المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

"الهسبراه" هي الجهود التي تبذلها إسرائيل لنشر "معلومات إيجابية" عنها، وتسويق نفسها للعالم الخارجي، وإعادة إنتاج الروايات التي تدعم موقفها و"تبيّض" صورتها أمام العالم. وكنا في مركز "مدار" قد تناولنا جهود "الهسبراه" على مدار سنوات سابقة، لكن سياق الحرب الحالية يستدعي إعادة فتح هذا الملف. هذه المقالة تلقي الضوء على منظومة "الهسبراه" خلال الحرب على قطاع غزة. 

ما هي "الهسبراه"؟

عادة ما يتم استخدام لفظة "الدبلوماسية العامة" (public diplomacy) للإشارة إلى الأدوات المتنوعة التي تستخدمها الدولة في سعيها لبناء تصورات الدول والمجتمعات الأخرى عنها. وفي حين أن هذه الأداة تبدو مشروعة إلا أنها غالبا ما تستخدم بشكل فعال من قبل البلدان المعتدية أو تلك التي لها أجندات سياسيةمشكوك فيها. وبالتالي تعتبر الدبلوماسية العامة، لدى هذه الدول، وسيلة لتطهير صورتها وحشد الدعم الدولي. فقد تنخرط هذه الدول في الدبلوماسية العامة لإخفاء أعمالها العدوانية أو انتهاكات حقوق الإنسان التي تقوم بها، وهي تفعل ذلك عادة من خلال التستر بواجهة النوايا الحسنة ورواية "الحقوق المسلوبة" أو "التهديد الوجودي". وعليه، يمكن أن تكون الدبلوماسية العامة بمثابة أداة لشرح المواقف أمام العالم، لكنها في أحيان عديدة ممكن أن تكون أداة تضليل وتلاعب. في إسرائيل، تسمى هذه منظومة الدبلوماسية العامة بالـ "هسبراه".[1]

كيف يرى ناقدون وظيفة "الهسبراه" الإسرائيلية؟

يقترح بعض الباحثين أن ننظر إلى "الهسبراه" الإسرائيلية على أنها مرتبطة بالحروب. منذ العام 1948، كانت دولة إسرائيل إما في وضعية حرب وإما في وضعية "ما بين حربين"، وهي كانت باستمرار تحتاج إلى توضيح تصرفاتها، وتبرير الحروب المتكررة، واستمرار الاحتلال العسكري.[2] ثمة خطابان متلازمان لـ"الهسبراه" الإسرائيلية: الأول يتعلق بنزع أخلاقيات الآخر من خلال الاستعانة بخطاب ومفردات لها وقع خاص على المجتمع الدولي، تحديدا العالم الغربي "الحر". مثلا، تقوم إسرائيل بوسم حركة مقاطعة إسرائيل على أنها معادية للسامية. أو أنها تصف حركة حماس بأنها ظلامية داعشية. من جانب آخر، تقوم الهاسبراه بـ "تبييض" صورة الأنا الإسرائيلية على اعتبار أن إسرائيل تنتمي إلى العالم الحر. هنا، تركز "الهسبراه" على إبراز إسرائيل باعتبارها واحة التكنولوجيا، وحامية القيم الديمقراطية والنيوليبرالية، وواحة في احترام وتقدير حقوق الأقليات لا سيما المثليين، وهي دولة صاحبة جيش قوي وعصري لكنه أخلاقي وصاحب مبادئ. وهي دولة سيادة القانون وتفتخر بجهابذة الفقهاء المتربعين على رأس محكمتها العليا. 

هذان الخطابان (نبذ الآخر وتبييض الأنا) يشكلان أجندة عمل منظومة "الهسبراه"، التي تنطوي على العديد من المؤسسات الحكومية وغير الحكومية، الإسرائيلية منها والأجنبية المناصرة لإسرائيل. ويرى تشاس فريمان، سفير أميركي سابق لدى السعودية، أن وظيفة "الهسبراه" عادة "تحويل أفراد وجماعات إلى جهات غير مقبولة سياسيا على المسرح الدولي". و"الهسبراه" تتعامل مع نفسها على أنها سلاح يعمل على جبهة الوعي العالمي بهدف وضع خطوط واضحة أمام الرأي العالمي ليتمكن من الفصل بين من يمثل القيم الحرة وبالتالي يجب التعاطف معه ومن ينتهك الإنسانية وبالتالي يجب نبذه.[3]  

ولا بد من اقتباس قدر أطول من شرح فريمان حول "الهسبراه" في حرب إسرائيل على غزة العام 2014، لما يعكسه الأمر من دلالات. فهو يقول إن إسرائيل تمتلك تشكيلة واسعة من الوسائل التي تساعدها على إنشاء سردية والحفاظ عليها. إسرائيل توظف هيئات ومنظمات ووحدات عسكرية واستخباراتية للسيطرة على وسائل التواصل الاجتماعي، وتقيد المحتوى وتعزز محتويات أخرى. كما أنها تستند إلى خطاب ديني له مكانة وآذان صاغية في العالم الغربي. في حربها على غزة العام 2014، إسرائيل أعلنت الحرب على تويتر، وهيمنت على الشبكة العنكبوتية، وضخت ميزانيات هائلة لـ"الهسبراه". ويتابع فريمان ويقول بأن حجم الضحايا من قطاع غزة في حرب 2014 فاق 32 مرة حجم الضحايا الإسرائيليين، ومع ذلك أقنعت إسرائيل العالم بأنها تدافع عن نفسها.[4]

"الهسبراه" في إسرائيل عشية 7 أكتوبر؟

خلال العقد الأخير، ركزت الحكومات الإسرائيلية كل مواردها، وجهودها، وطواقمها في منصة حكومية واحدة ومركزية. حصل ذلك عدة مرات، وفي كل مرة كانت المنظومة تسجل فشلا محققا مقارنة بما تم استثماره فيها. آخر منظومة كانت تدعى "مؤسسة كونسرت" (concert)، وعملت تحت جناح وزارة الشؤون الاستراتيجية. ومهما يكن من أمر، فإن الحكومة الإسرائيلية الحالية، وفور تشكيلها، أعادت إحياء وزارة الإعلام/"الهسبراه" الإسرائيلية، وهي وزارة ظهرت لأول مرة العام 1974، لكنها كانت أيضا قصة فشل بحيث أنها عملت فقط 5 سنوات متفرقة ما بين 1974 و2023. 

المرة الأخيرة التي تم فيها تفعيل وزارة الاعلام/"الهسبراه" فيها كانت في كانون الثاني 2023، وكانت على ما يبدو نتاجاً لتوزيع الحقائب الوزارية بشكل يرضي كافة أعضاء الائتلاف، بحيث أعيد إحياء الوزارة. هذا يعني، أنه لم تكن هناك خطة عمل واضحة للوزارة، ولا مهمات ملموسة، وكانت عبارة عن "دكان" أخرى لديها ميزانية ضئيلة (24 مليون شيكل للعامين 2023-2024)، بالإضافة إلى 29 منصب مدير عام (وهي درجة توظيف مرموقة في السلك الحكومي تضمن دخلا شهريا جيدا). بعد اندلاع الحرب، وبالتحديد في 12 تشرين الأول، استقالت وزيرة "الهسبراه" الإسرائيلية غاليت ديستل أتبريان، وبعد أسبوعين قررت الحكومة تفكيك الوزارة بشكل نهائي، ونقل ميزانيتها (بالإضافة إلى مدرائها العامين) إلى هيئة جديدة لا علاقة لها بـ"الهسبراه"، وهي "هيئة البعث والإحياء" والمسؤولة عن إعادة بناء مستوطنات الغلاف التي تعرضت للهجوم. 

لماذا استقالت وزيرة "الهسبراه" بعد بدء الحرب؟

 

ثمة ثلاثة أسباب لاستقالة وزيرة الإعلام التي عملت على مدار 10 شهور فقط (12 كانون الثاني 2023- 12 تشرين الأول 2023). السبب الأول، هو الانتقادات الحادة التي تلقتها وزارتها خلال الأيام الخمسة الأولى للحرب بسبب عدم تفعيل دور وزارة الإعلام/"الهسبراه" في أعقاب هجمات 7 أكتوبر. فبحسب المراسل إيتمار آيخنر، فإن وزارة الإعلام قدمت "صفر" مقابلات وإحاطات إعلامية مع الإعلام الأجنبي خلال الأيام الخمسة الأولى للحرب.[5]

السبب الثاني، هو أن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو أقام منتدى آخر موسعاً لـ"الهسبراه"، وألحقه بما يسمى "هيئة الهسبراه القومية"، وهي هيئة تابعة لمكتب رئيس الوزراء نفسه. ومع أن الوزيرة غاليت التي قدمت استقالتها هي عضو في حزب الليكود (بمعنى أنها وزارة ليكودية حسب تقسيم الوزارات بين كتل الائتلاف الحاكم)، فإن نتنياهو تعامل مع الوزيرة باستهتار، وأبقاها خارج المنظومة الجديدة التي أنشئت لغرض الحرب، وهو ما اعتبرته غاليت "إهانة" وقدمت إثر ذلك استقالتها على الفور. 

والسبب الثالث، هو أن جمعية حقوقية باسم "عموتات هتسلاحا"، قدمت تسعة طلبات إلى وزارة الإعلام تحت بند "حرية المعلومات" طلبت خلالها الكشف عن تفاصيل أنشطة الوزارة المنحلة (في الحقيقة، لا توجد لها أنشطة)، خصوصا خلال الأيام الأولى للحرب (قدمت "صفر" مقابلات وإحاطات إعلامية).  ومع أن الوزارة تم تفكيكها في مطلع تشرين الثاني 2023، فإن المدراء العامين الذين عملوا فيها لا يزالون مطالبين بالمثول أمام القضاء في ما يبدو أنه تهمة فساد وسوء استخدام لأموال الجمهور. 

كيف تدير إسرائيل "الهسبراه" بعد اندلاع الحرب؟

فور استقالة غاليت من وزارة الإعلام/"الهسبراه"، قام نتنياهو بحل الوزارة، وتركيز كل جهود "الهسبراه" المتعلقة بالحرب داخل ما يسمى "هيئة الهسبراه القومية" التابعة لمكتبه. وهي هيئة تأسست العام 2007، وبسبب وجودها داخل مكتب رئيس الحكومة، فإن لها قدرة خاصة على التشبيك بين الأذرع السياسية والعسكرية والاستخباراتية للدولة ودمج كل الموارد المتاحة في خطة عمل أكثر احترافية. وبعد استقالة غاليت شكل نتنياهو طاقم عمل خاصاً بـ"هسبراه الحرب" ووضعه تحت إمرة هذه الهيئة التي تجلس في الغرفة المجاورة لمكتبه. 

وتقوم هذه الهيئة بترتيب المؤتمرات الصحافية لرئيس الحكومة، وهي مسؤولة عن ترتيبات الاتصال للاجتماعات الحكومية والمناسبات العامة بمشاركة رئيس الوزراء. وهي تشمل بداخلها مستشار رئيس الوزراء لشؤون الإعلام الأجنبي، مستشاري رئيس الوزراء للاتصالات الإعلامية الجديدة، منسقي الاتصالات، وقسم تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. وهي تشمل أربع دوائر: الأولى مختصة بـ"الهسبراه" الأمنية- العسكرية، والثانية بـ"الهسبراه" المدنية، والثالثة بـ"الهسبراه" الموجهة للعرب، والرابعة بـ"الهسبراه" المتعلقة بالتكنولوجيا الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي.[6]

ومع ذلك انتقدت الصحافة الإسرائيلية السبات العميق الذي حل على عمل هذه الهيئة منذ سنين. فهذه الهيئة التي قامت العام 2007 كنتاج الدروس والعبر التي تعلمتها إسرائيل من حربها على لبنان العام 2006 وضرورة غزو الوعي العالمي من جديد، كانت في سبات عميق عشية 7 أكتوبر. وبحسب صحيفة "غلوبس" فإن هذه الهيئة، باعتبارها "الهسبراه" الحكومية، لا تعمل لزيادة تعاطف العالم وحسب، وإنما أيضا لكي تقنع العالم بأن إسرائيل من حقها أن تعمل ويجب منحها الشرعية.  لكن في الأيام الأولى التي أعقبت هجمات 7 أكتوبر، كان واضحا بأن الهيئة لم تكن مستعدة للقيام بحرب من أجل كسب قلوب وعقول العالم والرأي العام. ومن هنا، وكجزء أساس مع إعلان الحرب على قطاع غزة، قام نتنياهو بتشكيل طاقم جديد، واسع، وذي صلاحيات يعيد الاعتبار إلى "الهسبراه" الإسرائيلية من جديد. 

اليوم، وبعد مرور أكثر من 50 يوما على بدء الحرب، تشير التقديرات إلى حصول "قفزة نوعية" نحو إعادة ضخ دماء جديدة في منظومة "الهسبراه" الإسرائيلية. فالمؤشرات الحالية المتعلقة بوضعية إسرائيل في الوعي العالمي بعد مشاهدة الدمار الهائل في القطاع، بالإضافة إلى الدروس والعبر التي طورتها إسرائيل خلال هذه الأيام، تدل على أن إسرائيل تسعى إلى إعادة دمج مفهوم "الهسبراه" ليغدو جزءاً من الزمن القومي، ليس فقط في وقت الحرب، وإنما كمشروع ضروري أيضا بعد انتهاء الحرب والدخول مجدّداً في فترة "ما بين الحربين".

 

[1] Gal Hadari and Asaf Turgman, “Public diplomacy in army boots: the chronic failure of Israel’s Hasbara”. See: https://www.tandfonline.com/doi/pdf/10.1080/13537121.2018.1455374?casa_token=kfFuqG1bvs8AAAAA:-IO3uy_7QB-LX4dJmdZ3MP1hSc5wHPPuXXywVXHLg256F024KXqxAsA3M8ffj3cEF_Rb7NveUqRA

[2] Miriyam Aouragh, “Hasbara 2.0: Israel’s Public Diplomacy in the Digital Age”. See: https://www.tandfonline.com/doi/pdf/10.1080/19436149.2016.1179432?casa_token=l9xpAwMtaekAAAAA:opQU4GkA02kfiv_yL2TZqj3yw8nwEWgVLrMu4mofZvilOyXUbvcP5IcroN2qqnehyI5LjrxaqXo

[3] Chas Freeman, “Hasbara and the Control of Narrative as an Element of Strategy”. See: https://mepc.org/speeches/hasbara-and-control-narrative-element-strategy

[4] Ibid.

[5] أنظر/ي مثلا: https://www.ynet.co.il/news/article/rklkkzm11p

[6] انظر/ي مثلا: https://www.gov.il/he/departments/Units/information050821

المصطلحات المستخدمة:

رئيس الحكومة, بنيامين نتنياهو, الليكود

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات