نجد هنا قائمة إنجازات غير متوقعة في السياسة الخارجية، يمكن لغالبية زعماء العالم أن يتباهوا بها لو أنها كانت من نصيبهم.

ولقد عرضنا لأكثر هذه الإنجازات في الجزء الأول من هذا المقال. وفيما يلي الجزء الثاني:

إيران

ليست "حماس" هي التهديد الوحيد الذي فشل رئيس الحكومة الإسرائيلية وزعيم اليمين بنيامين نتنياهو في إيجاد جواب له.

فعلى الرغم من جهود استمرت خمسة أعوام لم يفلح نتنياهو في منع الدول الخمس الكبرى (وألمانيا) من التوقيع على الإتفاقية المتعلقة بالبرنامج النووي الإيراني في العام 2015. وقد كان صوت نتنياهو الأكثر حدة وصخبا من بين سائر زعماء العالم ضد هذه الصفقة، ولم يتراجع عن مواقفه حتى ولو بثمن تدهور إضافي في العلاقات الفاترة أصلا بينه وبين الرئيس باراك أوباما.

وألقى نتنياهو في هذا السياق عدة خطب شديدة اللهجة ضد الإتفاقية قبل توقيعها، ومن ضمن ذلك خطابه المثير للجدل في آذار 2015 أمام مجلسي الكونغرس وذلك خلافا لرغبة البيت الأبيض ورأي الأغلبية في الحزب الديمقراطي، غير أن ذلك لم يجدِ نفعا. وفضلا عن أن الصفقة مع إيران أضحت واقعا متحققا، فقد استفادت طهران منذ توقيعها من الإفراج عن مليارات الدولارات في عقارات مجمدة، وذلك بتشجيع من الولايات المتحدة، التي بدأت أيضا تبتاع من إيران مياهاً ثقيلة بقيمة ملايين الدولارات، هذا فيما لا يزال برنامج إيران النووي يشكل حتى الآن تهديدا لإسرائيل.

السر: قيادة حذرة وصبورة

يمكن القول إنه رغم الحالتين الشاذتين المتمثلتين في حركة "حماس" وإيران، فإن سياسة إسرائيل الخارجية، في ظل حكم نتنياهو، قد تكللت بالنجاح.

لقد برهنت زعامة نتنياهو أولا وقبل كل شيء على تحليها بالصبر، وهي صفة لا تعتبر دائما إحدى صفاتها الثابتة. فمتخذو القرارات (في إسرائيل)، لم يلهثوا خلف حلول كاذبة، ولم يجزعوا أمام أوضاع جديدة نشأت في المنطقة، وأظهروا ثقة بالنفس تجلت في إتباع سياسة مرنة كفاية لأجل التأقلم الملائم إزاء الأحداث والمستجدات. كذلك فقد نجح نتنياهو في تحليل أوضاع مركبة، وتحديد ماهية مصالح دولته، وقد تصرفت إسرائيل بحكمة عندما قررت عدم الإنحياز لطرف من أطراف النزاع في سورية، كذلك فإن الإستعداد للمجازفة بإقامة تعاون مع مجموعات المتمردين على حدود إسرائيل مع سورية خدم تماما المصلحة الإسرائيلية. في الوقت ذاته فقد اتسمت السياسة الإسرائيلية بالحزم، إذ كان نتنياهو مستعدا لتوجيه ضربات في عمق سورية ولبنان بغية منع وصول أسلحة إلى منظمة حزب الله. كما أن مجموعات المتمردين في الجولان تدرك بأنها إذا ما شرعت في مهاجمة إسرائيل، فسوف تضطر إلى مواجهة ردٍ مؤلم.

وفيما يتعلق بمواجهة حركة "حماس" وإيران فقد اتسمت قرارات نتنياهو وسلوكه - على الرغم من أنه بدا أحيانا في صورة "مفتعل للحروب"- بالحذر الشديد.

وكما هو معروف فقد بذل نتنياهو كل ما في وسعه لتفادي القيام بعملية برية في قطاع غزة في العام 2012، وقدم بعد ثمانية أيام من الغارات الجوية، تنازلات مهمة لصالح "حماس" بُغية إنهاء جولة المواجهة. كما سعى للتوصل إلى وقف لإطلاق النار مرارا وتكرارا قبل أن يوعز بالإجتياح البري في العام 2014، وعلى الرغم من التأييد الشعبي الواسع في إسرائيل لاجتياح عسكري واسع لقطاع غزة، اكتفى نتنياهو باجتياح موضعي محدود من أجل معالجة مشكلة الأنفاق.

من هنا فإن توجه نتنياهو تجاه حركة "حماس" يدل على حذر زائد، وليس على تطرف أو مغامرة، وفي هذا السياق أظهر نتنياهو أيضا عددا من الصفات الأخرى المذكورة آنفا كالصبر والتسامح على سبيل المثال. أما السؤال بشأن ما إذا كان الحديث يدور على توجه ذكي وحكيم أم لا، فما زال موضع خلاف وجدل. وعموما لم يسعَ نتنياهو إلى إختراع حل لا وجود له. فقد واصلت إسرائيل فرض حصارها على قطاع غزة، بل قامت بتشديد هذا الحصار بتأييد من مصر.

أما فيما يتعلق بالموضوع الإيراني، فمما لا شك فيه أن نتنياهو أخفق في تحقيق النتيجة المرغوبة من جانبه، ولعله كان حذرا أكثر من اللازم حين امتنع عن القيام بعملية عسكرية بهدف تعطيل برنامج إيران النووي. والسؤال إذن ما الذي جعل نتنياهو يذهب إلى واشنطن ليوجه إنتقاداته إلى سياسة الرئيس أوباما، رغم إدراكه المسبق أن الرئيس الأميركي كان مصمما على التوصل للإتفاق مع إيران، وأن الأمر بات شأنا منتهيا؟!

وفق ما أشار له المنتقدون، فقد كان من شأن خطاب نتنياهو أن يتسبب باستياء واغتراب في صفوف أعضاء الحزب الديمقراطي تجاه إسرائيل وتخريب ما تبقى من ثقة بين نتنياهو وأوباما. ولكن من وجهة نظر نتنياهو فإن الجهد الصاخب ضد الاتفاق النووي لم يكلفه ثمنا باهظا، والاتفاق ذاته كان كما أسلفنا حقيقة منتهية. وهو في المحصلة لم يغضب أحدا في الكونغرس عدا بعض النواب الديمقراطيين غير الوديين تجاهه منذ البداية، والرئيس أوباما الذي كان نتنياهو قد قرر بأنه جزء من المشكلة. إلى ذلك فقد نجحت حملة نتنياهو ضد الاتفاق مع إيران في تحقيق نتائج إيجابية، إذ أظهر للإسرائيليين بأنه مستعد للدخول في مواجهة مع أوباما، والذي اعتبره الإسرائيليون أنفسهم عديم الحساسية تجاه مخاوفهم المشروعة. فضلا عن ذلك فقد نال نتنياهو أيضا مصداقية في نظر أطراف عربية سُنية تشعر بقلق لا يقل عنه إزاء البرنامج النووي الإيراني.

إن مُنتقدي نتنياهو لا ينجحون في تقدير حجم ومدى تعقيد التحديات الماثلة أمام إسرائيل والطريقة التي تضطر فيها للتكيف بسرعة مع الأوضاع المتغيرة، والتي تجعل فرضيات عمل قائمة عديمة المغزى.

لقد نجحت إسرائيل في ظل حكم نتنياهو في البقاء خارج دائرة الحروب التي جرت كثيرين آخرين للانغماس في دوامتها، كما نجحت في تحسين مكانتها الدبلوماسية وإظهار مرونة سياسية وقدر كبير من الحزم في الوقت ذاته إزاء خطوط حمراء، وضمان أمن سكان الدولة.

وفي مقاييس الشرق الأوسط، وليس فيه فقط، فإن الحديث يدور هنا عن إنجازات لا بأس بها.

______________________________

(*) صحافي ومحرر في مجلة "تايمز أوف إسرائيل". هذا المقال نُشر في مجلة "كومنتري" الأميركية الشهرية المختصة بالشؤون الدولية في آب الفائت وقمنا بترجمته عن العبرية من موقع "ميدا" اليميني. المقال نُشر في العدد السابق من "المشهد الإسرائيلي").

المصطلحات المستخدمة:

بنيامين نتنياهو, باراك, رئيس الحكومة

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات