في أعقاب الضربة الاستباقية التي نفذتها إسرائيل ضد إيران فجر الجمعة 13 حزيران 2025، والتي وصِفت على لسان رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بأنها "ضربة افتتاحية لحرب طويلة"، أعلنت إسرائيل وللمرة الأولى بشكل شبه مباشر أن جهاز الموساد نفّذ بالتزامن عمليات اغتيال استهدفت علماء نوويين إيرانيين.
يُعدّ هذا التصريح تطوراً لافتاً في سياق السياسة الإسرائيلية التقليدية القائمة على النفي الرسمي أو الغموض المدروس إزاء أي عمليات استخباراتية داخل إيران، سواء كانت اغتيالات، تفجيرات، أو اختراقات سيبرانية. ويعيد هذا الإعلان إلى الواجهة سلسلة طويلة من العمليات السرية التي نُسبت للموساد على مدى عقدين من الزمن، والتي استهدفت البرنامج النووي الإيراني بمختلف مكوناته البشرية والتقنية.
في هذه المساهمة، نحاول تحليل دوافع السياسة الإسرائيلية في إنكار مسؤوليتها عن تلك العمليات، واستكشاف البنية الخطابية التي تؤطّر هذا النفي، إلى جانب استعراض أبرز العمليات المنسوبة إلى الموساد، والتي تركت أثراً متفاوتاً على تطور المشروع النووي الإيراني.
الإنكار الموجه: استراتيجية إسرائيل في الاغتيالات الخارجية
يبرز تساؤل جوهري: ما الذي يدفع إسرائيل إلى التزام الصمت وعدم تبني المسؤولية بشكل رسمي عن العديد من عملياتها السرية داخل إيران؟ يعزو الصحافي الإسرائيلي رونين بيرغمان، في كتابه "انهض واقتل أولاً: التاريخ السري لعمليات الاغتيال الإسرائيلية"، امتناع إسرائيل عن إعلان مسؤوليتها المباشرة عن العمليات في إيران إلى سياسة رقابية ممنهجة، تقودها الرقابة العسكرية. ووفقاً له، تُلزم هذه الرقابة وسائل الإعلام الإسرائيلية باستخدام صيغة "بحسب منشورات أجنبية" عند تناول أي نشاط استخباراتي سري منسوب للموساد في إطار ما يُعرف بـ"الاغتيالات المستهدفة".
تُعد هذه الصيغة أداة خطابية مقصودة، تهدف إلى نفي المسؤولية الرسمية من جهة، مع الإبقاء على مفعول الردع من جهة أخرى، وذلك عبر الإيحاء الضمني بقدرة إسرائيل على الوصول إلى خصومها، حتى في عقر دارهم. وبهذا، تُصبح "مسافة النفي" جزءاً من هندسة الرسائل الاستخباراتية الإسرائيلية، التي توازن بين الحجب والاعتراف، بما ينسجم مع منطق الردع الاستراتيجي ومتطلبات الأمن القومي بدون الدخول في التزامات قانونية أو سياسية دولية مباشرة.
رغم هذا الغموض المنهجي، تُظهر الأدلة المتوفرة أن إسرائيل استخدمت – إلى جانب الاغتيالات – أدوات أخرى مثل العقوبات الاقتصادية والهجمات السيبرانية، في محاولة لإبطاء البرنامج النووي الإيراني. أسهمت هذه السياسات بالفعل في تأخير التقدم التكنولوجي الإيراني، لكنها لم تنجح في وقف البرنامج بشكل كامل أو إحداث تحوّل استراتيجي في توجهاته.
في السياق العملياتي، تميزت سياسة إسرائيل بتجنب إشراك مباشر لعناصر استخباراتية على الأرض داخل إيران. ووفقاً لما كشفه رئيس الموساد الأسبق تامير باردو لبيرغمان في كتابه، فإنه قد تم تنفيذ عمليات داخل العمق الإيراني عبر شبكات محلية، من عناصر معارضة تعمل سراً، أو من أفراد ينتمون إلى أقليات عرقية تعادي النظام. هذا النموذج من التنفيذ مكّن إسرائيل من تقليل مستوى المخاطرة وتعزيز قدرة النفي، مع الحفاظ على فعالية التخريب الميداني في عمق الجغرافيا الإيرانية المحصّنة.
نماذج من عمليات الموساد ضد إيران
شهدت السنوات الأخيرة سلسلة من العمليات السرية التي نفّذها الموساد داخل إيران، مستهدفاً البنية البشرية والتقنية للبرنامج النووي، ومن أبرز هذه العمليات:
أولاً: سرقة الأرشيف النووي الإيراني[1]
في واحدة من أكثر عمليات الموساد دراماتيكية بحسب وصف صحيفة "يديعوت أحرونوت"، تمكن الموساد الإسرائيلي من تنفيذ اختراق أمني فائق الحساسية داخل العاصمة الإيرانية طهران، من خلال سرقة أرشيف نووي كامل يخص مشروع "عماد" الإيراني السري.
جرت العملية في مستودع محصّن بمنطقة شورآباد، حيث تمكن عملاء الموساد من التسلل إلى المنشأة، وتهريب نصف طن من الوثائق والأقراص الصلبة التي احتوت على معلومات مفصلة عن البرنامج النووي الإيراني، من دون أن تنتبه إيران إلى فقدانها.
جاءت العملية في سياق رغبة إسرائيل في تقديم أدلة مادية ملموسة على أن إيران تواصل تطوير برنامج نووي عسكري، رغم توقيعها على معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، وادعاءاتها بأن برنامجها ذو طابع مدني. وقبل هذه العملية، استندت معظم المزاعم الإسرائيلية إلى معطيات غير موثقة أو مصادر شفهية سرية، ما جعل الرواية الإسرائيلية تفتقر إلى القوة الإقناعية على الصعيد الدولي. أما بعد سرقة الأرشيف، فقد تغير الوضع جذرياً، إذ امتلكت إسرائيل مواد أصلية ومباشرة يمكن مشاركتها مع الدول الكبرى لتدعيم موقفها في المحافل السياسية والدبلوماسية.
بحسب الرواية الإسرائيلية التي كشفت عنها صحيفة "يديعوت أحرونوت"، فإن العملية اعتمدت على تنسيق بين وحدات استخبارات بشرية وأخرى إلكترونية، إلى جانب تكنولوجيا أمنية طوّرتها إسرائيل تدمج بينهما. وعقب إتمام العملية، سافر رئيس الموساد يوسي كوهين إلى واشنطن، حيث عرض مضمون الأرشيف على الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ووزير خارجيته مايك بومبيو، ومسؤولين آخرين. وتضمّن الأرشيف وثائق علمية، تصاميم، نتائج تجارب، تعليمات صادرة عن وزارة الدفاع الإيرانية، وتسجيلات توثق مواصلة محسن فخري زاده – أبرز علماء المشروع – عمله بعد 2003 ضمن إطار مشروع "سبند" الذي يُعتقد أنه امتداد عسكري سري لمشروع "عماد".
عقب تهريب الأرشيف، دار جدل داخلي في إسرائيل بشأن طريقة كشف المعلومات، بين من اقترح تسريبها من دون نسبها لإسرائيل، ومن رأى ضرورة إعلانها رسمياً لكسب الشرعية الدولية. وفي نهاية المطاف، تقرر الإعلان عنها في مؤتمر صحافي عقده بنيامين نتنياهو، وُصف بأنه محاولة لكشف "أكاذيب إيران".
عندما أدركت طهران لاحقاً ما جرى، بدأت التحقيقات، وأُقرت بوقوع اختراق أمني خطير. في الوقت ذاته، تم تسليم نسخ من الوثائق إلى وكالات استخباراتية في أوروبا وروسيا والصين، وإلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ما عزّز من الخطاب الإسرائيلي ضد إيران، ووسّع نطاق الضغط الدولي عليها.
ثانياً: اغتيال محسن فخري زاده[2]
يُعد محسن فخري زاده أحد أبرز العلماء الإيرانيين في مجال الفيزياء النووية، وقد ارتبط اسمه بقيادة مشروع "عماد" الذي تدعي إسرائيل أنه كان يهدف إلى تطوير رأس حربي نووي قبل أن يتم إغلاقه رسمياً العام 2003. إذ أشارت خطابات بنيامين نتنياهو في العام 2018، إلى أن فخري زاده واصل لعب دور محوري في البرنامج النووي الإيراني. فيما طُرح اسم زاده منذ العام 2008 في المحادثات بين إسرائيل والولايات المتحدة، وظل هدفاً عالي الأهمية لجهاز الموساد.
بدأ التخطيط الجاد لعملية الاغتيال في أواخر العام 2019 وبداية العام 2020، خلال لقاءات بين مسؤولي الموساد ومسؤولين في إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، من ضمنهم وزير الخارجية مايك بومبيو ومديرة وكالة الاستخبارات المركزية. وقد تعززت الثقة في جدوى تنفيذ العملية بعد اغتيال قاسم سليماني في مطلع العام 2020، من دون أن تواجه إيران بردود حاسمة، مما شجّع صناع القرار في إسرائيل على المضي قدماً، لا سيما في ظل احتمالية تغيّر الإدارة الأميركية. وقد اتُخذ قرار باستبعاد الأساليب التقليدية كالاغتيال بالدراجات النارية، لصالح حل تقني دقيق يضمن تقليل الأضرار الجانبية.
تميّزت عملية اغتيال فخري زاده باستخدام تكنولوجيا متقدمة تمثلت في مدفع رشاش يُدار عن بُعد بواسطة الأقمار الصناعية، وهو مدعوم ببرنامج ذكاء اصطناعي لضمان الدقة وتقليل زمن الاستجابة. وركّب الجهاز على شاحنة مُعدّة للانفجار الذاتي بعد العملية لتدمير الأدلة. لضمان تحديد الهوية، تم استخدام سيارة تمويه مزوّدة بكاميرات عند نقطة التفاف اضطراري على الطريق، تأكد عبرها المنفذون من وجود الهدف برفقة زوجته. في يوم التنفيذ، 27 تشرين الثاني 2020، وعند اقتراب الموكب، أُطلقت سلسلة قصيرة من الرصاص أصابت فخري زاده ما أدى إلى مقتله في أقل من دقيقة.
على الرغم من دقة التنفيذ وقصر مدته – حيث أُطلقت 15 رصاصة فقط خلال أقل من دقيقة – فقد مثّلت العملية ذروة التنسيق بين التخطيط التقني والاستخبارات الميدانية. لم تُصب زوجة فخري زاده التي كانت بجانبه، ما يعكس فاعلية نظام التعرف على الوجوه المستخدم في تصويب السلاح.
مع ذلك، فشلت خطة تدمير الأدلة بالكامل؛ إذ أن الشاحنة المفخخة، بالرغم من انفجارها، لم تنجح في محو كل مكونات السلاح، ما مكّن المحققين الإيرانيين من تحليل أجزاء النظام المستخدم جزئياً. وبذلك مثّلت هذه العملية سابقة في استخدام الذكاء الاصطناعي في عمليات اغتيال دقيقة عبر الحدود.
ثالثاً: تفجير منشأة نطنز 2020[3]
في صباح يوم الخميس الموافق 2 تموز 2020، وقع انفجار في أحد مباني منشأة نطنز النووية الإيرانية، وهي إحدى المنشآت الرئيسة المخصصة لتخصيب اليورانيوم في إيران. الانفجار استهدف مبنى فوق سطح الأرض، حيث قالت إيران إنه كان في طور التشييد، فيما أشارت مصادر استخباراتية إلى أنه مصنع جديد لإنتاج وتجميع أجهزة الطرد المركزي من طرازات متطورة.
وقد أظهرت صور الأقمار الصناعية التي التُقطت بعد الحادث دماراً واسعاً في هيكل المبنى، بما في ذلك انهيار كامل للسقف وتناثر الحطام في محيطه. وقد أعلن المتحدث باسم منظمة الطاقة الذرية الإيرانية، بهروز كمالوندي، أن الحريق الذي اندلع في الموقع لم يؤثر على القسم تحت الأرضي من المنشأة، وأن أجهزة الطرد المركزي المستخدمة لم تلحق بها أضرار.
في المقابل، تشير مصادر استخباراتية، في تقرير نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، إلى أن الانفجار نتج عن عبوة ناسفة زُرعت مسبقاً في داخل المنشأة، ما أدى إلى تدمير المصنع الجديد لإنتاج أجهزة الطرد المركزي المتقدمة. وقد ربطت هذه العملية بسلسلة من العمليات التخريبية التي يُعتقد أن جهاز الموساد الإسرائيلي يقف خلفها، وذلك في إطار سياسة إسرائيل العامة الرامية إلى إبطاء تقدم البرنامج النووي الإيراني من دون إشعال حرب شاملة حينها.
[1] رونين بيرغمان، "عملاء الموساد في قلب طهران: هكذا تم تهريب الأرشيف النووي إلى إسرائيل"، صحيفة يديعوت أحرونوت، 1 أيار 2018. https://www.ynet.co.il/articles/0,7340,L-5247369,00.html
[2] يديعوت أحرونوت، "قناص مُبرمج، 600 طلقة في الدقيقة: هكذا اغتال الموساد 'أبا القنبلة' في إيران"، 18 أيلول 2021. https://www.ynet.co.il/news/article/hjh9duqqt
[3] هآرتس. "مسؤول استخباراتي في الشرق الأوسط: الضرر في منشأة نطنز ناتج عن تفجير عبوة ناسفة"،2 تموز 2020. https://linksshortcut.com/SFsRs
المصطلحات المستخدمة:
الموساد, يديعوت أحرونوت, هآرتس, رئيس الحكومة, بنيامين نتنياهو