المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

أقر الكنيست الإسرائيلي في منتصف شهر تموز الماضي بالقراءة النهائية مشروع قانون من شأنه أن يضيّق على عمل كافة المراكز الحقوقية التي تتابع ممارسات جيش الاحتلال وجرائمه، والمراكز المناهضة لسياسة التمييز العنصري، وتتلقى دعما من دول ومؤسسات عالمية، وبالأساس من دول أوروبية، ولكن أيضا من دول غنية، مثل صناديق في الولايات المتحدة وكندا وغيرهما.

ورغم أن النص النهائي لهذا القانون (قانون الجمعيات) يبقى أخف وطأة من المسودة الأولى، إلا أنه يبقي قاعدة الاستهداف على حالها.

ويعكس هذا القانون أجواء التحريض، التي وصلت إلى حد تهديد حياة ناشطين في هذه الجمعيات، ومناهضين للاحتلال. وإن كانت إسرائيل شهدت حتى الآن جريمتي اغتيال سياسي ومحاولات اغتيال أخرى، فإن الأجواء القائمة تنذر بالاغتيال القادم، الذي قد يكون وقوعه مسألة وقت، بحسب تقديرات متطابقة.

تتركز الصيغة النهائية للقانون في الزام الجمعيات والمراكز التي تتلقى ميزانيات دعم من دول في العالم، على أن تبرز أمر تمويلها في كافة منشوراتها المطبوعة والالكترونية، ومراسلاتها إلى كافة الجهات، وخاصة الرسمية. كما على مندوبي هذه الجمعيات والمراكز الافصاح عن دول الدعم، في حال شاركوا في أبحاث في لجان الكنيست، على أن يكون هذا في مقدمة حديث كل مندوب. وقد يبدو أن هذا القانون لا يشكل أي خطر، ولكنه تمييزي من الدرجة الأولى، لأنه يستهدف فقط الجمعيات والمراكز الحقوقية والاجتماعية المناصرة لحقوق الانسان الفلسطيني في فلسطين التاريخية، ومناهضة للاحتلال واشكال جرائمه، وهو لن يطال أي من جمعيات اليمين واليمين المتطرف.

كذلك فإن خطورة القانون تكمن في أنه يشكّل قاعدة لتعديلات مستقبلية، تعيد النصوص الأولى الأخطر التي وردت في مسودة القانون، التي أعدتها وزارة العدل الإسرائيلية بإشراف الوزيرة المتطرفة أييليت شاكيد. وكانت المسودة تنص على أن كل موظف أو ناشط في هذه المراكز، يدخل إلى الكنيست والمؤسسات الحكومية، ليلتقي بمنتخبي جمهور أو موظفي دولة، أو ينشط في ميادين يتواجد فيها موظفو دولة، مع تركيز خاص على ذكر الجنود وعناصر الشرطة، يكون ملزما بأن يضع على صدره بطاقة تحمل اسمه والمركز الذي يعمل فيه، والجهة الأجنبية الممولة لهذا المركز، أو للمشروع الذي يعمل في اطاره في تلك الفترة العينية. وهذا النص لو بقي في القانون المقرر، لكان سيشكل خطرا جسديا مباشرا على الناشطين الحقوقيين في ميادين تشهد مواجهات، استمرارا لحملات التحريض السياسية الرسمية عليهم.

تهديدات مباشرة لناشطي الجمعيات

نشرت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية في الأيام الأخيرة، تقريرا استند إلى مقابلات مع عدد من الناشطين في أبرز المنظمات الحقوقية والسلامية.

ويقول التقرير إن كل هذه التنظيمات تنظر إلى التصريحات ضدها على أنها جزء من حملة يقودها قادة الدولة.

ويقول الراب أريك آشرمان من منظمة "حاخامات من أجل حقوق الانسان": "إنني أرى علاقة مباشرة بين الهجمة علي شخصيا في شهر تشرين الأول الماضي، وبين التحريض لسحب شرعية وجودنا، وهذا نابع من أعلى مستوى سياسي (الحكومة ورئيسها). فهذا القانون (قانون الجمعيات) الذي لن يغير شيئا على أرض الواقع، يبث رسائل يجري تطبيقها على أرض الواقع"، بقصد الاعتداءات على ناشطي الجمعيات.

ومن بين التنظيمات التي يجري الحديث عنها، منظمة "لنكسر الصمت"، التي أسسها جنود وضباط احتياط في العام 2002، وترصد شهادات جنود الاحتلال عما شاهدوه، وأحيانا ما مارسوه من أوامر فيها تنكيل واضطهاد للفلسطينيين في المناطق المحتلة منذ العام 1967، وبالإمكان القول إنها المنظمة الأكثر ملاحقة في هذه الأيام. كذلك الأمر بالنسبة لمركز "بتسيلم" الذي يلاحق جرائم الاحتلال ضد الفلسطينيين في الضفة والقدس وقطاع غزة، ومنظمة "حاخامات من أجل حقوق الانسان"، وحركة "السلام الآن" التي يتركز نشاطها أساسا في قضايا الاستيطان، واللجنة الإسرائيلية ضد التعذيب، وجمعية حقوق المواطن الإسرائيلية وغيرها من الجمعيات.

ويقول التقرير إن كل ناشطي الجمعيات الحقوقية يشعرون منذ فترة طويلة بأنهم يواجهون عملية الغاء شرعية نشاطهم، وأساليب خطيرة، وأن متابعتهم اليومية تحولت إلى عملية ملاحقة واضطهاد، ومحاولات ترهيب واسكات. وينضم إلى هذا، سعي شخصيات سياسية إلى كسب تأييد سياسي في أوساط اليمين من خلال التحريض على هذه الجمعيات، وخاصة شخصيات تطمح إلى خلافة بنيامين نتنياهو في منصبه، كما ورد في تقرير "هآرتس".

وجرى على سبيل المثال ذكر الناشط البارز شاي منوحين، المدير العام للجنة الإسرائيلية ضد التعذيب، وهو أيضا من مؤسسي جمعية "يوجد حد" المناهضة للخدمة العسكرية الإسرائيلية، إذ كان منوحين من أبرز المستهدفين، من حملة منظمة "إم ترتسو" (إذا أردتم) اليمينية المتطرفة، التي أطلقتها تحت شعار "المدسوسون"، لملاحقة ناشطي المنظمات الحقوقية.

ويقول منوحين إنه شعر طيلة الوقت بأنه واقع تحت التهديد المباشر، وكان يتلقى مكالمات مجهولة الهوية، ووصلت إلى حد التهديدات المباشرة له. وفي الآونة الأخيرة غادر منصبه في منظمة اللجنة ضد التعذيب، ويتركز حاليا في منظمة "يوجد حد"، ومنظمة العفو الدولية "أمنستي".

كذلك فإن مدير منظمة "لنكسر الصمت" نداف فايمان، تلقى قبل بضعة أشهر محادثات هاتفية تضمنت تهديدا بالقتل، وقتل زوجته وحتى كلبة العائلة. وعرض المتحدث تفاصيل دقيقة لفايمان، كي يثبت له أنه واقع تحت المراقبة. وقال إن رقم هاتفه الشخصي انتشر في مواقع انترنت تابعة لليمين المتطرف، وفي كل مرّة كان يبرز فيها نشاط منظمته "لنكسر الصمت"، كانت تتكاثر المحادثات الهاتفية.

وليس هذا فحسب، بل إن فايمان تعرض للاعتداء الجسدي المباشر مرتين في الاشهر الأخيرة. مرّة حينما شارك في ندوة في كلية "سابير" الأكاديمية، من عصابة "تسيل" (الظل)، ومرّة ثانية في مكان آخر من أحد الطلاب الجامعيين. وقال إن الشرطة في الحالة الثانية وصلت إلى المكان واعتقلت المعتدي. ولكن التقرير لا يوضح مصير ملف التحقيق ضد المعتدي على فايمان. كما تعرّض ناشطون من منظمة "لنكسر الصمت" لاعتداءات وتهديدات، ما جعل المنظمة تستأجر شركة حراسة، لترافق الناشطين في النشاطات العامة التي يشاركون فيها.

وكان رئيس منظمة "حاخامات من أجل حقوق الانسان" أريك آشرمان، قد تعرض قبل فترة قصيرة لاعتداء جسدي من أحد المستوطنين في الضفة المحتلة. ولاحقا قررت المنظمة اتخاذ اجراءات وقاية صارمة في مكاتبها، اضافة إلى استئجار شركة حراسة كحالة منظمة "لنكسر الصمت". وقالت المديرة العامة لمنظمة الحاخامات، أيالا ليفي، إنهم في المكاتب لا يفتحون الأبواب من دون معرفة من الطارق.

وقالت مسؤولة الاستيطان في حركة "السلام الآن"، حاجيت عوفران، إن نشيطي حركتها يتجنبون التجوال في المناطق التي فيها خطر على حياتهم، بعد أن تعرضت الحركة مرارا إلى تهديدات واعتداءات متنوعة. وتقول عوفران إنه في السنوات العشر الأخيرة يشعرون في حركتها بتصعيد عدائية المستوطنين لهم. وعددت عوفران حالات تعرض فيها الناشطون إلى اعتداءات جسدية خطيرة.

وتقول نيطع باتريك، المديرة العامة لمنظمة "يش دين (يوجد قضاء)" التي تقدم مساعدات قضائية للفلسطينيين في الضفة، إنهم يلمسون تغيرات في شكل تعامل موظفي المؤسسات الرسمية، نتيجة للتحريض الذي يقوده سياسيون كبار. وقالت إن قانون الجمعيات الذي أقره الكنيست، سبقته حملة تحريض، جعلت الناشطين الحقوقيين منبوذين في كل مكان.

وكانت منظمة بتسيلم قد أعلنت في نهاية شهر أيار الماضي، التوقف عن ارسال الشكاوى ضد جنود الاحتلال والمستوطنين إلى أجهزة تطبيق القانون، نظرا لعدم جدية التعامل مع هذه الشكاوى، على مدى 25 عاما. وقالت المنظمة إنها اختارت "عدم الاستمرار في المساهمة في الحراك الوهمي في عمل جهاز تطبيق القانون العسكري، ولا نية لها بمواصلة توجيه الشكاوى إليه. وقد تم اتخاذ هذا القرار في ختام عملية تفكير تقدمية قامت بها المنظمة استنادا إلى المعرفة المكتسبة من مئات الشكاوى التي قدمتها منظمة بتسيلم إلى جهاز تطبيق القانون العسكري والعشرات من الملفات لشرطة التحقيقات العسكرية وعشرات اللقاءات مع المسؤولين في مجال تطبيق القانون العسكري".

وقالت المنظمة في حينه، إنها ستواصل "توثيق انتهاكات حقوق الإنسان التي تقوم بها إسرائيل في الأراضي المحتلة والإبلاغ عنها. ولكننا نؤمن بأنه من أجل محاولة تعزيز حماية حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة المطلوب الآن ليس جهدا آخر لتعزيز تحقيقات فاشلة والتي يعرف محققو الشرطة العسكرية ومحامو النيابة العامة تبديدها جيدًا ـ وإنما إدانة هذا الجهاز وتقديمه كما هو حقا".

الاغتيالات... وما سبق

كل من يعرف شراسة عنف عصابات المستوطنين، والدعم المباشر الذي يحصلون عليه من جهات سياسية وحتى من مسؤولين كبار، سيتوصل إلى استنتاج أن الاغتيال السياسي التالي في إسرائيل بات مسألة وقت. فقد كان الاغتيال السياسي الأبرز في السنوات الماضية، اغتيال رئيس الوزراء يتسحاق رابين في خريف العام 1995. وسبقه في العام 1982 مقتل ناشط السلام إميل غرينتسفايغ، بإلقاء قنبلة على مظاهرة لحركة "السلام الآن"، ضد الحرب على لبنان في ذلك العام. وفي العام 1967 وقعت أول محاولة اغتيال سياسي، للسكرتير العام للحزب الشيوعي الإسرائيلي ماير فلنر، على خلفية خطابه في الكنيست ضد عدوان حزيران واحتلال 1967.

ولكن ليس هذا فحسب، بل جرت اعتداءات جسدية ذات دلالة، أبرزها سكب كوب شاي يغلي على النائبة في حينه ياعيل دايان من حزب "العمل" في العام 1997، على يد عنصر ارهابي في البؤرة الاستيطانية في البلدة القديمة في مدينة الخليل المحتلة. كما أن نوابا آخرين تعرضوا لمحاولات اعتداء نذكر منهم حاييم أورون من حزب "ميرتس". وقبل سنوات ضبطت الشرطة قنبلة عند بيت الكاتب الإسرائيلي زئيف شتيرنهيل، والقضايا الشبيهة عديدة.

وما يرويه أعضاء المنظمات الحقوقية والسلامية هي جرائم بارزة للعيان، وغالبا ما توثقها وسائل الإعلام على مختلف أشكالها، عدا التوثيق الالكتروني، إلا أن هذه العناصر، مثل عناصر عصابات ما يسمى "تدفيع (جباية) الثمن"، تبقى طليقة، ومن يتم ضبطهم واعتقالهم من بينهم سرعان ما يتم اطلاق سراحهم، وقلة نادرة منهم يتم تقديمها للمحاكم، التي غالبا ما تكون قراراتها أبعد ما يكون عن حجم الجريمة التي ارتكبوها.

المصطلحات المستخدمة:

الكنيست, هآرتس, بتسيلم, بنيامين نتنياهو, شاي

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات