المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

بموازاة العملية العسكرية- "المناورة البرية"- في قطاع غزة، تنشغل العديد من مراكز التفكير ومعاهد الأبحاث (Think Tank) في إسرائيل بوضع سيناريوهات وبدائل لمستقبل قطاع غزة تقريباً تحت شعار "اليوم التالي لحماس" من ناحية ما هو أفضل لإسرائيل أمنياً- عسكرياً وسياسياً كذلك. وفي مساهمات سابقة (للزميل وليد حباس) تم استعراض أبرز هذه المراكز والسيناريوهات التي أعدّتها، لكن في الناحية المقابلة، لا يبدو أن مستقبل حكم السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية بعيد عما يعتمِل في أروقة هذه المراكز بالتزامن مع التطورات الميدانية وتسريع عجلة الاستيطان والتهجير الداخلي للفلسطينيين منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر المنصرم، وكل ذلك يحدث استجابة، أو ربّما، نتيجة لما بات يُعرف إسرائيلياً بـ "انهيار التصور" الذي حدّد على مدار أكثر من عقد (منذ تولي بنيامين نتنياهو رئاسة الحكومة في العام 2009) طبيعة وشكل ومكانيزمات "إدارة الصراع" التي تستند بشكلٍ رئيس إلى مبدأ "العصا والجزرة" كما أرست قواعدها قيادة الحكم العسكري الإسرائيلي منذ الاحتلال العام 1967. في هذه المساهمة، نستعرض أبرز ما أوردته التقارير والتقديرات الصادرة عن معاهد ومراكز البحث والتفكير حول مستقبل الضفة الغربية والسلطة الفلسطينية في "اليوم التالي للحرب".

بدايةً يُمكن القول إن السيناريوهات الإسرائيلية حول السلطة ومكانتها في "اليوم التالي للحرب" تتراوح بين حدّ التطرّف الأقصى القاضي بضرورة تجريمها وإخراجها من المشهد السياسي من ناحية، وحدّ "الاعتدال" الأقصى القاضي بضرورة العمل على تقويتها وتعزيز استقرارها أمنياً واقتصادياً فقط، مع تجريدها من أي دور سياسي مستقبلي خصوصاً في ما يتعلّق بتمثيل الفلسطينيين في الأراضي المحتلّة 1967، بحيث يُشكل هذا السيناريو- إلى جانب تصور مستقبل القطاع الخالي من حركة حماس- "ممراً آمناً" بالنسبة لإسرائيل للحيلولة دون قيام دولة فلسطينية مستقبلية ضمن ما يُعرف بـحل الدولتين.

إن انهيار التصور السياسي- الأمني للقضية الفلسطينية ضمن ما يُعرف بعقيدة "إدارة الصراع" التي حكمت سلوك المستويين السياسي والعسكري- الأمني في إسرائيل تجاه الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة بات يأخذ ترجمات واضحة في التصريحات والنقاشات الإسرائيلية، سواءً على المستوى الرسمي، أو حتى على مستوى معاهد البحث والتفكير المختلفة. بالنسبة لحكم حركة حماس في قطاع غزة فقد تناولته العديد من المساهمات السابقة، أما بالنسبة للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، فقد تراوحت المواقف بين ثنائية "العدو"- في حدّ التطرّف الأقصى- و"الشريك" في حدّ "الاعتدال" الأقصى على الجهة المقابلة، كما أشرنا أعلاه.

من ناحية، أشارت بعض الدراسات إلى أن انهيار "التصور" يفرض على إسرائيل تغيير النظرة إلى السلطة الفلسطينية، إذ لا يُمكن، ولا ينبغي أيضاً، "التعامل معها على أنها شريك مناسب ومُخلص لإسرائيل في أي عملية تسوية كانت"، فالسلطة الفلسطينية لا يُمكن وفقاً لهذا التصور أن تكون حلاً في المستقبل في قطاع غزة (عودة السلطة إلى القطاع بعد الحرب) وليس كذلك فحسب؛ بل من الضرورة إعادة النظر في وجودها من الأساس في الضفة الغربية. يسوّق هذا الافتراض الذي يتبنّاه "معهد القدس للاستراتيجية الصهيونية والأمن" بشكلٍ رئيس الحجج الإسرائيلية لذلك في أن العقود الثلاثة الماضية (منذ توقيع اتفاق أوسلو) مثّلت "تجربة سيئة" لأن "السلطة الفلسطينية فاشلة ومحرّضة ومعادية". لذلك، لا يجب أن يتم العمل على خلق واقع شبيه في غزة بعد الحرب، كما لا بدّ من التفكير في بدائل من شأنها تغيير الواقع القائم في الضفة أيضاً، وهذا لا يتم إلّا من خلال إقامة حكومة فلسطينية مدنية (حكومة تكنوقراط) كنموذج لآلية جديدة تتناسب أيضاً مع ما دعا إليه الرئيس الأميركي جو بايدن حول ضرورة العمل على إنشاء "سلطة فلسطينية متجدّدة" قد تُشكل نواة لفدرالية فلسطينية- أردنية مستقبلية بمساعدة ودعم الولايات المتحدة والدول العربية المعتدلة (بعد تعزيز وتوسيع اتفاقيات التطبيع بما يشمل المملكة العربية السعودية). هذه الحكومة تعمل بشكلٍ منفصل كلياً عن الإدارة المدنية في غزة (الحكومة المدنية في قطاع غزة التي سيتم إقامتها بعد انتهاء الحرب)، وهذا الأمر يتطلّب من بين جملة متطلبات عدة: 1- تقسيم الضفة الغربية إلى عدة مناطق تحكمها إدارات مدنية منفصلة (ضمن حكومة التكنوقراط)؛ 2- بموازاة ذلك، تحتفظ إسرائيل بالمسؤولية الأمنية الكاملة وحرية عمل عسكري مُطلقة للجيش في الضفة الغربية؛ 3- تفكيك الأجهزة الأمنية الفلسطينية مع الإبقاء على وحدات فرض النظام والقانون فقط. ويتم التشديد على ضرورة أن تكون تلك الأجهزة الأمنية دون أي قدرات عسكرية هجومية مهما كان حجمها، نظراً لأن تجربة الماضي أثبتت أن أي قدرات عسكرية في أيدي الفلسطينيين تتحول إلى قدرات هجومية، ناهيك عن أن بعض وحدات الأجهزة التابعة للسلطة- المدربة والمُسلّحة أميركياً- تمتلك في الوقت الحالي قدرات عسكرية تُمكّنها من مهاجمة المستوطنات في الضفة أو حتى تنفيذ هجمات داخل إسرائيل.

ولضمان نجاح هذه الآلية، فإن المعهد يقترح أن يتم العمل على تحقيق المهام التالية: 1- تغيير مناهج التعليم القائمة بشكلٍ كامل والتأكد من خلوها من أي تحريض ضد إسرائيل، إلى جانب إيجاد آلية لوقف دفع مخصّصات عائلات الشهداء، والأسرى في السجون الإسرائيلية؛ 2- وقف كل أشكال الفساد والمحسوبية في الحكومة المدنية المقترحة كما كان قائماً في آلية عمل السلطة؛ 3- العمل على تأسيس بنية تحتية من أجل ترتيب مستقبلي، لكن ذلك يتطلّب إخراج مركبي حق العودة وعدالة الكفاح المسلّح من المناخ العام الفلسطيني (ولأجل ذلك يجب العمل على إلغاء أي فعاليات للنكبة وحق العودة وإنهاء دور وكالة الأونروا، وكذلك إنهاء فكرة المخيمات في غزة أولاً- خلال عملية إعادة الإعمار ومن ثم الضفة الغربية)، هذا الأمر، يُمكن تعزيزه بحسب التقرير بفرضية أن الكفاح المسلّح وحقّ العودة لم يجلبا للشعب الفلسطيني الحرية وإنما الدمار.

من ناحية أخرى، وعلى النقيض من التصوّر المقدّم أعلاه (الذي يتوافق من حيث المبدأ مع تصريحات بنيامين نتنياهو الأخيرة حول السلطة الفلسطينية)، تُقدم بعض مراكز ومعاهد البحث والتفكير تصوراً مختلفاً لما هو مطروح أعلاه يستند بشكلٍ رئيس إلى ضرورة العمل على تعزيز وتقوية السلطة الفلسطينية بوصفها شريكاً لإسرائيل لا "عدواً" للقيام بتولّي المسؤولية في قطاع غزة بعد الحرب انطلاقاً من أن هذه المهمة لن تستطيع لا إسرائيل ولا قوى دولية القيام بها.

ينطلق التقرير الصادر عن "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب من افتراض مفاده أن هجوم طوفان الأقصى صبيحة السابع من أكتوبر، والحرب الإسرائيلية الهادفة للقضاء على حكم حماس في غزة وكذلك قدراتها العسكرية، يُشكل منعطفاً استراتيجياً في البيئة الإقليمية ككل، وفي الساحة الفلسطينية على وجه التحديد. لكن هذا المنعطف يحمل فرصة تاريخية بالنسبة للسلطة، وكذلك بالنسبة لإسرائيل التي تعمل على إعادة تشكيل الواقع ليكون خالياً من أي "تهديدات إرهابية" في محيطها. فالسلطة الفلسطينية وإزاء ما يجري في الفترة الأخيرة تتأرجح بين خيارات تأييد مقاومة حماس- الخصم السياسي لفتح والمنافس لها في قيادة الساحة الفلسطينية- وبين احتواء التصعيد المتصاعد بين الجيش الإسرائيلي ونشطاء المقاومة الفلسطينية في الضفة، وكذلك معضلة التصرّف كفاعل سياسي حاكم جدير بتسّلم الحكم في قطاع غزة من جديد لكن دون أن تظهر بمظهر "المتعاون" مع إسرائيل.

التقرير لا يتجاهل المعطيات القائمة في الضفة الغربية والتي تُشكّل الواقع السياسي فيها، إذ يُشير بالتفصيل إلى أن عدّة عوامل تُشكل عائقاً أمام السلطة وتعمل على زعزعة استقرار حكمها في الضفة الغربية، وهي على النحو التالي: 1- ضعف وترهّل السلطة؛ 2- الإضرابات التي يشهدها الشارع الفلسطيني ضدّها؛ 3- عمليات الجيش ضدّ خلايا المقاومة في الضفة الغربية؛ 4- عنف وتطرّف المستوطنين المتصاعد بحق الفلسطينيين؛ 5- الاقتطاعات المالية الإسرائيلية من أموال المقاصة؛ 6- منع إدخال العمال إلى إسرائيل. هذه العوامل التي تعمل على زعزعة استقرار السلطة وتُهدد حكمها كما يُشير التقرير إلى أن السلطة تحاول مواجهتها بالآليات الثلاثة التالية حتى الآن: 1- تقييد "التنظيم"- الجناح العسكري المسلّح لحركة فتح ومنع انخراطه في المواجهة مع إسرائيل؛ 2- وقف الاحتجاجات والمظاهرات الكبيرة في الضفة؛ 3- التنسيق الأمني مع إسرائيل.

استناداً إلى وجهة نظر التقرير، فإن هذه الخطوات التي تقوم بها السلطة لا تبدو ناجعة وقادرة على خلق حالة من الاستقرار للسلطة في ضوء العوامل المعيقة التي تمت الإشارة إليها. لذلك، فإن المطلوب أن تُبدي إسرائيل رغبتها بالحفاظ على استقرار السلطة والعمل على تعزيز دورها واستقرارها، وإسناد ذلك بجملة من الخطوات التي يطرحها التقرير كتوصيات لا بد لإسرائيل أن تأخذها بعين الاعتبار من أجل تقوية السلطة وتعزيز استقرارها في الضفة الغربية، ولاحقاً، لتولّي مسؤولية قطاع غزة بعد الحرب: 1- توسيع رقعة دخول العمال الفلسطينيين إلى القطاعات الحيوية في الاقتصاد الإسرائيلي سيكون له آثار اقتصادية إيجابية لإسرائيل؛ 2- العمل على الحد من جرائم وهجمات المستوطنين المتطرفين في الضفة الغربية؛ 3- وضع جدول زمني أو ترتيب لإدخال الأموال إلى السلطة الفلسطينية.

بالنظر إلى التصورات المطروحة أعلاه (التصوران في حدّيهما الأقصى)، يُمكن القول إن معاهد البحث والتفكير الإسرائيلية، ربّما ليست وحدها، لم تُغادر بالفعل "التصور" الأمني- السياسي الذي حكم سلوكها في التعامل مع المسألة الفلسطينية على مدار أكثر من عقد. ففي السيناريو الأول، تعيد إسرائيل إنتاج نفسها كدولة احتلال مرة أخرى تسعى لـ "حسم" القضية الفلسطينية من خلال العودة إلى ما قبل أوسلو التي باتت معضلة يجب على إسرائيل التخلّص منها. أما في السيناريو الثاني، فيبدو واضحاً أن انتقاد التجربة السياسية- الأمنية لبنيامين نتنياهو لم تدفع معدّي التقرير إلى الخروج من هذا التصور، بل يعمل- في أحسن حالاته- على تجميل "إدارة الصراع" من خلال طرح تصور "لا سياسي" أو "ما قبل سياسي" للملف الفلسطيني يُعمّق ارتباطه بإسرائيل بوصفها دولة استعمارية.

بين أوسلو والسابع من أكتوبر (تصريحات نتنياهو)

على الرغم من الاختلافات (الجوهرية في بعض الأحيان) بين الموقف السياسي الرسمي وما تنشره معاهد البحث والتفكير الإسرائيلية، إلّا أن خطاً عريضاً يُمكن ملامسته في كلا الموقفين. فما زال نتنياهو، وكذلك معاهد البحث والتفكير، يعتقدان بأن الطريقة الأنسب لإدارة الملف الفلسطيني هي "إدارة الصراع" وليس حلّه، مع صرف نظر كامل عن الدوافع والعوامل التي تقود إلى الحرب وفي مقدّمتها استمرار الاحتلال، لذلك، فإن كل التصورات الموضوعة (التي قمنا باستعراض مسارين منها فقط) لا تغادر "التصور" القاصر عن فهم القضية الفلسطينية باعتبارها قضية سياسية وحق شعب في تقرير المصير. وبالتقاطع مع ما ورد أعلاه، صرّح بنيامين نتنياهو بأن "أوسلو هي أم الخطايا" مُعيداً إليها كل "التهديدات والمخاطر الأمنية" التي تواجهها إسرائيل في الوقت الحالي بما في ذلك تهديد حركة حماس، وهذا الأمر لا يبدو بعيداً أيضاً عن محاولة إعادة نفسه إلى الصدارة بالهروب للأمام وتبنّي موقف جذري من اتفاق أوسلو والسلطة الفلسطينية التي جاءت بموجب هذا الاتفاق. إن العودة إلى أوسلو وإسناد كل "الشرّ" الذي تعرّضت له إسرائيل إلى الاتفاقية، رغم فقدان هذا الادّعاء لأي منطق لأسباب عديدة، يعزّز الشكّ بأن نتنياهو يبدأ بالفعل حملته الانتخابية القادمة وسط الحرب الدائرة، من خلال تنصيب نفسه الشخص الوحيد القادر على منع إقامة دولة فلسطينية كما تبجّح دوماً في السابق وكابح مساعي إعادة توحيد الضفة وغزة جغرافياً وسياسياً.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات