المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

تتواصل في واشنطن المحادثات الثنائية الأميركية ـ الإسرائيلية بشأن رزمة المساعدات العسكرية التي ستقدمها الولايات المتحدة لإسرائيل خلال عشر سنوات قادمة تبدأ اعتبارا من نهاية العام 2018.

وتتواصل جولة المحادثات هذه وسط غموض كثيف يحيط بها وبمجرياتها، سوى تسريبات مختلفة تصدر في كلتا العاصمتين ويبدو أن الكثير منها لا يتعدى كونه تضليلا إعلاميا مرسوما ومتعمدا.

ولم يُعلن أي شيء رسمي عن سير المحادثات وما تم التوصل إليه خلالها حتى الآن، كما لم يعلن أي موعد رسمي لإنهاء هذه المحادثات، غير أن صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية كانت قد نشرت في نهاية الأسبوع الماضي أن هذه الجولة الراهنة من المحادثات "ستكون الجولة الأخيرة بين الحكومتين وستنتهي في غضون أيام معدودة"!

من جهتها، أوضحت الحكومة الإسرائيلية أن انتداب مسؤول أمني رفيع جدا من طرفها، هو القائم بأعمال رئيس "مجلس الأمن القومي" الإسرائيلي، يعقوب ناغيل، للسفر إلى واشنطن خصيصا والمشاركة في هذه الجولة من المحادثات مع ممثلي الإدارة الأميركية "يمثل مؤشرا واضحا على رغبة الحكومة ورئيسها، بنيامين نتنياهو، في التوقيع على اتفاق المساعدات العسكرية في أسرع وقت ممكن".

معركة سياسية ـ حزبية داخلية

يشكل موضوع المساعدات الأمنية الأميركية لإسرائيل ركيزة أساسية في الاستراتيجية الأمنية ـ العسكرية الإسرائيلية، بما يوفره من إمكانيات تسليحية وتدريبية هائلة للجيش الإسرائيلي. ولهذا، فإن النقاش الداخلي الذي يجري في إسرائيل حوله يدور، في الواقع، حول إحدى المصالح الإسرائيلية الأكثر استراتيجية، لكنه يجري كأية معركة أخرى على الساحة السياسية ـ الحزبية الداخلية، وخصوصا بين أجنحة اليمين وأحزابه المختلفة!

ففي لقاء عقده مع مراسلين إسرائيليين للشؤون السياسية يوم الأحد الماضي، قال رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، إن "ثمة خلافات في الرأي بيننا وبين الأميركيين حول استخدام أموال المساعدات لشراء الأسلحة في إسرائيل وآمل أن ينتهي هذا الموضوع خلال الأيام القادمة". وأضاف نتنياهو: "آمل أننا على وشك الانتهاء من المحادثات والتوصل إلى تفاهمات مع الإدارة الأميركية بشأن رزمة المساعدات الأمنية لإسرائيل للسنوات العشر القادمة". وقال نتنياهو، محاولا الطمأنة: "لن يلحقنا أي غبن أو إجحاف قياساً بما عُرض علينا من قبل"!

لكنّ المرجح، كما يبدو، أن نتنياهو تعمّد الإدلاء بهذا التصريح أمام المراسلين السياسيين، كما غيره من التصريحات الأخرى التي تُنشر في وسائل إعلام إسرائيلية مختلفة تباعاً نقلاً عن "مصادر سياسية رسمية عليا" (في إسرائيل) وتفيد، بوجه أساسي، بأن "الحكومتين، الإسرائيلية والأميركية، نجحتا في التجسير على فجوات كثيرة وكبيرة من التي لا تزال تعترض تحقيق الاتفاق بشأن المساعدات الأمنية الأكبر التي يتم الاتفاق عليها بين الطرفين"!

ويرمي نتنياهو ومستشاروه ومقربوه من هذه التصريحات والتسريبات إلى مواجهة ما يتعرض له رئيس الحكومة الإسرائيلية من انتقادات مختلفة ومتعددة المصادر تؤكد، جميعها، على أنه كان بإمكان إسرائيل الحصول على مساعدات أمنية أميركية أكبر بكثير مما ستحصل عليه الآن "لو أنها باشرت هذه المفاوضات قبل توقيع الاتفاق النووي" بين إيران والدول العظمى، بقيادة الولايات المتحدة وشخص رئيسها، باراك أوباما.

وكانت أنباء وتقارير أخرى نشرت في وسائل إعلام إسرائيلية أشارت إلى أن "أجهزة الأمن الإسرائيلية ستحصل من الولايات المتحدة على مساعدات أمنية تقل بكثير عما كان رئيس الحكومة نتنياهو يخطط لانتزاعها منها"! وقالت هذه الأنباء والتقارير إن مجرد إقدام نتنياهو على إيفاد المسؤول الأمني الرفيع، القائم بأعمال رئيس "مجلس الأمن القومي"، ناغيل، إلى واشنطن "يدل على أن نتنياهو قد فهم بأنه لن ينجح في تحقيق اتفاق أفضل إذا ما تعمد المماطلة وانتظار دخول رئيس جديد إلى البيت الأبيض"!

وألمحت هذه الأنباء والتقارير إلى أن "نهج الابتزاز" الذي حاول نتنياهو اعتماده في سياق المحادثات حول رزمة المساعدات الأمنية الأميركية، باستغلاله "الاتفاق النووي الإيراني" والادعاء بأنه (الاتفاق) "يفرض على إسرائيل توظيف موارد أكبر من السابق في الأمن"، وذلك بعدما شن هجوما كاسحاً غير مبرر ـ تبين لاحقا إنه غير موضوعي وغير منطقي أيضا ـ ضد الاتفاق النووي مع إيران، قد يتضح لاحقا أنه (نهج الابتزاز) سبب لإسرائيل أضرارا استراتيجية كبيرة.

معركة على أصوات اليمين واسترضاء للبيت الأبيض!

وفي هذا السياق، تحديدا، يمكن النظر إلى ما نشر في بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية ابتداء من مساء الأحد، ثم صباح أمس الاثنين، بشأن الاتهام الذي وجهته "مصادر سياسية رفيعة" (إسرائيلية) إلى وزير الدفاع، أفيغدور ليبرمان، بأنه "يعرّض اتفاقية المساعدات الأمنية الأميركية لإسرائيل إلى الخطر"! ولا تدع قراءة نص هذا الاتهام وهذا الهجوم ضد ليبرمان أي مجال للشك في حقيقة هذه "المصادر السياسية" و"المسؤولين السياسيين": رئيس الحكومة، نتنياهو، ومقربوه.

وإضافة إلى كون هذا الهجوم على ليبرمان جزءاً من المعركة الحزبية التي يشنها نتنياهو والليكود على أصوات اليمين في إسرائيل، يمكن النظر إليه أيضاً بكونه محاولة إسرائيلية "على أعلى المستويات" لاسترضاء الإدارة الأميركية والبيت الأبيض والتخفيف من غضب مسؤوليهم هناك حيال ما صدر عن وزارة الدفاع الإسرائيلية من إساءة مباشرة للرئيس الأميركي، أوباما، وخصوصا في الوقت ذاته الذي تجرى فيه المفاوضات هناك حول رزمة المساعدات العسكرية الجديدة!

فقد نقل موقع صحيفة "معاريف" على الشبكة ("معاريف أونلاين")، مساء الأحد، أن "مسؤولين سياسيين كباراً في إسرائيل" شنوا هجوما لاذعا على وزير الدفاع، ليبرمان، على خلفية الانتقادات الحادة التي كان وجهها للرئيس الأميركي، باراك أوباما. وقال هؤلاء "المسؤولون" إن "ردّ وزير الدفاع يدل على قصور في قدرة تحكيم الرأي لدى شخص لا يفهم أنه لا يمكنه التصرف وإدارة شؤون الدولة بهذه الطريقة الارتجالية"!

ونقل الموقع ذاته ما كانت أوردته القناة العاشرة في التلفزيون الإسرائيلي، مساء اليوم نفسه، عن "مصادر سياسية رفيعة" قولها إن ليبرمان "يتصرف بطفولية ويعرّض للخطر اتفاق المساعدات الأمنية الذي أجريت حوله مفاوضات جدية وعنيدة"!!

يذكر أن الرئيس الأميركي، باراك أوباما، كان قد صرح في نهاية الأسبوع الماضي بأنه "في إسرائيل، أيضا، أصبحوا يفهمون اليوم أن الاتفاق النووي مع إيران مُجدٍ ويؤدي مهمته". وأضاف: "حتى إسرائيل، المعارِضة الأشدّ للاتفاق، تعترف اليوم بأنه مفيد". وقال أوباما، في مؤتمر صحافي عقده في مقر وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) إن "الجيش الإسرائيلي وأجهزة المخابرات الإسرائيلية توصلوا إلى الاستنتاج بأن الاتفاق النووي مع إيران غيّر الوضع في إيران تماما ونجح في القضاء على البرنامج النووي الإيراني وزاد الفترة الزمنية المطلوبة لطهران من أجل إنتاج مواد للسلاح النووي".

ورداً على تصريحات أوباما هذه، أصدرت وزارة الدفاع الإسرائيلية بياناً خاصا ساوت فيه بين الاتفاق النووي مع إيران وبين اتفاقيات ميونيخ مع النازيين! وقال البيان: "اتفاقيات ميونيخ لم تمنع نشوب الحرب العالمية الثانية ولا وقوع الهولوكوست، وذلك لأن الفرضية الأساس فيها ـ أن ألمانيا النازية يمكن أن تكون شريكا في اتفاق ما ـ كانت فرضية خاطئة ولأن قادة العالم آنذاك تجاهلوا الأقوال الصريحة التي صدرت عن هتلر وقادة ألمانيا النازية الآخرين"!

وأضاف بيان وزارة الدفاع الإسرائيلية: "هذا الحديث ينطبق على إيران أيضا، والتي تعلن صراحة وعلى الملأ أن هدفها هو إبادة دولة إسرائيل والتي قال تقرير وزارة الخارجية الأميركية الذي نشر هذه السنة أنها تحتل المرتبة الأولى في تمويل الإرهاب العالمي"!

وختم البيان بالقول: "ولهذا، تدرك الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، كما يدرك شعب إسرائيل كله وشعوب أخرى عديدة في العالم، أن الاتفاقيات من النوع الذي تم التوقيع عليه بين الدول العظمى وإيران ليست مفيدة، وإنما هي تضرّ فقط بالمعركة التي ينبغي شنها بلا هوادة ضد دولة إرهاب مثل إيران"!

وفور صدور بيان وزارة الدفاع هذا، في أواخر الأسبوع الماضي، أعلن رئيس الحكومة، نتنياهو، تنصله منه ورفضه له ووجه رسالة إلى السفير الأميركي في إسرائيل، دان شابيرو، قال فيها إن "بيان وزارة الدفاع صدر بدون علمي ولا يعبر عن رأيي". وقبل ذلك، صدر تصريح عن ديوان رئاسة الحكومة الإسرائيلية جاء فيه إن "موقف إسرائيل في مسألة الاتفاق النووي مع إيران لا يزال كما كان، لكن رئيس الحكومة يؤمن بشدة بأن ليس ثمة لإسرائيل حليف أقوى وأهمّ من الولايات المتحدة"!

من خطاب نتنياهو إلى رسالة أعضاء مجلس الشيوخ

من المعروف أن المساعدات العسكرية الأميركية لإسرائيل تتجدد، بصورة أوتوماتيكية تقريبا، مرة كل عشر سنوات وتسري لمدة عقد كامل. لكن المفاوضات على رزمة المساعدات الجديدة، التي ستدخل حيز التنفيذ ابتداء من العام 2018، كانت مختلفة تماما هذه المرة: فخلال معركته من أجل التوصل إلى الاتفاق النووي مع إيران، تعهد الرئيس الأميركي باراك أوباما لأعضاء من الحزب الديمقراطي في الكونغرس الأميركي بمكافأتهم على تصويتهم دعما للاتفاق وذلك "بتعويض إسرائيل عن أي مسّ قد يطال أمنها".

لكن رئيس الحكومة الإسرائيلية، نتنياهو، قرر السفر إلى واشنطن وإلقاء خطاب أمام الكونغرس الأميركي لأقناع أعضائه بمدى خطورة الاتفاق المزمع توقيعه وبضرورة معارضته والتصويت ضده. وقد فعل ذلك نتنياهو ذلك "من وراء ظهر" أوباما، ثم شنّ هجوما لاذعا على سياسته وسياسة إدارته في خطابه أمام الكونغرس، وهو ما أثار غضبا شديدا لدى البيت البيض والرئيس أوباما وعمق هوة الشرخ في العلاقات بين الزعيمين وحكومتيهما.

وخلال المفاوضات التي بدأت بين البلدين، منذ العام الماضي، حول رزمة المساعدات العسكرية الجديدة، تم الاتفاق على أن تشمل الرزمة الجديدة جميع الهبات الخاصة التي كان الكونغرس الأميركي قد صادق على تقديمها لإسرائيل لتمويل مشروع صاروخي إسرائيلي جديد. وفي الإجمال، بلغ حجم رزمة المساعدات الجديدة 5ر3ـ 7ر3 مليار دولار لكل سنة من السنوات العشر القادمة.

لكن نتنياهو ادعى، في أكثر من مناسبة علنية، بأنه سينجح في الحصول على أكثر من هذا المبلغ، محدداً هدف 4 مليارات دولار "على الأقل" للسنة الواحدة، أي ما مجموعه 40 مليار دولار للسنوات العشر التالية. وعلى الرغم من تأكيدات الإدارة الأميركية الحالية المتكررة بأن "هذا لن يحصل"، فضّل نتنياهو جرجرة المفاوضات ظنا منه بأن انتخابات الرئاسة في الولايات المتحدة ستضطر أوباما إلى التراجع تلافيا لخسارة الصوت اليهودي المؤيد لمرشحة حزبه (هيلاري كلينتون) مقابل مرشح الحزب الجمهوري (دونالد ترامب).

وقبل نحو ثلاثة أشهر، في نيسان الأخير، بلغت المواجهة بين الحكومة الإسرائيلية والبيت الأبيض ذروة أخرى حين بادرت الأولى إلى تجنيد رسالة وقع عليها 83 عضوا في مجلس الشيوخ الأميركي (من أصل 100 عضو) تدعو إلى رفع المساعدات العسكرية لإسرائيل بحجة "تزايد التحديات الأمنية الاتي تواجهها". ولم يستطع البيت الأبيض المرور مر الكرام على هذه الرسالة فأعلن رفضه العلني المطلق لها، مما أفهم ديوان رئيس الحكومة الإسرائيلية بأن المبادرة إلى هذه الرسالة مثلت تجاوزا كبيرا فنقل إلى البيت الأبيض رسالة ـ كشفت عنها صحيفة "يديعوت أحرونوت" ـ ادعى فيها بأن "الرسالة لم تكن بمبادرتنا ولا بموافقتنا"!

لكن البيت الأبيض رد على هذه الرسالة وعلى "توضيحات" ديوان نتنياهو بمطالبة إسرائيل بالتعهد، في إطار الاتفاق الجديد بشأن رزمة المساعدات، بأن لا تطلب مساعدات إضافية خلال السنوات العشر التالية، غير تلك التي يتم إقرارها في إطار الاتفاق. وقد أصدر نتنياهو تعليماته إلى المفاوضين الإسرائيليين بمعارضة هذا الشرط وعدم القبول به، غير أن البيت الأبيض أصرّ على ذلك. كما طلب البيت الأبيض، أيضا، رصد كل مبالغ المساعدات الأميركية لامتلاك أسلحة ومنظومات أمنية مختلفة من الولايات المتحدة نفسها، وذلك بإلغاء البند الثابت في الاتفاق حول هذه المساعدات والذي يقضي بإتاحة المجال أمام إسرائيل لاستغلال 3ر26% من أموال المساعدات العسكرية لامتلاك أسلحة من الصناعات العسكرية الإسرائيلية وليس من الولايات المتحدة. وهو ما اعتبرته إسرائيل "حكم إعدام" للصناعات العسكرية الإسرائيلية. ويشكل هذا الموضوع نقطة الخلاف المركزية والأساسية بين الطرفين في جولة المفاوضات الجارية الآن في واشنطن.

وتتمحور نقطة خلاف أخرى بين الجانبين حول رغبة واشنطن في إلغاء البند الذي يتيح لإسرائيل رصد 400 مليون دولار من أموال المساعدات لشراء وقود للأغراض العسكرية، إضافة إلى مسألة حجم الاستثمار الأميركي في مشروع الدفاعات الجوية الإسرائيلي.

وخلاصة القول، إن التوقيع على اتفاقية المساعدات الأميركية العسكرية لإسرائيل للسنوات العشر القادمة ابتداء من نهاية 2018 سيتم إنجازه خلال الأيام القريبة، بالتأكيد. وتشير مختلف التسريبات والتقديرات إلى أن المبلغ الذي ستمنحه واشنطن لإسرائيل طبقا لهذا الاتفاق سيتراوح بين 4ر3 مليار و 6ر3 مليار دولار في السنة، أي ما مجموعه نحو 35 مليار دولار في عشر سنوات، وهو ما يشكل زيادة بنحو 400 مليون دولار في السنة عما كانت عليه المساعدات في الرزمة الحالية التي تنتهي بانتهاء العام 2018.

وبالتوقيع على هذه الاتفاقية تنتهي، عمليا، "الحرب البطولية" التي خاضها نتنياهو ضد الاتفاق النووي بين إيران والدول العظمى بقيادة الولايات المتحدة ويجني نتنياهو ثمارها المرجوة: زيادة المساعدات الأميركية للسنوات العشر القادمة وزيادة حصته (والليكود) من أصوات اليمين الإسرائيلي.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات