المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
رئيس الهستدروت أرنون بار دافيد. (فلاش 90)
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 6
  • برهوم جرايسي

هزّت قضية الفساد الكبيرة، في اتحاد نقابات العمال الإسرائيلية العامة (الهستدروت)، الأوساط السياسية والعامة، نظرا لحجمها، إذ أن أول المتورطين فيها، رئيس الهستدروت أرنون بار دافيد وزوجته، ومعه عشرات المسؤولين النقابيين، بمستويات مختلفة، وهذا فتح من جديد قضايا الفساد في الهستدروت، الذي كان حتى العام 1994 يسيطر على 30% من الاقتصاد الإسرائيلي، ويجمع في صفوفه لا أقل من 80% من القوى العاملة، وله مكانة حاسمة في السياسات الاقتصادية، ذات العلاقة بظروف وشروط العمل، إلا أنه في ذلك العام، حصل انقلاب في قيادة الهستدروت، وكان فاتحة لتغيير جذري في المبنى التنظيمي للنقابات واتحادهم، ليظهر في ما بعد أن المخطط كان ضرب مكانة النقابات والهستدروت، ومنذ ذلك الحين دخل الهستدروت في مسار إضعاف تأثيره، وتقلبت عليه قيادات، لم تكن على رأس أجندتها المصالح العمالية لجمهور العاملين عامة.

لمحة تاريخية

حتى العام 1994، كان الهستدروت جسماً اقتصادياً قوياً، وهو بحد ذاته مشغّل، ويسيطر على 30% من الاقتصاد الإسرائيلي في حينه، الذي كان اقتصادا مبناه مختلف كليا عما هو عليه اليوم. فمثلا، كان للهستدروت شركة البناء والتطوير الأكبر في البلاد، وبنك "هبوعليم"، البنك الإسرائيلي الأكبر، وما زال، لكن تم بيعه، وشبكات تسويق، وأكبر شبكة عيادات، "كلاليت"، التي تحوّلت لجمعية لاحقا، لكن كانت تؤمن أكثر من 70% من المواطنين، وهي اليوم قريبة من هذه النسبة، 67% لكن ليست تابعة للهستدروت.

وكانت عضوية الهستدروت إما من خلال النقابات، أو من خلال الانتساب لشبكة العيادات "كلاليت"، وهذا ما جعل 70% من ذوي حق الاقتراع في إسرائيل، هم أيضا ذوي حق اقتراع للهستدروت، وكانت الانتخابات له حدثا انتخابيا هاما، رغم أن من كان يسيطر طيلة الوقت على الهستدروت هو حزب العمل، من دون منافس حزبي جدي.

انقلاب 1994

في مطلع سنوات التسعين، ارتفع منسوب الغضب على القيادة المتسلطة على الهستدروت، مع كثرة الحديث عن فساد إداري، وزاد هذا داخل حزب العمل، كون القيادة المسيطرة على الهستدروت كانت أيضا قوة ذات وزن كبير داخل الحزب. وحدث انشقاق، بالإمكان القول إنه صوري، داخل حزب العمل، لغرض الانقلاب على قيادة الهستدروت، وقاد الانقلاب الوزير في حكومة إسحق رابين، حاييم رامون، ومعه النائب في حينه، عمير بيرتس.

وفي انتخابات الهستدروت التي جرت في العام 1994، تمت الإطاحة بالقيادة التقليدية، إلا أن القيادة البديلة كانت أيضا من حزب العمل؛ لكن تحت غطاء إنهاء حالة الفساد، تكشفت خيوط مشروع أكبر، إذ سارع رئيس الهستدروت الجديد، حاييم رامون، إلى بيع اقتصاد الهستدروت، وتم بيع الشركات الأكبر، وبضمنها البنك وشبكات التسوق، وأيضا فصل عضوية شبكة العيادات "كلاليت" عن عضوية الهستدروت، وحينها انهار عدد الأعضاء بمئات الآلاف.

وتوسع المخطط لبيع الكثير من أملاك الهستدروت من عقارات، مبان وأراض، وهذا ما قلص مداخيل الهستدروت، وتبع ذلك تقليص حجم العاملين في اتحاد النقابات، بالتخلص من مئات الوظائف إن لم يكن أكثر.

واقع الهستدروت حاليا

يضم الهستدروت اليوم حوالي 850 ألف عضو، من بينهم حسب التقديرات بضع عشرات الآلاف من المتقاعدين، ولهذا، حسب التقديرات، فإن حوالي 18% من القوة العاملة في إسرائيل أعضاء في اتحاد النقابات، الهستدروت، لكن هناك تنظيمات عمالية ليست تابعة للهستدروت، أبرزها نقابتان للمعلمين، ونقابة الأطباء، ما يعني أن لا أكثر من 25% من العاملين منظمون في النقابات المعترف بها، وبضمنها الهستدروت.

وبات الهستدروت اليوم يرتكز أكثر على النقابات الكبيرة، مثل شركات الصناعات العسكرية والبنوك، وموظفي المجالس البلدية والقروية (الحكم المحلي)، ونقابات طبية (عدا الأطباء) مثل نقابة الممرضات والممرضين وغيرهم، بينما نسبة الأفراد المنتسبين للهستدروت قليلة جدا، من بين المنتسبين.

وشهدنا أن الهستدروت خلافا للعهد السابق، لم يعد يقود كفاحا من أجل العاملين في القطاع الخاص لتحسين ظروف عملهم، إلا في ما ندر، فقانون الحد الأدنى من الأجر، بات منظما في قانون ثابت، ويتم تعديله في رواتب شهر نيسان من كل عام، ليكون بنسبة 47% من معدل الأجور العام.

ومنذ انقلاب العام 1994 توالى على رئاسة الهستدروت خمسة أشخاص، لكن بدأت تحولات جدية في قيادة الهستدروت، من حيث تناغمها مع السياسات الاقتصادية الحكومية إلى حد ما، بشكل خاص ابتداء من العام 2005، مع تخلي عمير بيرتس عن رئاسة الهستدروت، عائدا إلى الكنيست، وتسلم عوفر عيني، الشخص القوي في حينه، ليس فقط في الهستدروت، بل أيضا في السياسة الإسرائيلية، بقربه لكبار المستثمرين، إذ بقي في هذا المنصب حوالي عشر سنوات، وقيل عنه إنه كان عرّاب حكومة الليكود والعمل في العام 2009، وبعد فترة قصيرة من مغادرته الهستدروت في العام 2015، بدأ يظهر اسمه في قائمة أكثر 500 شخص ثراء في إسرائيل.

ورئيس الهستدروت الحالي، أرنون بار دافيد، المعتقل والخاضع للتحقيق في وقت نشر هذا المقال، أيضا تناغم إلى حد ما مع السياسة الاقتصادية الحالية، وخاصة في ظل الحرب، إذ قاد الهستدروت للقبول بعدة ضربات اقتصادية تم توجيهها للعاملين، في المجال الضريبي وامتيازات عمالية، تحت ذريعة المساهمة في تسديد كلفة الحرب.

قضية الفساد الحالية وتخوفات من ضرب مكاسب عمالية

تدور قضية الفساد في الهستدروت حول أن صاحب وكالة تأمينات كبيرة، قدم رشاوى، إما مالية أو غيرها، لرئيس الهستدروت، وموظفين ومسؤولين في لجان عمالية كبرى، من أجل اقناع العاملين بتحويل تأمينات التقاعد الخاصة بهم لوكالته، ولهذا فإن الاعتقالات والتحقيقات طاولت حتى الآن عشرات كثيرة، وبعضهم قبع في الاعتقال، أبرزهم، رئيس الهستدروت وزوجته، ووكيل التأمين ونجله.

وتبين أن التحقيقات السرية دائرة منذ عامين، وتم توثيق الكثير من الاتصالات، وما تلقاه بار دافيد، بحسب ما ينشر. وقالت تقارير إعلامية إن التحقيقات، أو طلب إفادات للشرطة، سيطاول وزراء في الحكومة الحالية، خاصة وأن صاحب وكالة التأمين يُعد عضوا بارزا، وذا نفوذ في المجلس العام لحزب الليكود، وله اتصالات مع كبار المسؤولين.

وقد ظهرت عدة مؤشرات على جدية القضية، وكِبَر حجمها، ومن هذه المؤشرات أن المحكمة مددت اعتقال رئيس الهستدروت وزوجته لثمانية أيام، وكذا بالنسبة لصاحب وكالة التأمين ونجله، كما أن صوت محامي الدفاع جاء خافتا، وحتى لم يظهر في الإعلام، لدحض التهم، أو التقليل من شأنها، كما جرت العادة في حالات مشابهة.

لهذا، كثرت التقديرات بعدم عودة بار دافيد لمنصبه، على أن يتولى شخص ما مكانه، حتى الانتخابات للهستدروت، التي من المفترض أن تجري في شهر أيار من العام 2027. ونشير هنا، إلى أن الائتلاف الذي يقوده بار دافيد حاز على أكثر من 70% من الأصوات في الانتخابات السابقة، وهو ائتلاف "موروث" ممن كانوا قبله في المنصب، ويضم خليطا من الأحزاب من شتى الاتجاهات، وهذا يعود إلى رفع نسبة الحسم في الانتخابات، في العام 2012، إلى 4.5%.

وفي ظل هذا، ظهرت تخوفات في أوساط سياسية من أن يستغل اليمين المتطرف الحاكم، بقيادة الليكود، الوضع الناشئ في الهستدروت، للسيطرة على القيادة، ومن هناك الطريق تكون قصيرة لتمرير سياسات لدى الحكومة الحالية، في غالبها ما تزال متسترة، وقد كشف وزير المالية الحالي، بتسلئيل سموتريتش، عن بعضها عند توليه منصبه الوزاري.

وفي صلب نوايا هذه الحكومة ضرب امتيازات عديدة لجمهور العاملين، من أبرزها تقويض الحق بالإضراب، وتقليص عدد أيام الإجازات، وتقليص وحتى إلغاء تدريجي لرسوم النقاهة، وهي مثبّته بقانون، يحصل عليها العاملون في أشهر الصيف، وهي قائمة على تدريج يتعلق أيضا بأقدمية العمل، وغيرها من الامتيازات.

وتقف من وراء هذه السياسة لضرب الامتيازات العمالية، منظمة "كوهيلت"، وهي منظمة يمينية متطرفة، ممولة من أثرياء في الولايات المتحدة، ولديها أجندات لتغيير وجه مؤسسات الحكم، ومن أبرزها تقويض صلاحيات جهاز القضاء، في مراقبة سير الحكم وقرارات الحكومة والكنيست، ومن أهداف هذا منح سطوة أكبر لحيتان المال على الحكم، وفي غالبه، نقل النهج الأميركي للاقتصاد والحكم الإسرائيلي، و"كوهيلت" هي الموجّه الأكبر للحكومة الحالية.  

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات