المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
الهدم المنهجي لمقومات الحياة في غزة: مشهد من خان يونس. (أ.ف.ب)

الرد الإسرائيلي الرسمي، حتى الآن، على قرار المحكمة العدل الدولية في لاهاي من يوم 26 كانون الثاني الحالي بشأن الدعوى التي عرضتها أمامها جمهورية جنوب أفريقيا يوم 29 كانون الأول 2023، هو "التعبير عن الارتياح" من هذا القرار، بل الاحتفاء به وكأنه يشكل انتصاراً بشكل ما، من جهة، ولكن ممزوجاً بقلق خفيّ جدّي من عواقب وتداعيات لن يكون بالإمكان منعها أو تجنب تأثيراتها، من جهة أخرى؛ وهو ما عكسه هجوم رئيس الحكومة وعدد من وزرائها ضد المحكمة الدولية حدّ اتهامها بمعاداة الساميّة ثم إصدار مكتب رئاسة الحكومة الإسرائيلية تعليمات إلى جميع الوزراء والمسؤولين الحكوميين الآخرين بالامتناع عن إصدار أية بيانات أو إطلاق أية تصريحات علنية في التعقيب على قرار المحكمة.

فقد عبّر رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، عن نوع من "الارتياح" بقوله إن "المحكمة الدولية رفضت، وبحق، المطلب المثير للغضب بسلب إسرائيل حقها في الدفاع الأساس عن نفسها، مثلما هو حق أية دولة أخرى". وإلى ذلك، أضاف أن الحرب في قطاع غزة "ستستمرّ حتى القضاء على حماس وتحقيق النصر بإعادة جميع المختطفين وضمان ألا تشكل غزة بعد اليوم تهديداً على إسرائيل، إلى الأبد". لكنه تابع، من جهة أخرى، بأن "مجرد الادعاء بأن إسرائيل تنفذ إبادة جماعية بحق الفلسطينيين هو ليس ادعاء كاذباً فحسب، بل إنه ادعاء مثير للغضب ومجرد استعداد المحكمة للنظر فيه، أصلاً، هو وصمة عار لن تُمحى لأجيال قادمة".

لكن، بالرغم من تعليمات ديوان رئاسة الحكومة إلى الوزراء بعدم التعقيب على القرار، فلم يستطيع بعضهم التزام الصمت والتصرف بموجب التعليمات. فقد أصدرت وزارة الخارجية تعقيباً قالت فيه إن "إسرائيل تبقى ملتزمة بالعمل وفق القانون الدولي، دونما علاقة بأية إجراءات في المحكمة الدولية" وإن "حرب إسرائيل هي ضد حماس، وليس ضد المدنيين الفلسطينيين". وقال وزير الدفاع، يوآف غالانت، إن "من يبحث عن العدل، فلن يجده على كراسي الجِلد في لاهاي، وإنما في أنفاق حماس في غزة، حيث يُحتجَز مُختطَفونا الـ 136 ويختبئ أولئك الذين قتلوا أولادنا". وأضاف: "دولة إسرائيل ليست في حاجة إلى مواعظ في الأخلاق كي تعرف التمييز بين الإرهابيين والسكان المدنيين" وإن "محكمة العدل الدولية ذهبت بعيداً عندما قبلت طلب جنوب أفريقيا المعادي للسامية لمناقشة ادعاءات الإبادة الجماعية في غزة".

وقال وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، إن المحكمة الدولية "لا تبتغي العدل وإنما ملاحقة الشعب اليهودي"، متهماً إياها بأنها "لا ساميّة". وأضاف: "لقد صمتوا في أثناء المحرقة واليوم يواصلون النفاق متقدمين خطوة أخرى. يجب عدم الانصياع إلى قرارات تعرّض استمرار وجود دولة إسرائيل للخطر، وعلينا مواصلة ضرب العدو حتى النصر المحقق".

وجدد زميله في الائتلاف الحكومي ذاته، وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، دعوته التي كان أطلقها من قبل إلى تهجير سكان قطاع غزة ودعا "قضاة لاهاي المهتمين بوضع سكان غزة" إلى "دعوة دول العالم لفتح أبوابها والمساعدة في استقبال وإعادة تأهيل سكان غزة". ووصف سموتريتش المداولات في المحكمة الدولية بأنها "منافقة وكاذبة"!

وقال الوزير بيني غانتس إنه "حينما قامت دولة إسرائيل، تعهدنا بأن لا يتكرر (الهولوكوست) إلى الأبد والآن، نحن ننفذ تعهدنا ونؤدي واجبنا القومي والتاريخي، بموجب القانون الدولي والموروث اليهودي وقيَم الجيش الإسرائيلي. سنواصل احترام هذا الواجب التاريخي والالتزام بالمعايير الأخلاقية والقانونية، على حد سواء".

وانضم رئيس "المعارضة" ورئيس حزب "يوجد مستقبل"، يائير لبيد، إلى مهاجمي/ منتقدي المحكمة الدولية التي "كان يتوجب عليها" ـ في رأيه ـ "ردّ هذه الدعوى المجنونة"، لأنّ "حق دولة إسرائيل وواجبها يحتمان عليها الدفاع عن نفسها في وجه الشر المتوحش الذي قتل مواطنيها". وأضاف: "136 مختَطَفاً في أنفاق حماس لا يزالون شهوداً أُخرِس صوتهم في المحكمة في لاهاي" و"لسنا في حاجة إلى مواعظ أخلاقية أو تعليمات قانونية لكي نتصرف كدولة ديمقراطية تعمل وفق أحكام القانون الدولي".

مَطالِب الدعوى وقرارات المحكمة

في الدعوى التي قدمتها إلى المحكمة الدولية، طالبت جنوب أفريقيا هذه المحكمة بأن تأمر باتخاذ تسعة تدابير قانونية انصافا للشعب الفلسطيني في قطاع غزة، قبل البت النهائي في موضوع الدعوى الأساس ـ إدانة إسرائيل بتنفيذ الجريمة الأخطر في القانون الدولي، الإبادة الجماعية، وهو ما قد يستغرق بضع سنوات: اثنان من هذه التدابير يأمران إسرائيل بوقف إطلاق النار كلياً وإنهاء الحرب فوراً، ثلاثة تدابير أخرى تأمرها بمنع أية أعمال تندرج تحت تعريف جريمة الإبادة الجماعية ومركّباتها (أحد هذه الثلاثة كان قد أورد بالتفصيل وسائل عينية ينبغي على إسرائيل اتخاذها في هذا السياق، بما في ذلك إلغاء الأوامر التي أصدرتها إلى الفلسطينيين سكان شمال قطاع غزة بمغادرة المنطقة)، تدبير سادس يتعلق بمسألة منع التحريض على الإبادة الجماعية ومنع تنفيذ جنايات أخرى متصلة، تدبير سابع يتعلق بواجب إسرائيل في المحافظة على الدلائل والقرائن التي تثبت عدم تنفيذ انتهاكات لـ "اتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية" (المعروفة اختصاراً بـ CPPCG أو "اتفاقية الإبادة الجماعية – منع ومعاقبة جميع أشكال جرائم الإبادة الجماعية")، تدبير ثامن بشأن واجب إسرائيل في تقديم تقارير مرحلية إلى المحكمة الدولية حول الخطوات العملية والإجراءات الفعلية التي تتخذها لتنفيذ التدابير/ الأوامر الأخرى والتدبير التاسع هو أمر عام يلزم إسرائيل بالامتناع عن مفاقمة الوضع في قطاع غزة.

أما الأوامر التي أصدرتها المحكمة الدولية بحق إسرائيل فهي الخمسة التالية: 1. على إسرائيل أن تتخذ جميع الإجراءات والتدابير اللازمة لمنع تنفيذ جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة؛ 2. على إسرائيل أن تتخذ جميع الإجراءات والتدابير اللازمة للسماح بإدخال مساعدات الإغاثة الإنسانية إلى قطاع غزة؛ 3. على إسرائيل أن تتخذ جميع الإجراءات والتدابير اللازمة لمنع طمس وإخفاء أية أدلة تثبت حصول إبادة جماعية في قطاع غزة؛ 4. على إسرائيل أن تتخذ جميع الإجراءات والتدابير اللازمة للتحقيق مع ومعاقبة المحرّضين في داخل دولة إسرائيل على ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية؛ 5. على إسرائيل أن تقدم إلى محكمة العدل الدولية، في غضون شهر من يوم صدور قرار المحكمة، تقريراً عن الإجراءات الفعلية والخطوات العملية التي اتخذتها لضمان تنفيذ أوامر المحكمة الأربعة المذكورة.

باستثناء الأمرين الثاني (مساعدات الإغاثة الإنسانية) والرابع (التحقيق مع ومعاقبة المحرّضين على الإبادة الجماعية)، أقرت المحكمة الدولية الأوامر الثلاثة الأخرى بأغلبية 15 مؤيداً مقابل معارضة 2 (هما القاضي الإسرائيلي أهارون باراك والقاضية الأوغندية جوليا سبوتيندا). أما الأمران الثاني والرابع فقد أقرّتهما المحكمة بأغلبية 16 مؤيداً، بضمنهم القاضي الإسرائيلي باراك، ومعارضة قاضية واحدة فقط (هي الأوغندية، التي عارضت جميع القرارات). أما تأييد باراك للأمرين المذكورين، فقد فسّره بالقول إنه أيّدهما "لأنّ إسرائيل تقول إنها تنفّذهما أصلاً".

وفوق هذه الأوامر، أكدت المحكمة، على لسان رئيستها الأميركية جوان دونوغو، أنه "لا يمكنها قبول طلب إسرائيل ردّ دعوى جنوب أفريقيا ضدّها بحجة أن الأخيرة لم تنتظر ردود وإيضاحات إسرائيل قبل تقديمها الدعوى"، كما أكدت المحكمة أيضاً اختصاصها وصلاحيتها القانونية في النظر في جوهر هذه الدعوى.

بقي أن نشير، في هذا السياق، إلى أن المادة 59 من "ميثاق محكمة العدل الدولية" تنص، بوضوح، على أن قراراتها ملزمة للأطراف المتقاضية أمامها، لكنها ليست ملزمة لدول أخرى. وتقوم المحكمة أيضًا بإخطار المؤسسات ذات الصلة في الأمم المتحدة بالقرارات التي تتخذها. وإذا لم تمتثل إسرائيل للقرارات/ الأوامر التي صدرت بحقها، فبإمكان جنوب أفريقيا عرض القضية على مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ومطالبته باتخاذ الإجراءات اللازمة لتنفيذ قرارات المحكمة.

المأزق الإسرائيلي ـ جدّيّ وغير مسبوق!

صحيح أن محكمة العدل الدولية لم تستجب لطلب جنوب أفريقيا إصدار أمر يُلزم إسرائيل "بوقف عملياتها الحربية" في قطاع غزة فوراً، أي وقف إطلاق النار ووقف الحرب كلياً، وهو السيناريو الذي كانت إسرائيل تخشاه لأنه كان سيعيق "خططها الحربية" وكانت ستجد صعوبة بالغة جداً في مواصلة الحرب بالرغم من قرار المحكمة، الأمر الذي كان من المرجح أن يضعها على خط التصادم المحتمل مع بعض الدول الحليفة لها التي ستجد، من جانبها، صعوبة بالغة في مواصلة تقديم الدعم العسكري والسياسي لإسرائيل، برغم قرار المحكمة وما سينشأ عنه من ضغوط سياسية وجماهيرية دولية. 

هذا هو، بالتحديد، مبعث "أجواء الارتياح" التي شاعت في إسرائيل بُعَيد صدور قرارات المحكمة، والتي حاولت جاهدة التغطية على مباعث القلق التي لا يمكن لإسرائيل تجاهلها أو عدم التعامل معها. صحيح أن المحكمة الدولية لم تُصدر قراراً يأمر إسرائيل بوقف الحرب بصورة فورية، إلا أن الأوامر الأخرى التي أصدرتها تحمل تأثيرات مستقبلية من شأنها أن تضع إسرائيل في مأزق جدي وغير مسبوق على المستوى الدولي، سياسياً وجماهيرياً، وقضائياً أيضاً، كما تضعها أمام معضلة حقيقية تتمثل في أن تنفيذ بعض هذه الأوامر يستدعي، بالضرورة، إجراء تغييرات جوهرية في خطط الحرب، مسارها ومناحي تقدمها.

من جهة أخرى، فإن مجرد مثول إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بتهمة انتهاك "اتفاقية الإبادة الجماعية" ومجرد تأكيد قضاة المحكمة، في قرارهم، على أنّ "ثمة قرائن، تشير، ظاهرياً، إلى أن إسرائيل تنفذ جريمة إبادة شعب" ـ هما في حد ذاتهما ضربة قاسية جداً لصورة إسرائيل ومكانتها في العالم، ناهيك عن أن الأوامر التي صدرت عن المحكمة لا بد أن تضعها (إسرائيل) وممارساتها، بالضرورة، تحت المجهر الدولي، السياسي، الرسمي والجماهيري، والقضائي، وخصوصاً لدى تقديمها التقرير الذي أمرتها المحكمة بتقديمه في موعد أقصاه شهر من يوم صدور القرار.

فإن رأى الطرف المدّعي، جمهورية جنوب أفريقيا، أن التقرير ليس كافياً ومُرضياً، فسيكون بمقدوره التوجه إلى محكمة العدل الدولية مرة أخرى لمطالبتها بإصدار أوامر مؤقتة أخرى ضد إسرائيل. وهذا ما يُتوقع أن تلجأ إليه جنوب أفريقيا فعلياً، سعياً منها إلى تصحيح وتحسين بعض الأوامر المؤقتة التي صدرت، طبقاً للتطورات الميدانية على الأرض. وإذا تذكّرنا أن الدعوى التي قدمتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل كان ترمي أساساً إلى تحقيق هدفين مركزيين اثنين، هما: الأول ـ تجنيد المسار القضائي الدولي لدعم وتعزيز الجهود الدولية المساندة للشعب الفلسطيني في الضغط على إسرائيل وإرغامها على وقف حربها التدميرية الإبادية على قطاع غزة، قبل أن تتمكن من تحقيق أهدافها منها (إن كان بإمكانها ذلك أصلاً)؛ والثاني ـ تجنيد المسار القضائي الدولي لدعم وتعزيز الجهود الدولية الرامية إلى نزع الشرعية عن السياسات الإسرائيلية في المناطق الفلسطينية المحتلة، لا بل نزع الشرعية عن مجرد وجودها الاحتلالي فيها، وذلك من خلال اتهام إسرائيل بتنفيذ الجريمة الدولية الأخطر ـ الإبادة الجماعية؛ إذا تذكرنا ذلك، فعندئذ سوف يتضح تماماً أن جنوب أفريقيا استخدمت تهمة الإبادة الجماعية لتجرّ إسرائيل إلى المحكمة الدولية في أسرع وقت ممكن، مع علمها الأكيد بأن المحكمة لن تصدر أمراً بوقف فوري للحرب. ومعنى ذلك أن الحديث يجري هنا عن جولة أولى من معركة متواصلة، لها جوانب قضائية بالطبع وتجري على أكثر من جبهة واحدة، ولكن توجد لها جوانب وأهداف سياسية وعسكرية.

ذلك أنه في موازاة هذا الإجراء القضائي في محكمة العدل الدولية، ثمة إجراء قضائي آخر ضد إسرائيل سيبدأ في المحكمة ذاتها، الشهر الجاري، بناء على طلب الهيئة العامة للأم المتحدة من المحكمة إصدار رأي استشاري بشأن "الانعكاسات القانونية للممارسات الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس الشرقية". ويتضمن هذا الإجراء ادعاءات بأنّ استمرار السيطرة الإسرائيلية على المناطق الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس الشرقية بشكل خاص ليس قانونياً بموجب القانون الدولي.

وفي موازاة ذلك، أيضاً، يجري في محكمة الجنايات الدولية (ICC)، في لاهاي أيضاً، تحقيق في النزاع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، بعدما زار المدّعي العام في هذه المحكمة المنطقة هنا بضع مرات وأعلن تعهّده بتسريع التحقيقات التي من المحتمل أن تقود مسؤولين إسرائيليين، سياسيين وعسكريين، للمثول أمام هذه المحكمة. 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات