المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

مع دخول الاستراحة الموقتة التي تتضمن هدنة إنسانية تشمل وقفاً لإطلاق النار وتبادلاً لأسرى وأسيرات بين إسرائيل وحماس حيّز التنفيذ، خرجت العديد من الأصوات في إسرائيل الرافضة لذلك على اعتبار أنها تُلحق الضرر بالعملية العسكرية البرية- "المناورة البرية" في قطاع غزة والتي بدأت مع نهاية تشرين الأول الماضي بعد قرابة 20 يوماً من القصف الجوي الإسرائيلي على القطاع عملاً بمبدأ "الأرض المحروقة" أو ما يُعرف إسرائيلياً بـ "عقيدة الضاحية".

في مساهمة سابقة حول معنى "المناورة البرية"،[1] أشرنا إلى أن هذه العملية تتضمن أربع مراحل على الأرجح كما نقلتها المصادر الإسرائيلية: 1- المرحلة الأولى: تركّز على منطقة شمال غزة بما في ذلك مدينة غزة من اتجاهات مختلفة؛ 2- تطويق دير البلح في وسط وشمال القطاع، ونشر القوات من الشمال (غرباً على الساحل، وشرقاً في المناطق المفتوحة الحدودية مع إسرائيل)؛ 3- تركّز العمل في منطقة وسط- جنوب (خانيونس)؛4- أما المرحلة الرابعة والأخيرة فستركّز على مدينة رفح جنوباً بالقرب من الحدود المصرية. وعلى افتراض أن هذا الأمر أقرب للدقة استناداً إلى طبيعة وشكل القتال الدائر في قطاع غزة قُبيل دخول الهدنة حيز التنفيذ، فيُمكن الإشارة، إلى أن "المناورة البرية" ما زالت في المرحلة الأولى، وأنه فور الانتهاء من عملية التبادل التي تتضمنها ستستأنف إسرائيل العمل العسكري تبعاً للمراحل المُشار إليها، وهو ما يُشكّك فيه العديد من المراسلين والمحللين العسكريين والأمنيين في إسرائيل.

في هذه المساهمة، نستعرض أبرز الآراء الإسرائيلية التي ترى أنه سيكون من الصعب على إسرائيل استئناف "المناورة البرية" بعد الهدنة لما يترتّب عليها من معيقات عسكرية وسياسية كذلك.

معضلات ما بعد الهدنة

مع اندلاع "المناورة البرية" في قطاع غزة، أشار العديد من المحللين المختصين في مجال الأمن والاستخبارات، بالإضافة إلى المحللين العسكريين، إلى تعاظم الضغط على إسرائيل، من قِبَل الولايات المتحدة تحديداً، للقبول بـ"هدنة إنسانية" تتضمن وقفاً لإطلاق النار لإتاحة المجال لعقد صفقة تبادل، وذلك مع التزايد الملحوظ لعدد الشهداء والمصابين الفلسطينيين والدمار الكبير في قطاع غزة الذي تسبّب به القصف الجوي الإسرائيلي المستمرّ الأمر الذي يُحرج حلفاء إسرائيل وفي مقدمتهم الولايات المتحدة. ولوحظ في هذه التحليلات، أن هناك شبه إجماع على أن أي هدنة في حال حدثت من شأنها أن تزيد من تعقيد العملية- "المناورة البرية"؛ حيث لا يُمكن للجيش الإسرائيلي أن يستأنف عملياته في قطاع غزة كما كانت عليه في اليوم السابق لحدوثها، ناهيك عن اعتبارات أخرى سياسية واجتماعية وغيرها.

"ليس من المؤكد أنه من الممكن للجيش الإسرائيلي استئناف المناورة البرية في أعقاب الاستراحة"- هكذا علّق ناحوم بارنياع على المحادثات الهادفة للتوصّل لهدنة إنسانية في قطاع غزة تتخللها صفقة تبادل للأسرى، بعد أسبوعين على بدء المناورة البرية، مضيفاً أن التجارب الحربية السابقة للجيش الإسرائيلي في قطاع غزة وفي لبنان كذلك، تضع إمكانية استئناف "المناورة البرية" بنفس الشكل موضع شك، خصوصاً وأن أي وقف للقتال كهذا قد تترتّب عليه عودة للمدارس، أو عودة الإسرائيليين إلى أعمالهم أو حتى مسألة إعادة بناء المستوطنات تحت ضغط استمرار تهجير جزء كبير من مستوطني مستوطنات غلاف قطاع غزة، كما أن توقعات المجتمع الدولي واستجاباته قد تكون مختلفة أيضاً خلال فترات وقف إطلاق النار، لكنه في المقابل، يؤكّد على أن الجيش الإسرائيلي سيواصل العمل في قطاع غزة، لكن ربّما ليس بنفس نمط القوة الذي كان سائداً خلال الشهر الأول من الحرب.

وعلى الرغم من أن إعلان بنيامين نتنياهو عن الاستراحة التي بدأت صباح يوم الجمعة الموافق 24.11.2023 تضمّن تعهداً واضحاً بالاستمرار بالحرب، وهذا ما تضمّنه أيضاً القرار الحكومي الذي تمت بموجبه المصادقة على الهدنة وعقد صفقة تبادل، أشار العديد من المحللين والمراسلين العسكريين إلى المعضلة التي سيواجهها الجيش الإسرائيلي بعد التوصل للهدنة التي تحمل مضامين "ناعمة" و"خفيفة"، لكنها في الحقيقة تعني- كما في قاموس الجيش- وقفاً لإطلاق النار وليس أي معنى آخر، وهو ما يعني أنه من غير المعروف ما إذا كان بالفعل سيتم استئناف "العملية البرية" ومتى، رغم تعهّدات المستوى السياسي، وقد استند أمير بوحبوط إلى أن إسرائيل ستتعرض لضغط كبير من الدول الأوروبية والعربية لمنعها من استئناف "المناورة  البرية" فور دخول الهدنة حيز التنفيذ، وهذا ما تسعى حركة حماس للوصول إليه عبر تعمّد عدم إطلاق سراح كافة الأسرى والأسيرات الإسرائيليين، وهو ما يضمن لها الحصول على فترات من الراحة خلال القتال، وما يُتيح أيضاً المجال لهذه الدول لممارسة هذا الضغط لمنع استئناف "المناورة البرية" من جديد.[2]

وقد أشارت بعض المصادر الأمنية، كما نقل بوحبوط، إلى أن الضغط الدولي قد بدأ بالفعل على إسرائيل من أجل عدم توسيع رقعة "المناورة البرية" في الجزء الجنوبي من قطاع غزة، وقد جاء على لسان المصادر نفسها أن "تفكيك حماس أسهل بكثير من استعادة الإسرائيليين المأسورين، لذلك لا بد من العمل بكل الوسائل من أجل استعادتهم"، ولذلك هناك إجماع في وزارة الدفاع وهيئة أركان الجيش على مواصلة "العملية البرية" بمراحلها المختلفة وهذا الرأي مدعوم أيضاً من رئيسي "الشاباك" و"الموساد"، وهو ما عبّر عنه وزير الدفاع يوآف غالانت في اليوم السابق لوقف إطلاق النار بأن "المناورة البرية" ستستمرّ لشهرين إضافيين على الأقل، قبل الانتقال إلى مراحل أخرى من "المناورة البرية" التي تهدف إلى "إحباط" التهديدات العسكرية، وتضمن حرية عمل عسكرية لإسرائيل في أي وقت.[3]

من ناحية أخرى، أشار يوسي يهوشوع، وهو أبرز المراسلين العسكريين الإسرائيليين المعارضين للهدنة في قطاع غزة، إلى أن عدم استئناف "المناورة البرية" بشكلها السابق لوقف إطلاق النار من شأنه أن يمسّ بـ "النصر الإسرائيلي المنشود". وينقل عن ضباط كبار في الجيش قولهم إنه "لن يتم القبول بإعاقة المناورة البرية ومنع الجيش من الدخول إلى خانيونس في جنوب القطاع، لأن عدم الدخول يعني عدم وجود نصر على حماس"، وأنه "في حال لم يتم الدخول برياً إلى خانيونس فهذا يعني نهاية إسرائيل". وعلى الرغم من أن يهوشوع يُرجّح أن المستوى السياسي سيتخذ قراراً في نهاية المطاف باستكمال "المناورة البرية" والوصول إلى خانيونس، لكن قراره المدعوم بشكلٍ كامل من المستوى الأمني يضع كل "الإنجازات العسكرية" الإسرائيلية حتى الآن موضع شك، خصوصاً في ظل غياب قرار بإطباق الحصار على خانيونس بعد.[4]

وفي نفس السياق، يُشير عاموس جلعاد إلى أن حماس تسعى إلى إطالة أمد الاستراحة من أجل أن تكسب وقتاً إضافياً لإعادة تنظيم نفسها وتعطيل "التقدّم العسكري" الإسرائيلي وإحباطه ربّما، ولذلك قد تلجأ بالفعل إلى المماطلة في تنفيذ البنود، أو حتى تقديم عروض إضافية للإفراج عن أسرى لديها مقابل تمديد أيام الهدنة، وهو ما يجب على إسرائيل أن تتعامل معه بذكاء لأن الأولوية هي إعادة المأسورين الذين تم اختطافهم في هجوم طوفان الأقصى ولم تقم الدولة بواجبها تجاههم.[5] ويشير مئير بن شبات، في السياق نفسه، إلى أن الاستراحة التي تم التوصّل إليها تفرض ثمناً باهظاً على إسرائيل لا بدّ من دفعه (إعادة المختطفين)، لكنها من ناحية أخرى تعطي حركة حماس مساحة ووقتاً للعمل على تقييم الوضع، إعادة التنظيم، تحديد نقاط ضعف القوات الإسرائيلية، الدفاع، ونصب الكمائن لإلحاق الضرر بالقوات الإسرائيلية، ناهيك عن أن إدخال الوقود يُساعدها بشكلٍ كبير، لذلك ستبدأ حماس جولة جديدة من القتال في وضع أفضل بكثير مما كان عليه قبل الهدنة.[6]

الهدنة والمجتمع الدولي

من ناحيته، أشار رون بن يشاي إلى أن أيام الهدنة ستكون مرهقة لأعصاب إسرائيل بطريقة تخدم حركة حماس جيداً، حيث تعمل الأخيرة على ضرب المعنويات الإسرائيلية وتعميق الانقسام في إسرائيل، علاوةً على ذلك، يتمثّل الهدف الأهم بالنسبة لها في تمديد وإطالة أمد الهدنة قدر الإمكان إلى أن تصبح دائمة، من خلال استخدام المجتمع الدولي بما في ذلك الولايات المتحدة والتي ستمارس ضغطاً على إسرائيل من أجل وقف إطلاق النار والاكتفاء بحجم الدمار الذي تسبّبت به في قطاع غزة وعدد الشهداء والمصابين بالإضافة إلى الترتيبات الأمنية على الحدود التي تعمل على طمأنة سكان غلاف قاع غزة. ويؤكد بن يشاي أن هناك مصلحة لدى بعض الدول العربية في تحويل هذه الهدنة إلى وقف دائم لإطلاق النار من أجل تهدئة شوارعها التي تشهد دعماً كبيراً لحماس والمقاومة الفلسطينية، ولذلك تستخدم حماس ورقة المأسورين/ المختطفين للمناورة من أجل البقاء وتمديد أيام الهدنة لإعلان النصر، وهذا إن حصل فإنه يُشكّل ضربة كبيرة للردع الإسرائيلي إلى حدّ التهديد الوجودي.[7]

ويشير إفرايم هليفي، الرئيس السابق للموساد ومجلس الأمن القومي، إلى أن هذه الصفقة هي المرحلة الأولى، وفي حال استمرّت عملية تبادل الأسرى هذه حتى النهاية، فسيكون من الصعب جداً على إسرائيل استئناف العملية العسكرية التي تهدف للقضاء على حركة حماس. من ناحية أخرى، يرى أن إسرائيل ستواجه ضغطاً كبيراً من الولايات المتحدة من أجل وقف القتال أو تجميده دون القضاء على حركة حماس بشكلٍ كامل كما أراد نتنياهو، وإن الولايات المتحدة لا تنظر إليها باعتبارها صفقة تبادل أسرى من الطرفين فقط؛ وإنما أيضاً خطوة من شأنها تعزيز النية بإنهاء الحرب.[8]

إجمالاً؛ تشير غالبية التحليلات العسكرية- الأمنية الإسرائيلية إلى صعوبة استئناف "المناورة البرية"، وقد استعرضنا أعلاه جزءاً منها، وهي تعيد ذلك إلى عوامل عديدة، ناهيك عن التصريحات والآراء الصادرة عن جهات مختلفة (بعضها يرى بأن الموافقة على الهدنة والصفقة هو بمثابة ارضوخ لحركة حماس). ولا بدّ من القول إن لهذه الهدنة أبعاداً أخرى لا بد من الإشارة إليها: من ناحية يُمكن الادّعاء بأن قبول إسرائيل بـ "الهدنة الإنسانية" وتبادل الأسرى عبر مفاوضة حركة حماس يُشكّل اعترافاً ضمنياً منها بحركة حماس وسط محاولات مستمرّة منذ ما يقارب 50 يوماً من نزع الشرعية عن الحركة على كافة المستويات. من ناحية أخرى، فإن هذا الأمر هو قبول إسرائيلي ضمني بمبدأ التفاوض فقط من أجل استعادة إسرائيل للمأسورين/ المختطفين وليس من خلال العمل العسكري، الأمر الذي يُعد فشلاً لإسرائيل التي وضعت ذلك هدفاً لـ "المناورة البرية" ويتحقّق بالعمل العسكري لا بالتفاوض بعد هدف القضاء على حركة حماس والذي يبدو هو أيضاً بعيد المنال بالنسبة لكثير من الآراء والتحليلات الإسرائيلية، والتي ذهب بعضها للقول بأن التوقعات يجب أن تكون واقعية.

 

[1] عبد القادر بدوي، "في معنى "المناورة البرية" الإسرائيلية في غزة وفي فرصها ومعيقاتها!"، المشهد الإسرائيلي، مدار، 10.11.2023، https://short-link.me/vvav.

[2] أمير بوحبوط، "المعضلة أمام الجيش في ما يتعلق بوقف إطلاق النار وقلق كبار ضباط الجيش"، واللا، 22.11.2023، https://news.walla.co.il/item/3624092.

[3] أمير بوحبوط، "مصدر أمني يُحذّر: العالم يضغط على إسرائيل من أجل منع استئناف المناورة"، واللا، 24.11.2023، https://short-link.me/vves.  

[4] تغريدة للمراسل الأمني يوسي يهوشوع عبر حسابه الرسمي على منصّة X، 24.11.2023، https://short-link.me/vv9h.

[5] أريئيل فايتمان، "تقديرات عاموس جلعاد: هذا ما تحاول حماس تحقيقه في صفقة المختطفين"، غلوبس، 24.11.2023، https://short-link.me/vvbo.

[6] أريئيل فايتمان، "مسؤول كبير: هذا ما حققته حماس من صفقة المأسورين، وهكذا يجب على إسرائيل أن تتصرّف"، غلوبس، 22.11.2023، https://short-link.me/vvcc.

[7] رون بن يشاي، "هدف حماس: تحويل وقف إطلاق النار إلى وضع دائم والانتصار في الحرب"، Ynet، 24.11.2023، https://short-link.me/vvcQ.

[8] ألكسندرا لوكش ونير كوهين وموران أزولاي، "رئيس الموساد السابق: القضاء على حماس؟ الصفقة تعيق تجديد العملية العسكرية"، Ynet، 22.11.2023، https://short-link.me/vvdl.

المصطلحات المستخدمة:

بنيامين نتنياهو, الموساد

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات