المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

أصدرت المحكمة العليا الإسرائيلية، بتركيبة قضاتها الـ 15 جميعاً، الأسبوع الماضي (9 آب الجاري)، أمراً احترازياً تأمر فيه الكنيست والحكومة الإسرائيليتين بتقديم مبرراتهما لعدم إلغاء التعديل الذي أجراه الكنيست مؤخراً على "قانون أساس: القضاء" والذي قضى، أساساً، بنزع صلاحية المحكمة العليا للنظر في ـ وبالتالي، إلغاء ـ قرارات صدرت عن الحكومة، رئيس الحكومة أو أي من وزرائها. ويأتي هذا الأمر الاحترازي في أعقاب الالتماسات التي قُدّمت إلى هذه المحكمة ضد التعديل المذكور. وقد حرص القضاة على التوضيح أن قرارهم إصدار هذا الأمر الاحترازي "تفرضه اعتبارات نجاعة العمل/ النظر في الالتماسات وليس ثمة فيه ما يمكن أن يشي بموقف المحكمة بشأن الالتماسات أو بالنتيجة القضائية التي ستنتهي إليها المحكمة".

وكانت رئيسة المحكمة العليا، إستير حيوت، قد قررت الثاني عشر من أيلول المقبل موعداً لبدء النظر في هذه الالتماسات بهيئة كامل قضاة المحكمة العليا الـ 15، وهي تركيبة غير مسبوقة في تاريخ هذه المحكمة، مما يدل على الأهمية الكبيرة التي توليها المحكمة ورئيستها لهذا الموضوع. ومن المعروف أن حيوت ستخرج إلى التقاعد رسمياً في 16 تشرين الأول المقبل، علماً بأن فترة ثلاثة أشهر تُمنح لأي قاضٍ بعد خروجه إلى التقاعد من أجل إنجاز كتابة قرارات حكم قضائية لم يستطع إنجازها حتى موعد خروجه إلى التقاعد. معنى هذا، أن قرار المحكمة في الالتماسات بشأن "حجة المعقولية" سوف يصدر في موعد أقصاه كانون الثاني 2024.

ما هي "حجة المعقولية" هذه؟ وما هو التعديل القانوني الذي أقره الكنيست بشأنها؟ وما هي تداعيات ذلك، أبعاده وإسقاطاته؟ ـ هذه هي الأسئلة التي تقدّم هذه المقالة الإجابات عليها.

 

ما هي "حجة المعقولية" وما هو التعديل القانوني بشأنها؟

ما يصطلح على تسميتها بـ "حجة المعقولية" (أو: "حجة عدم المعقولية"؛ أو: "اختبار المعقولية") هي إحدى الحجج/ الاختبارات القضائية في مجال القضاء الإداري التي تتيح للمحاكم ممارسة الرقابة القضائية على أيٍّ من قرارات (ثم ممارسات) أي ذراع من الأذرع السلطوية الإدارية، شخصاً كانت أم مؤسسة؛ تفحص مدى معقولية هذه القرارات (والممارسات) ثم تأمر بإلغائها في الحالات التي ترى أن عيوباً إدارية قد وقعت في سيرورة اتخاذها، مثل انعدام الصلاحية (لاتخاذ تلك القرارات وتنفيذ تلك الممارسات العينية)، التعسفية، الاعتباطية، عدم الأخذ في الحسبان اعتبارات سليمة وذات صلة، الأخذ في الحسبان اعتبارات غريبة وغير ذات صلة، عدم الموازنة ـ أو الموازنة غير اللائقة وغير الكافية ـ بين الاعتبارات السليمة وذات الصلة، المسّ المحظور بالحقوق، التمييز، الإجراء غير السليم وغير ذلك من العيوب الإدارية، مما يضع تلك القرارات (والممارسات) خارج نطاق المعقولية.

كانت بدايات ابتكار وتطوير هذه الحجة في القضاء البريطاني ومنه انتقلت إلى منظومات قضائية أخرى تأثرت به، من بينها منظومة القضاء الإسرائيلية. وفي صيغتها الإسرائيلية، بدأت "حجة المعقولية" تترسخ وتتوسع ابتداء من ثمانينيات القرن الفائت من خلال المحكمة العليا الإسرائيلية وبواسطة سلسلة من قرارات الحكم القضائية التي صدرت عنها، في سياق ما يُعرف في إسرائيل بـ "الفاعلية القضائية". واستناداً إلى هذه الحجة، أصدرت المحكمة العليا ـ وكذلك محاكم أخرى من درجات أدنى ـ خلال عشرات السنوات الماضية، غير قليل من القرارات القضائية التي ألغت بموجبها العديد من القرارات والممارسات السلطوية في مستويات إدارية مختلفة وفي مجالات وقضايا متعددة.

بهذا المعنى، تشكل "حجة المعقولية" أحد الكوابح الحيوية المركزية، إن لم يكن أكثرها حيوية ومركزية على الإطلاق، في وجه التعديات السلطوية (الشخصية والمؤسساتية) على سلطة القانون، على مبدأ سيادة القانون والمساواة أمام القانون وعلى حقوق الإنسان والمواطنين عموماً.

في يوم 24 تموز الأخير، أقرّ الكنيست بالقراءتين الثانية والثالثة، بأغلبية 64 عضواً ودون أي معارضة عقب مغادرة جميع أعضاء الكنيست من أحزاب المعارضة قاعة الكنيست عند التصويت، التعديل رقم 4 على "قانون أساس: القضاء"، بالنص التالي: "بعد البند الصغير (د) يأتي: "(د1). على الرغم مما ورد في قانون الأساس هذا، فإن من يملك صلاحية القضاء بموجب القانون، بما في ذلك المحكمة العليا لدى التئامها كمحكمة العدل العليا، لا ينظر في موضوع معقولية قرار صدر عن الحكومة، رئيس الحكومة أو أي وزير آخر ولا يُصدر أمراً في الموضوع المذكور؛ في هذا البند: "قرار" ـ هو أي قرار، بما في ذلك في قضايا التعيينات أو الامتناع عن ممارسة صلاحية ما، أياً كانت".

هذا هو النص الذي أقرّه الكنيست بصورة نهائية لتعديل "قانون أساس: القضاء"، والذي يعني فعلياً: تقليص "حجة المعقولية" (وليس "إلغاءها"، كما يتردد خطأ في العديد من المواقع الإلكترونية والمنشورات المختلفة، ليس باللغة العربية فحسب، وإنما باللغة العبرية أيضاً). فقد أسقط الائتلاف الحكومي من مشروعه التعديليّ هذا، في اللحظة الأخيرة، الجملة الأخيرة التي ورد فيها "وكذلك (قرارات) أي منتَخَب جمهور آخر، كما يحدد القانون". وقد شكّل إسقاط هذه الجملة الفارق الجوهري بين "إلغاء" حجة المعقولية و"تقليصها". ذلك أن النص الذي اعتمده الكنيست أخيراً هو تقليص الحجة، بمنع استخدامها/ تطبيقها في ممارسة الرقابة القضائية على قرارات الحكومة، رئيس الحكومة وأي من وزرائها، وليس إلغاء الحجة نهائياً، بمنع استخدامها وتطبيقها في ممارسة الرقابة على قرارات آخرين من مُنتخَبي الجمهور، وخصوصاً رؤساء البلديات والمجالس المحلية. 

إسقاطات التعديل القانوني والتقليص

يثير التعديل الذي أقرّه الكنيست بشأن تقليص "حجة المعقولية" وحظر استخدامها عند النظر في قرارات الحكومة، رئيس الحكومة أو أي من الوزراء، عاصفة قوية جداً في إسرائيل على مختلف الأصعدة، الجماهيري ـ الشعبي، السياسي، القضائي، الأكاديمي، الاقتصادي وغيرها، ليس لكون تقليص "حجة المعقولية" (إلغاؤها، وفق المخطط الأولي) جزءاً من المكوّنات الأربعة الأساسية في "برنامج الإصلاح القضائي" الذي طرحته الحكومة الجديدة وائتلافها البرلماني، بينما يسميه المعارضون "برنامج الانقلاب القضائي" أو "برنامج الانقلاب على الحكم"، وإنما ـ بالأساس ـ نظراً لما يشرّعه هذا التعديل/ التقليص من بوابات واسعة نحو المزيد من التقليصات الحادة والخطيرة في آليات الرقابة القضائية، بل في المنظومة القضائية برمّتها، بما يعجّل في تكريس وتعميق الفساد السلطوي المنهجي والرسمي، بما في ذلك قرارات وممارسات التطهير السياسي والتصفية الشخصية، مقابل التعيينات السياسية والشخصية، في الأذرع السلطوية المختلفة، ناهيك عن توسيع وتعميق التقليصات في حقوق الإنسان والمواطن والتعديات الرسمية المنهجية على هذه الحقوق، وبشكل خاص بالتأكيد حقوق الأقليات على اختلاف أنواعها، لكن الأقلية القومية ـ العربية الفلسطينية ـ بشكل أساس ومباشر.

على مستوى الرقابة القضائية والأداء القضائي، أوضحت رئيسة المحكمة العليا، إستير حيوت، ما يمكن أن يكون لهذا التعديل من إسقاطات على القضاء الجنائي والمدنيّ بوجه خاص، وذلك في خطاب علني ألقته في شهر كانون الثاني هذا العام، عقب إعلان وزير العدل ياريف ليفين بنود برنامجه وبرنامج حكومته "الإصلاحي"، حين قالت: "إذا لم يكن ثمة مكان لقرار قيميّ يصدر عن قاضٍ في محكمة بشأن معقولية القرار السلطوي، فمن المرجح أن تكون المرحلة التالية، وفق هذا المنطق، الادعاء بأن قاضي المحكمة لا يتمتع بأية أفضلية مهنية تؤهله أن يقرر ما هو الشك المعقول لضرورة تبرئة، أو إدانة، متهم في قضية جنائية. وبحسب المنطق نفسه، يمكن الادعاء أيضاً بأن قاضي المحكمة لا يتمتع بأية أفضلية مهنية تؤهله لأن يقرر إن كان طبيب ما أو مهندس ما قد أهمل في أداء عمله حين تصرف بصورة غير معقولة فتسبب بضرر يستوجب التعويض". ثم أضافت: "ومن هنا، تصبح الطريق قصيرة جداً إلى شطب فصول كاملة من فروع القضاء الإسرائيلي ومجالاته المختلفة، والتي تحتاج كلها إلى معايير قيمية ينبغي على قاضي المحكمة النظر فيها، البناء عليها والحسم فيها".

غير أن لتقليص حجة المعقولية، كما أوضحناه أعلاه، وللمركّبات الأخرى في "برنامج الإصلاح القضائي" الذي تواصل الحكومة الحالية وائتلافها البرلماني العمل على استكمال إقراره وتنفيذه، انعكاسين مباشرين على مستوى العلاقة مع الشعب الفلسطيني في المناطق المحتلة ومستقبل هذه المناطق، عموماً.

 الأثر الأول يتمثل في ما يخطط له الائتلاف الحكومي الحالي، أو أجزاء واسعة منه على الأقل، جهاراً في العلن، بشأن ضم الضفة الغربية وبسط السيادة الإسرائيلية عليها بصورة رسمية، تكريس الفوقية اليهودية في جانبي ما يسمى "الخط الأخضر" والإمعان في دوس وتحطيم حقوق الفلسطينيين، الجماعية والفردية، وجعل الأبارتهايد نظاماً رسمياً معتمَداً ومكرَّساً في كامل المنطقة الممتدة بين النهر والبحر. ذلك أن تقليص "حجة المعقولية"، كما سلف شرحه، سيحول دون أي تدخل قضائي في أي قرار تتخذه الحكومة أو رئيسها أو أي من وزرائها في هذا الشأن وهذا المنحى.

أما الأثر الثاني فيتمثل في جانب معاكس تماماً، قد يكون إيجابياً تماماً في الجوهر والمحصلة. والمقصود هنا هو القلق والتخوف الكبيران اللذان يساوران في إسرائيل العديد من القيادات السياسية، الأمنية والعسكرية، السابقة والحالية، إضافة إلى أوساط قضائية واسعة، وهما المتعلقان بتقليص دوائر الحماية للجنود والقادة العسكريين والسياسيين الإسرائيليين، في السابق والراهن، في هيئات قضائية دولية، وفي مقدمتها المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي.

ذلك أن إسرائيل نجحت، حتى الآن وإلى حد كبير جداً، في تجنيب جنودها وقادتها السياسيين والعسكريين تقديمهم إلى محكمة الجنايات الدولية بشكل خاص أو في محاكم جنائية في دول أخرى مختلفة، بتهمة ارتكاب جرائم حرب، عبر ادعائها الرسمي بأنها تطبق مبدأ "التتامّ" (Complementarity)، الذي يشكل شرطاً مركزياً للإعفاء من المحاكَمة الدولية. ويقضي مبدأ "التتامّ" هذا بأن لدى الدولة المعنية ـ دولة القادة السياسيين أو العسكريين المشتبه بارتكابهم جرائم حرب ـ جهازاً قضائياً مستقلاً وقادراً على التحقيق في هذه الشبهات بصورة جدية وموضوعية. تصبح المحكمة الجنائية الدولية صاحبة صلاحية لإجراء محاكَمات جنائية بحق مشتبه بهم بارتكاب جرائم دولية (جرائم حرب، جرائم ضد الإنسانية، إبادة شعب وجريمة العدوان) إذا ما توفرت بضعة شروط، في مقدمتها موافقة على الإجراء الجنائي من جانب دولة معنية (عادة ما تكون الدولة التي نُفِّذت الجرائم في نطاقها وفوق أراضيها، فلسطين في حالتنا) أو مصادقة مجلس الأمن الدولي على الإجراء الجنائي. إلا أن المحكمة تفقد صلاحيتها هذه، وتمتنع بالتالي عن اتخاذ إجراءات جنائية، إذا كان الجهاز القضائي في الدولة ذات الشأن (إسرائيل، هنا) يقوم بالتحقيق في الأحداث موضع الشبهات بصورة جدية وموضوعية، بل وتجري ـ في الحالات التي تكتمل فيها شروط محددة ـ محاكمات جنائية للمتهمين الضالعين في ارتكاب الجرائم، شريطة أن يكون هذا الجهاز القضائي وأداؤه مستقلّين، موضوعيين، ناجعين وخاليين من اية تأثيرات غير سليمة. وهو ما ينسفه تقليص "حجة المعقولية" من أساسه.

المصطلحات المستخدمة:

الكنيست, رئيس الحكومة, الخط الأخضر

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات