كشفت حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 عن عمق العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، باعتبارها علاقة استراتيجية تجاوزت الأطر التقليدية، لتشمل مجالات الاستخبارات، والتسليح، والتمويل العسكري والاقتصادي. فقد ظهرت واشنطن خلال هذه الحرب كفاعل مباشر وشريك ميداني، عبر تأمين غطاء دولي للممارسات الإسرائيلية، وتسريع عمليات نقل الأسلحة، وتقديم حزم مالية ضخمة لإسرائيل؛ بل وحتى المشاركة في الاجتماعات العسكرية في وزارة الدفاع الإسرائيلية.
وقد بلغت القيمة الإجمالية للمساعدات الأميركية لإسرائيل، منذ اقامتها وحتى حرب الإبادة، أكثر من 158 مليار دولار، تضمنت دعماً اقتصادياً، ومساعدات عسكرية، وتمويلاً لمشاريع استراتيجية حيوية كمنظومات الدفاع الصاروخي. وفي مطلع حرب الإبادة المستمرة، صادق الكونغرس الأميركي في عهد بايدن على رزمة من المساعدات بقيمة 26 مليار دولار، تضمّنت 14 ملياراً للتسليح والأنظمة الأمنية، و9.2 مليار تحت بند "المساعدات الإنسانية".[1]
في هذا السياق، لا تبدو العلاقة بين الطرفين ذات اتجاه واحد. فإسرائيل، من جانبها، توفّر للولايات المتحدة بيئة اختبار عملي لتقنيات عسكرية متقدمة، كما ترفد المؤسسة الدفاعية الأميركية بخبرات ميدانية تراكمت من خلال التجربة في قتال الفلسطينيين والعرب.
تستعرض هذه المساهمة، ورقة بحثية صادرة عن "مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي" بتاريخ 27 نيسان 2025، بعنوان: "مساهمة التكنولوجيا العسكرية الإسرائيلية في الجيش الأميركي: استجابات لتحديات الأمن الإسرائيلي التي تم تبنيها في ساحات القتال الأميركية"، من إعداد جون سبنسر وليام كولينز[2]. والتي تُسلّط الضوء على آثار التجربة العسكرية الإسرائيلية في صياغة العقيدة القتالية والتسليحية والأداء الميداني للجيش الأميركي.
حرب أوكتوبر 1973 لحظة مفصلية
بدأت الدراسة باستعراض الخلفية التاريخية لهذه العلاقة، إذ أن "حرب الغفران" (حرب أكتوبر 1973)، دفعت وزارة الدفاع الأميركية إلى إجراء تقييم شامل لتلك الحرب، ودراسة المفاجأة الاستراتيجية والتحديات التي واجهها الجيش الإسرائيلي آنذاك. نتج عن التقييم إصدار 37 دراسة مستقلة، من بينها تقرير مفصّل في سبعة مجلدات عن أنظمة الأسلحة، حيث لا يزال مصنّفاً سريّاً حتى اليوم. وقد أفضت الدروس المستخلصة من أداء الجيش الإسرائيلي في الميدان إلى إحداث بعض التحولات في العقيدة القتالية الأميركية، فيما أسهمت بشكل مباشر في بلورة مبدأ "القتال الجوي- البري"، كما ساعدت في تصميم "الأنظمة الخمسة الكبرى": مروحيات الأباتشي، مدرعات برادلي، صواريخ باتريوت، دبابات أبرامز، ومروحيات بلاك هوك. وشكّلت هذه التطويرات، إلى جانب الابتكارات التشغيلية التي ركّزت على سرعة الحسم، والتفوق النيراني، والتنسيق المشترك بين صنوف القوات، علامة فارقة في إعادة تعريف مفاهيم الحرب الحديثة.
لا تزال هذه العلاقة تساهم في التأثير على الاستراتيجيات القتالية الأميركية وأنظمتها. فمن أنظمة الحماية النشطة للدبابات إلى حلول الذكاء الاصطناعي في ميادين القتال، قدّمت الشركات الدفاعية ومراكز الأبحاث الإسرائيلية عدداً من الابتكارات المتقدمة التي تبنّاها الجيش الأميركي في ميادين عمليات متعددة.
وجدت معظم هذه التقنيات استجابةً للبيئة الأمنية المعقدة التي تواجهها إسرائيل، والحاجة إلى أدوات فعالة في حروب المدن والعمليات غير المتكافئة. واعتمد الجيش الأميركي عدداً كبيراً من هذه الحلول، ودمجها خلال غزوه للعراق وأفغانستان.
ابتكارات إسرائيلية في الخدمة الأميركية
لم تقتصر مساهمات الابتكار العسكري الإسرائيلي عند التأثير في العقيدة القتالية الأميركية، بل امتدت لتطاول الموارد البشرية، والتجهيزات التقنية، والمفاهيم التكتيكية. فقد أصبحت الضمادة الميدانية الطارئة، التي طورها مسعف إسرائيلي في التسعينيات، جزءاً أساسياً من معدات القوات الأميركية، لما توفره من قدرة على وقف النزيف، خصوصاً في ساحات الحرب الحضرية في العراق وأفغانستان.
على مستوى المعدات الثقيلة، نقلت جرافات D9 المدرعة خبرتها من غزة إلى الفلوجة، حيث استخدمها الجيش الأميركي لتفكيك الحواجز وتدمير المواقع المحصنة، مستفيداً من التدريع الإسرائيلي وتعديلاتها لتناسب الحالات المعقدة، بما في ذلك تطوير نسخة غير مأهولة تُدار عن بُعد.
كذلك، في مجال حماية الدروع، فقد شكلت منظومة "معطف الريح" نقلة نوعية؛ إذ وفرت حماية نشطة ضد قذائف RPG والصواريخ الموجهة، مما دفع الجيش الأميركي لاعتمادها على دبابات أبرامز M1 منذ العام 2018، وتوسيع استخدامها لمواجهة التهديدات الجوية بدون طيار.
وفي مواجهة العبوات الناسفة، واجهت الولايات المتحدة معضلة حقيقية بهذا الشأن، إذ حصدت العبوات الناسفة في العراق أرواح العديد من الجنود الأميركيين، مما دفع واشنطن إلى استخدام التكنولوجيا الإسرائيلية، وخاصة أنظمة الميكروويف المخصصة لتعطيل المتفجرات، والتي شكلت أساساً لتطوير برامج أميركية لاحقة تعرف باسم Dragon Spike .
كما ساهمت الخبرة الإسرائيلية في تطوير وحدات الكلاب القتالية، لا سيما من خلال وحدة "عوكتس"، التي طورت أنظمة تحكم لاسلكي عن بُعد، استخدمتها القوات الأميركية لاحقاً في عملياتها الاستطلاعية ومكافحة الأفخاخ والأنفاق.
وفي مجال القتال تحت الأرض، أدى التعاون الأميركي الإسرائيلي إلى إنتاج تقنيات كشف وتعطيل متقدمة للأنفاق، بالاعتماد على رادارات أرضية وذكاء اصطناعي، انعكس أثرها لاحقاً في جهود الولايات المتحدة لتأمين حدودها الجنوبية مع المكسيك. منذ أكثر من عقد، تتعاون إسرائيل والولايات المتحدة في تطوير تقنيات مواجهة تهديدات الأنفاق، وهو تعاون تم دعمه بتشريع أميركي يخصص 80 مليون دولار سنوياً لصالح هذه البرامج، مع التزام الحكومة الإسرائيلية بتقديم تمويل موازٍ لكل دولار .
أما في الجو، فقد أصبحت بودات الملاحة (لايتنينغLITENING/ )، المطورة إسرائيلياً، أساساً في دقة الاستهداف الجوي الأميركي، خاصة مع ربطها بنظام APKWS لتوجيه صواريخ منخفضة التكلفة ضد الطائرات بدون طيار.
كذلك، أسهمت تعديلات إسرائيل على مقاتلة F-35، وخاصة في مجال الحرب الإلكترونية والأسلحة الذكية، في تعزيز القدرات الهجومية للطائرة وتوسيع خيارات استخدامها، حتى باتت النسخة الإسرائيلية "أدير" معياراً في تطوير النسخة العالمية.
وفي مواجهة التهديدات الجوية المُسيرة، تتجه الأنظار إلى منظومة (الشعاع الحديدي (Iron Beam/، أول نظام دفاعي يعمل بأشعة الليزر تم الكشف عنه العام 2014، وقد أبدت الولايات المتحدة اهتماماً بدمج هذه التكنولوجيا ضمن قدراتها الدفاعية لمواجهة هجمات الأسراب الجوية بكفاءة وتكلفة منخفضة.
الحرب المعتمدة على الذكاء الاصطناعي
تشهد الحروب الحديثة تحوّلاً جذرياً بفضل التطورات المتسارعة في الذكاء الاصطناعي، حيث باتت إسرائيل إحدى القوى الرائدة في هذا المجال – وفق ما تستعرض الدراسة-، وقد انعكس هذا التفوق التقني في تعاون وثيق مع الولايات المتحدة، التي تسعى بدورها إلى دمج هذه الابتكارات ضمن منظومتها الدفاعية. وفيما يلي أبرز البرامج والأنظمة التي تعكس هذا التعاون الاستراتيجي:
أولاً: الأسلحة الجوّالة "هاربي" و"هاروب"، طوّرتها الصناعات الجوية الإسرائيلية، وهما طائرتان مسيّرتان ذاتيتا التشغيل، تستخدمان الذكاء الاصطناعي لتحديد الأهداف المعادية (خاصة الرادارات والمركبات) وضربها من دون الحاجة إلى توجيه مباشر. تُعد هذه الأسلحة من أوائل أنظمة الصياد القاتل/ loitering munitions التي تبنّت الذكاء الاصطناعي، وقد ألهمت تطوير نماذج مشابهة لدى الجيش الأميركي.
ثانياً: نظام إدارة المعارك "فاير ويفر" (Fire Weaver) حيث طوّرته شركة "رفائيل" الإسرائيلية، ويعتمد على الدمج بين البيانات الآتية من الحساسات والخرائط التكتيكية والجنود على الأرض باستخدام الذكاء الاصطناعي، ليوجه النيران بدقة وسرعة كبيرة. اختبر الجيش الأميركي بدوره أنظمة (من المستشعر إلى الرامي (Sensor-to-Shooter/ مستوحاة من النموذج ذاته، لرفع كفاءة اتخاذ القرار في الزمن الحقيقي.
ثالثاً: منظومةDrone Dome للدفاع ضد الطائرات بدون طيار، وهي نظام دفاعي إسرائيلي طورته شركة "رفائيل"، يستخدم الذكاء الاصطناعي لاكتشاف وتتبع واعتراض الطائرات المسيّرة المعادية. يُعد النظام من أكثر المنظومات تكاملاً لمواجهة تهديدات الطائرات الصغيرة، وقد اعتمد الجيش الأميركي حلولاً مماثلة لحماية قواعده ووحداته من هجمات المسيرات المتزايدة.
رابعاً: مشروع كرمل (CARMEL) ، وهو برنامج إسرائيلي لتطوير الجيل القادم من المركبات القتالية المدرعة، بحيث تكون مدعومة بالكامل بأنظمة ذكاء اصطناعي، تمكنها من التنقل، واتخاذ قرارات ميدانية شبه ذاتية، والقتال ضمن وحدات مترابطة. هذا النموذج ألهم الجيش الأميركي في تصميم برامجه المستقبلية للمركبات ذاتية القيادة، بما في ذلك مشاريع المركبات القتالية الاختبارية التي يطوّرها البنتاغون.
خامساً: مجال الحماية السيبرانية واستخبارات الإشارات (SIGINT) المدعومة بالذكاء الاصطناعي، تقود شركات إسرائيلية أسسها أو يعمل فيها خريجو وحدة الاستخبارات الإسرائيلية 8200، الابتكار في تطوير أدوات ذكاء اصطناعي متقدمة للتنصت وتحليل البيانات السيبرانية. تتعاون الولايات المتحدة مع هذه الشركات لتعزيز قدرات وكالاتها الأمنية في مجال التهديدات السيبرانية والتحليل التنبؤي باستخدام تقنيات تعلم الآلة Machine Learning والتعرف السلوكي.
إن دمج هذه التقنيات في المنظومة العسكرية الأميركية – بالتعاون مع الخبرة والابتكار الإسرائيلي – يُمهّد لمعادلات قتالية جديدة تُبنى على التفوق المعلوماتي والاستجابة شبه الفورية.
ختاماً، تخلص الدراسة إلى أن التعاون بين الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل لا يقتصر على الدعم المالي والعسكري، أو على نقل التكنولوجيا، بل يتعمق في مشاريع تطوير مشترك تؤسس لتفوّق عسكري مستدام. ومع تعاظم التهديدات وتحوّل طبيعة الحروب، تظل هذه الشراكة مهمة في طليعة الابتكار العسكري، ضامنةً ريادة مزدوجة في استشراف المخاطر وفي إعادة صياغة مفاهيم القوة في الحروب.
[1] للاستزادة أنظر/ي: عبد القادر بدوي. "النقاش حول الدعم العسكري الأميركي لإسرائيل: بين حسابات نتنياهو وبايدن"، تقدير موقف، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار)، 16 تموز 2024، https://2h.ae/GJRQ
[2] جون سبنسر وليام كولينز. "مساهمة التكنولوجيا العسكرية الإسرائيلية في الجيش الأميركي"، مباط عال، العدد 1975، 27 نيسان 2025، https://www.inss.org.il/he/publication/usa-army-idf/