المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 7
  • سماح بصول

في أيلول الأخير، عرضت القناةُ الثالثةَ عشرةَ الإسرائيليةُ سلسلةَ تحقيقاتٍ مؤلَّفةً من أربعِ حلقاتٍ تحمل عنوان: "ما الذي جرى للجيشِ الإسرائيلي؟"، وفيها قام الصحافيُّ عُمري أَسنهايم والمخرج جِلعاد توكتالي باختيارِ أبرزِ قادةِ الجيشِ لتوجيهِ الأسئلةِ الحارقةِ حول القراراتِ المُتَّخَذةِ خلال فترةٍ تمتدُّ على أربعينَ عاماً.

في مقالِه الخاصّ حول السلسلة كتب أَسنهايم: "كلُّ القوّةِ الهائلةِ التي يُجسِّدُها جيشُنا تبدأُ وتنتهي بالبشر... لعلَّ هذا هو السَّببُ الذي دفَعَنا إلى اختيارِ «الحَيَّاكين» فقط في سلسلتِنا الجديدة." [1]

يُعَدّ أَسْنهايم واحداً من الصحافيين الذين قدّموا كثيراً من التحقيقاتِ للتلفزيون، خاصّةً خلال عملِه في برنامجِ التحقيقاتِ البارز "حقيقة" الذي تُقدّمه إيلانا ديّان. أما في هذه السلسلة يجلسُ أَسنهايم أمامَ قادةِ أركانِ الجيش (غادي آيزنكوت، ودان حالوتس، وجابي أشكنازي، وأفيف كوخافي، وهرتسي هليفي)، ووزراءِ أمنٍ، وجنرالاتٍ، وشخصياتٍ عسكريةٍ بارزةٍ، ويُوجِّه أسئلةً قد يكونُ في بعضها تحدٍّ غير مسبوق، يصلُ حدَّ الاتهام، ليبدو أنَّ الصحافةَ تجلسُ في جلسةٍ لجردِ حسابٍ مع الجيش!

الحلقة الأولى: يقرأ الضباطُ نصوصاً لا يفهمون معناها!

تُفتَتحُ هذه الحلقةُ بالتخويفِ من العدوِّ الأكبر: إيران. العداءُ مع إيران يتجدّدُ بين حينٍ وآخر، لكنَّ نتائجَ القصفِ الإيرانيِّ لإسرائيل في حزيران الأخير تركت أثراً بارزاً على الصعيدين العسكريّ والمدنيّ. إنَّ اختيارَ إيران بالذاتِ يأتي للمقارنةِ بين التصدّي لدولةٍ ذاتِ سيادةٍ وإمكاناتٍ عسكريةٍ، وبين حركاتِ مقاومةٍ، ليُهيِّئ المشاهدَ للسؤال: أيعقلُ أن يكونَ هذا نفسَ الجيشِ الذي فشلَ في السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023، مع القدراتِ الاستخباراتيةِ نفسِها، والذي يُحاربُ منذ أيّامٍ طويلةٍ تنظيماً إرهابيّاً ضعيفاً نسبيّاً؟

مقابلَ إشارةِ التحذير هذه، نتعرّفُ على أوّلِ الشخصيّاتِ العسكريّة التي تتّسمُ بـ "حُسنِ السيرة"، شارون جيله كما يصفه آخرون: «أمشي وراءه في أرضِ المعركة بلا تردُّد». أمّا هو نفسه، موشيه تمير، فيُعزِّزُ ما يُقالُ عنه بجملةٍ حاسمة: "يمكنُك أن تكونَ ديّان الذي تردّد في حربِ الغفران، أو دادو الذي اتّخذَ قراراً بسحقِ العدوّ."

إنَّ نموذجَ تمير مهمٌّ للروحِ المعنويّةِ للمشاهد، لتخفيفِ ثِقلِ الآتي، وربّما ليبقى عالقاً في ذهنِه كنوعٍ من الأملِ بوجودِ قادةٍ لا يتهاونون.

يمكنُ تلخيصُ هذه الحلقةِ بالقول: "ما أشبهَ اليومَ بالأمس!"، فمعظمُ ما يَرِدُ فيها يُشيرُ إلى أنَّ كلَّ ما يُصنَّفُ خطأً في كلِّ حربٍ يتكرّرُ في الحروبِ الأخرى. فمثلاً، يُحذّرُ الضبّاطُ والجنرالاتُ في محاضراتِهم ومداخلاتِهم في المؤتمراتِ العسكرية، وكذا في كتبٍ ألّفوها، من "الخطرِ الهادئ" أي حماس، ومن عدمِ الاستعدادِ لخوضِ المعركةِ بشكلٍ فوريّ، ومن تراجُعِ قدراتِ الوحداتِ البرّيّة، ومن نقصِ المعدّات، ومن الاستخفافِ بمعلوماتِ أبراجِ المراقبة، ممّا يُعيدُ إلى الأذهان نتائجَ التحقيقِ في حربِ الغفران.

كذلك يُعيدُ التلخيصَ إلى حربِ لبنان الأولى وتراجُعِ القوّةِ العسكريّة مع إطالةِ أمدِ الحرب، وما يُصاحبُها من ضبابيّةِ الأهداف، وتغيّرِ قراراتِ الحكومةِ بوتيرةٍ سريعة. وكلّما تراجعَ وضوحُ الهدفِ اندفعَ الجمهورُ إلى الشوارعِ معارضاً للحرب، وهذا ما شهدناه خلال العامين الأخيرين، رغمَ الاختلافِ الكبيرِ في الحيثيّات.

لعلَّ أبرزَ التصريحاتِ في هذه الحلقةِ أوّلُها أنَّ الخوفَ من دخولِ الأنفاقِ هو "تابو" في المخيّلةِ الإسرائيلية، ويصفه العسكريّون بأنَّه لا يختلفُ عن دخولِ بيتٍ مُفخّخ، ففي الحالتين سيُصابُ جنود، والضابطُ الموجودُ في الميدانِ يعرفُ أكثرَ من القيادةِ العليا التي تجلِسُ في المكاتِبِ.

وثانيها أنَّ خطّةَ خطفِ الجنديِّ جلعاد شاليط كانت بيدي متعاونين في طريقِها إلى الجيش، لكنّهما احتُجزا للتحقيقِ مدّةَ أربعٍ وعشرينَ ساعةً، تمت خلالها عمليّةُ الخطف. وهنا يبرزُ أمرٌ إضافيّ لا يتعلّقُ فقط بسرعةِ التعاملِ مع المعلومات، بل بصياغةِ العمليّات نفسها.

يسخرُ موشيه تمير من وصفِ العمليّاتِ ويقول: "يقرأُ الضبّاطُ نصوصاً ومصطلحاتٍ لا يفهمون معناها، مثل: قتالٌ متعدّدُ الأبعادِ تمثيليٌّ مُصوَّبٌ لتحقيقِ هدف، وقتالٌ ذو صلاحياتٍ مُوجَّهةٍ للمستوى الأدنى!" (ترجمةُ الكاتبة).

الحلقة الثانية: المنتخبُ في الملعبِ والمدرّبُ غائبٌ!

يُعيَّنُ جابي أشكنازي، ربيبُ وحداتِ "جولاني" القتالية، رئيساً لهيئةِ الأركان — وهي الدرجةُ الأعلى في سلّم القيادةِ العسكرية — ويضعُ في رأسِ أولوياته إعادةَ أمجادِ الوحداتِ البريّة. يرجّحُ أشكنازي أنَّ العِلّةَ التي أصابت القواتِ البرّيةَ تعودُ إلى غيابِ التدريباتِ المكثّفة، وتركِ الجنودِ في مواقعِ التدريبِ بلا ضبّاطِهم، ويصفُ الوضعَ قائلاً: "إنه منتخبٌ يدخلُ ملعبَ التدريبِ بغيابِ المدرّب". يتكرّرُ هذا التفصيلُ في الحلقاتِ اللاحقة، حين يُكشَفُ أنَّ مواقعَ التدريبِ لا تُحاكي ميدانَ القتالِ الفعليّ.

يُعتبرُ أشكنازي واحداً من رؤساءِ هيئةِ الأركانِ الأكثرِ دكتاتوريةً، وتركّزُ هذه الحلقةُ على العلاقةِ بينَ الجنرالاتِ والضبّاط في هذا السّياقِ. كانت عمليةُ "الرصاص المصبوب" آخرَ معركةٍ ناجحةٍ بحسبِ توصيفهم، ومنذ ذلك الحين بدأ "شيءٌ سيّئٌ" يحدثُ: تراجعُ القدرةِ على التعبيرِ عن الرأي داخلَ الجيش.

نشرَ الجنرالُ الاحتياطي أمير أبو العافية مقالاً بعنوان "الجرأةُ في التعبيرِ عن الرأي داخلَ الجيش"[2]، ولقي المقالُ أصداءً واسعة، إذ كشفَ النقابَ عن ثنائيةِ المواقفِ داخلَ المؤسسةِ العسكرية؛ فما يُقالُ داخلَ الغرفِ المغلقة — حيث يُسجَّلُ بروتوكولٌ رسميّ — لا يُشبهُ ما يُقالُ خارجَها، خشيةَ فتحِ البروتوكولاتِ لاحقاً وما يترتّبُ على ذلك من محاكمةٍ قضائيةٍ وشعبية. كما أنَّ الضبّاطَ باتوا يُفضّلون هزَّ رؤوسِهم بالموافقة بدلَ الاعتراض. يصفُ الناطقُ باسمِ الجيشِ هذا السلوكَ بسخريةٍ قائلاً: "يُشبهون دُميةَ الكلبِ التي تُوضَعُ في السياراتِ ولا تكفّ عن هزّ رأسها." ويُلخّصُ: "كأنّنا في الجيشِ السوريّ!"

هكذا تصرّفَ أشكنازي، وورثَه آيزنكوت، وكانت حجّتُهما "تكريسَ الوقتِ لإعادةِ تأهيلِ الجيش". عرفَ الجيشُ في هاتين الفترتين مجموعةً من الضبّاطِ غيرِ المرغوبِ بهم؛ إذْ شاعَ بين الضبّاطِ قولٌ ساخر: "عليك ألّا تُزعجَ القادةَ، كي لا يرموا بك خارجَ الجيش."

رافقَ الحدَّ من حريةِ التعبيرِ نوعٌ من "التصفية" أو "الإقصاء" لبعضِ الجنرالاتِ الكبار ذوي الرؤى القتاليةِ المخالفةِ لقيادةِ الأركان، بحجّةِ الكذبِ أو إساءةِ استخدامِ ممتلكاتِ الجيش. لكنَّ المستوى العسكريَّ بأكمله كان يعلمُ أنَّ الجيشَ أضعفُ بغيابِ المعارضة. ويُقدَّمُ مثالٌ على ذلك: "كان بن غوريون يعلمُ أنَّ شارون يكذب، لكنه قال: أنا أحتاجُ هذا الرجلَ في القتال."

إنَّ تحوّلَ قيادةِ الجيشِ إلى "قطيعٍ" أو "جوقةٍ"، أدّى إلى الاستخفافِ بالتحذيراتِ والشكاوى والطلبات، ولم يجرؤ الضبّاطُ على القولِ إنَّ جنودَهم مُنهكون. أصبحَ الكتمانُ والكذبُ ثقافةً سائدةً قادت إلى الفشلِ في السابع من تشرين الأوّل. ففي العام 2013، بلّغَت شعبة الاستخباراتِ العسكرية "أمان" رئيسَ هيئةِ الأركانِ بيني غانتس بأنَّ البحثَ عن الأنفاق جارٍ، بينما في الحقيقة لم يكن ذلك ضمنَ أولويّاتهم.

وحينَ وصلَ الجنودُ إلى فتحاتِ الأنفاق لم يعرفوا ما الذي عليهم فِعلُه، لأنّهم لم يتلقّوا تدريباً، ولم تكن لديهم معدّاتٌ ولا مخطّطٌ واضح. اكتفى سلاحُ الجوّ بقصفِ بعضِ الأنفاقِ، ومع ذلك كذَبَ القادةُ على الجمهور واحتفوا بتفجيرِ الأنفاقِ من خلال مؤتمراتٍ صحافيةٍ وبياناتٍ عسكريةٍ متفائلة.

الحلقة الثالثة: إِليئور أزاريا يُقلبُ الموازينَ

في العامِ 2017، نفَّذَ شابّانِ فلسطينيّانِ عمليةً ضدَّ مجموعةٍ من الجنودِ في الخليل، أُصيبَ خلالها عبدُ الفتّاحِ الشريف — أحدُ الشابّين — وبعدَ إحدى عشرةَ دقيقةً من انتهاء الحدث، كان الشريفُ ملقىً على الأرضِ ينزف، وأثناءَ انتظارِ فحصِ خلوِّ ملابسِه من أيِّ مادةٍ متفجّرة، قامَ أحدُ الجنود، إِليئور أزاريا، بإعدامه برصاصةٍ في الرأس. تمَّ توثيقُ الحادثةِ بالفيديو وانتشرَ بسرعةٍ كبيرة، مُحدثاً حالةً غيرَ مسبوقةٍ من البلبلةِ في صفوفِ القياداتِ العسكرية، امتدّت حتى انتهاء محاكمةِ أزاريا. وصفت بعضُ القياداتِ السياسيةِ والعسكريةِ تصرّفَ أزاريا بالشاذِّ والمتناقضِ مع قيمِ الجيش، وبدأت محاكمتُه رسميّاً.

يصفُ أحدُ الجنرالاتِ قضيّةَ أزاريا بالشائكة، لأنّها أصبحت منصّةً للسياسيين لكسبِ المزيدِ من التأييدِ، لكنه يؤكّدُ في الوقتِ نفسه أنَّ الضجّةَ التي أُثيرت حولها كانت مبالغاً فيها، قائلاً: "لقد رأيتُ ما هو أفظعُ من ذلك خلالَ الخدمة، رأيتُ ضابطاً يُطلقُ النارَ على جثثٍ ليتأكّدَ من موتِها."

أظهرت قضيّةُ أزاريا خللاً عميقاً في التواصلِ بينَ الضبّاطِ والجنود، وخللاً أخطرَ في علاقةِ الإعلامِ بالجيش، إذ عرفَ الجنودُ تفاصيلَ القصةِ من خلالِ وسائلِ الإعلام، وعلى وجهِ الخصوص عبرَ الصحافي شارون جال من القناةِ عشرين، الذي حاولَ دفعَ الجنودِ إلى التمرّد، خاصّةً بعد أنْ ثارَ الرأيُ العامّ مطالباً بعدمِ معاقبةِ أزاريا، وعدمِ التخلّي عن جنديٍّ أدّى "واجبه" وقتلَ "مخرّباً"!

كشفت قضيّةُ أزاريا كذلكَ عن عددٍ من الظواهرِ الخطيرةِ في نظرِ قياداتِ الجيشِ العليا، فثمّةَ تعامُلٌ مباشرٌ بينَ مجموعاتٍ كاهانيةٍ متطرّفةٍ والجنودِ في الخليل، كما أنّ المسيطرَ ميدانيّاً هو ضابطُ الأمنِ المستوطِن، وأنَّ القسمَ الأكبرَ من القواتِ البرّيةِ ينتمي إلى تيارِ الصهيونيّة الدّينيّة. وقد أدّى ذلك إلى فقدانِ البوصلةِ في اتّخاذِ القراراتِ الميدانية. كلُّ هذا يُقابَلُ بالإهمالِ وعدمِ المعالجة، ممّا لا يردعُ الجنودَ عن أيّ تصرّفٍ — وكان الأقسى على الجيشِ والجمهورِ قتلُ ثلاثةٍ من المختطَفينَ الإسرائيليينَ في قطاعِ غزّة.

الحلقة الرابعة: الحربُ كلعبةِ "بابجي"!

يبدأُ هذا الجزءُ بتحليلِ العلاقةِ بينَ جيلٍ جديدٍ من الجنودِ الإسرائيليينَ وبينَ الحربِ بوصفِها تجربةً رقميةً وأسطوريةً. حينَ يطلقُ الجنديُّ النارَ من سلاحِه، لا يرى أمامَه إنساناً، بل هدفاً افتراضيّاً يتحرّكُ على الشاشة. لقد تلاشت الحدودُ بين الواقعِ واللعبة. قَبْلَ اسْتِخْلاصِ العِبَرِ، وتَلْخيصِ الأَحْداثِ وجَمْعِ الِاعْتِرافاتِ، تُرَكِّزُ الحَلْقَةُ الأَخِيرَةُ مِنَ السِّلْسِلَةِ عَلَى التَّغْيِيراتِ الَّتِي اعْتَمَدَهَا رَئِيسُ الأَرْكَانِ أَفيف كُوخافِي، وَالَّتِي صُوِّبَتْ نَحْوَهُ أَصَابِعُ الِاتِّهَامِ بِضَعْفِ القُوَّاتِ البَرِّيَّةِ وَنَقْلِ المَعْرَكَةِ مِنَ المَيْدَانِ إِلَى الشَّاشَةِ.

يُصِرُّ أفيف كوخافي على أنَّ السّادسَ والسابعَ من تشرينَ الأوّل جديرانِ بالتحقيق، خاصّةً في قضيّةِ التهيئةِ للقتالِ والردِّ والردع، لكنه مُصِرٌّ أيضاً على أنَّ الجيشَ ممتازٌ بشكلٍ عامّ. يَدّعي كوخافي أنَّ الجيشَ سَحَقَ حزبَ الله وحماس، وضَرَبَ جوهرَ المشروعِ النوويِّ الإيرانيِّ، وحَمَى الشَّعبَ في إسرائيلَ من خَطَرِ الصواريخِ على مدارِ عامينَ — وهذا ليس مفهوماً ضمناً!

عندما يُسألُ كوخافي: كيفَ يمكنُ أنَّ جيشاً قصفَ المنشآتِ الإيرانيةَ بنجاحٍ، هَوى في السابعِ من تشرينَ الأوّل؟، فَيُجيبُ بأنَّ الحِرصَ على ضربِ المشروعِ النوويِّ الإيرانيِّ ومنعِ وصولِ عتادٍ عسكريٍّ إلى حزبِ الله جعلَ النارَ "تَهْدَأ" تحتَ الجبهةِ الغزّيّة.

يَشرَحُ كوخافي هنا مَوضوعين: الأوّلُ هو "مبام"، أيْ معْرَكَةُ بَيْنَ الحُروبِ؛ وهيَ العملياتُ التي يقومُ بها الجيشُ لمنعِ نشوبِ حربٍ أَكبَر، وتشملُ الاغتيالاتِ (سميرِ القنطارِ وقاسمِ سُليماني)، وضَربَ أهدافٍ في إيران ولبنان. يَدّعي مُعارِضو "مبام" أنَّها كَلَّفَت خَزينةَ الدّولةِ ملايينَ كانَ يجِبُ أنْ تُنفقَ في أهدافٍ أخرى.

أمّا الثّاني فهو إدمانُهُ على استخدامِ التكنولوجيا. يَظهَرُ خِلافٌ واضحٌ بينَ كوخافي وآخَرينَ في قضيّةِ الاعتمادِ على الاستخباراتِ والتكنولوجيا، إذ يرى المُعظَمُ أنّها لعنةٌ تَمنَحُ شُعوراً مُتَخَيَّلاً بِالسّيطرةِ على العدوِّ، لكنها في الواقع تُخَدِّرُ القُدرةَ على التنفيذ. يُعزِّزُ كوخافي موقفَهُ المدافعَ عن الاستخباراتِ والتكنولوجيا بِتَجْرِبتِه في عمليّةِ "الجِدارِ الواقي" واجتياحِ نابلس.

طَمأنُةُ الشّعبِ أولاً

 

على مدارِ الحلقاتِ الأربع، نَستخلِصُ من كُل ما يوصَف هُو أنّ حالةُ الطَوارئ والتوتّر والحَرب هي حالةٌ دائمةٌ، وعندما يتمَّ الحديثُ عن الأمِّ التي تنتظرُ ابنَها الجنديَّ عائداً إلى البيت، يبدو أنَّ هذا المشهدَ يشجّعُ على المزيدِ من القتالِ عن بُعد. يُضافُ إلى ذلك تكرارُ الحديثِ عن منعِ التصعيد خشيةَ التشويشِ على الروتينِ اليوميِّ للشعب، حتى لَيبدو أنَّ مكانَ قضاءِ عطلةِ نهايةِ الأسبوع لدى معظمِ الإسرائيليينَ هو ما يُقرِّرُ شكلَ تحرّكاتِ الجيش! القلق الدائم من إصابة ومقتل الجنود، ورد الفعل الشعبي لها نصيب في اتخاذ القرارات.. فتطوير القدرات الجوية والتكنولوجية جاء ليقلل من عدد القتلى على الأرض. يتضح أن المستوى السياسي القلق على مصيره الناتج عن التصادم مع الشعب هو من يختار التأجيل أو تقليص حجم أي عملية.

إنَّ وصفَ المخططاتِ والعملياتِ واستخدامَ التكنولوجيا يُمنحُ المشاهدَ إحساساً بأنَّه أمامَ لعبةِ حاسوبٍ، ومشاهدُ الجلساتِ والاجتماعاتِ والتعرّفِ على القدراتِ والمعدّاتِ والأجهزةِ التكنولوجيّةِ التي تُصاحبُ الجنودَ، تجعلُ الحديثَ عن "العدوّ" مُعقّماً من أيّ صفةٍ إنسانيّةٍ. هذا بالضبطِ ما شهدناه خلالَ العامينِ الأخيرين: خطابٌ عسكريٌّ وسياسيٌّ نزعَ الإنسانيّةَ عن الفلسطينيِّ واللبنانيِّ والإيرانيّ، بهدفِ منحِ الشرعيّةِ للحرب وقتلِ المدنيّين بوسائلَ تكنولوجيّةٍ تُزيحُ ثِقَلَ "القتل" عن كاهلِ الجنديّ ومُتَّخذي القرار.

كما في كلِّ تحقيقٍ إعلاميٍّ — تلفزيونيٍّ أو سينمائيٍّ إسرائيليٍّ — هناك الكثيرُ من المصارحةِ والندِّيّةِ والتوبيخِ والتشديدِ على تحمّلِ المسؤوليّة، والمطالبةِ بالتنحّي أو التنازلِ أو حتى تلقّي العقاب. ومع ذلك، تبقى الأخطاءُ تتكرّر، وتُضافُ تفاصيلُها إلى كومةٍ من البروتوكولاتِ والتحقيقات.

ومن بينِ كلِّ قصصِ الفشلِ، تظهرُ قصةُ بطولةٍ واحدة، وهذا مهمٌّ لنفسيّةِ المشاهدِ الإسرائيليّ الذي يُقدِّسُ فكرةَ "البطل"، ويمنحُ قدسيّةً أكبرَ للبطلِ بالزيّ العسكريّ.

التساؤل "ماذا جرى للجيش" يعني أن هناك توقعات وشكلاً للجيش قد حاد عنه في فترة ما، خاصة سلاح البرية، ونلمس ذلك من صيغة الأسئلة، لكن حسب اعترافات الجنرالات فإن خيبات الأمل والتباطؤ في اتخاذ القرارات كان نهجاً دائما مما دفع البعض للمغامرة ميدانيا واتخاذ قرارات فورية قد يكافأ عليها وقد يلقى العقاب.

لَم تَلْقَ التحذيراتُ من المستوطنينَ وعُنفِهم آذاناً صاغيةً، فتحوَّلَ الجيشُ إلى حارسٍ يتلقّى الأوامرَ أو يخضعُ لرغباتِ وقراراتِ أصغرِ مستوطنٍ. كذلك، تَدَخُلَ الرَّبّانيم وطُقوسُ الجنودِ المتديّنين، وتأثيرُ ذلك على الممارساتِ اليوميّةِ والاحتفالاتِ التي تُشارِكُ فيها المجنّداتُ، وحتى سهولةُ الضَّغطِ على الزِّناد، يُضافُ إليها شَعبويّةُ السياسيّين التي تدفعُ الجنودَ لاستغلالِ الحالةِ والتصرّفِ بما يصفُه أحدُ الجنرالاتِ بـ"البهيميّة". وقد تجلّى ذلك بشكلٍ واضحٍ في العدوانِ الأخيرِ على قطاعِ غزّة، من خلال كتاباتِ الجرافيتي على الجدران، وتفجيرِ البيوتِ والبشرِ، وحرقِ المكتباتِ والمساجدِ على سبيلِ التسلية.

قد تأتي هذه السلسلةُ في هذا التوقيتِ لتُفسِّرَ بعضَ ما حدث في السابعِ من تشرينَ الأوّل، ولتُعكِسَ للجمهورِ ما أخفاه قادةُ الجيشِ والكابينيت، ممّا تسبّب في خيبةِ الأملِ الكبيرةِ لدى الإسرائيليّين. وتنتهي الحلقةُ الأخيرةُ بجملةٍ تقول:
"في صباحِ السابعِ من أكتوبر، كان هناك سَريانٌ جارِفٌ في أنابيبِ الجيشِ الصَّدِئة، ولذا هوى الجيشُ لأنّه لم يستطعْ تحمُّلَ الضَّغط... لكنّ القواتِ البريّةَ نهضت كالعنقاء، وخاضت قتالاً داخلَ قطاعِ غزّة".

اعترضَ أفيف كوخافي على اسمِ السلسلة، مدّعياً أنّها تعكسُ موقفاً سلبيّاً من وضعِ الجيش الإسرائيلي.

فهل توقّعَ رئيسُ هيئةِ الأركان العامة أن تُصوَّرَ سلسلةٌ تُحقّقُ في أكثرِ أجهزةِ الدولةِ قدسيّةً وخطورةً، في فترةٍ مصيريّةٍ، وبالتزامنِ مع مرورِ عامينِ على حربٍ باتت تقتربُ من فقدانِ شرعيّتِها، كنوعٍ من الترويجِ أو الاحتفاء؟!

 

[1] نُشر مقال أسنهايم على موقع القناة 13: https://13tv.co.il/item/documentary/season-01/clips/jh5am-904762140/

[2] نُشر في مجلة "معرخوت" العسكرية، 2010، صفحات 20-27 (بالعبرية هنا)

المصطلحات المستخدمة:

جيشا

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات