المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

تمتد "البلدات العربية، بدون المدن المختلطة (الساحلية)، على ما نسبته 3 بالمئة فقط من مساحة إسرائيل بينما المجالس الإقليمية، التي يعيش في نطاقها عدد أقل بكثير جداً من السكان، تسيطر على 84 بالمئة من المساحة وفيها لجان قبول تشكل مصافي لغربلة السكان".

هذه المعلومة التي قد تكون صادمة لكثيرين يوردها عالِم الجغرافيا ومخطط المدن المحاضر في "جامعة بن غوريون" في بئر السبع في النقب، البروفسور أورن يفتحئيل، ليدلل من خلالها على مدى التمييز اللاحق بالبلدات العربية في داخل إسرائيل والذي يزداد تفاقماً باستمرار، ليس فقط في مجال تخصيص الأراضي للبناء والتطور الطبيعي (بعد عشرات السنين من مصادرة الأراضي العربية من أصحابها بذرائع مختلفة ووضعها "بأيدي الدولة وتحت تصرفها" من خلال تحويلها إلى "أراضي دولة") وإنما أيضاً في مجال مستجدّ هو ما أطلق عليه "لجان القبول في البلدات الجماهيرية"، بالصيغة التي سنّها الكنيست الإسرائيلي قانوناً ثم أعاد "إحكامها" مجدداً، مؤخراً، لإغلاق الباب نهائياً أمام أي عربي يريد شراء أرض أو امتلاك بيت يسكن فيه وعائلته في واحدة من هذه "البلدات الجماهيرية" التي أقيمت، كلها بدون استثناء، على ما يسمى في إسرائيل "أراضي دولة" بالتعريف الواسع الذي يشمل أيضاً "أراضي الصندوق القومي اليهودي" (كيرن كييمت ليسرائيل) و"أراضي الوكالة اليهودية" ـ وهي ذاتها الأراضي التي صادرتها الدولة من أيدي أصحابها العرب سابقاً!

ويزيد في توضيح هذه الفكرة البروفسور ساندي (ألكسندر) كيدار، الأستاذ في كلية الحقوق في جامعة حيفا ورئيس "جمعية العدالة التوزيعية" وشريك يفتحئيل في العديد من الدراسات الخاصة بقضايا الأرض، فيقول إنه "منذ قرار الحكم القضائي الذي أصدرته المحكمة العليا (الإسرائيلية) في قضية الزوجين العربيين إيمان وعادل قعدان هنالك تآكل دائم ومتفاقم باستمرار في فكرته المركزية ـ أنه لا يجوز للدولة التمييز في تخصيص الأراضي. في البداية أتوا بقانون لجان القبول، الذي لم يعبر حاجز المحكمة العليا إلا بصعوبة فائقة، ثم جاؤوا بعد سنوات بقانون القومية الذي شجع الاستيطان اليهودي والآن يريدون توسيع قانون لجان القبول بصورة جدية كبيرة جداً، بدون أن تكون لذلك أي معارضة أو مقاومة جماهيرية، مثل تلك التي كانت لدى سنّه للمرة الأولى في العام 2011، على الأقل". 

ويضيف كيدار: "معنى ذلك أن الفصل آخذ في التحوّل إلى قاعدة، مقبولة ومعتمدة. والهدف منه هو منع العرب من الدخول إلى مثل هذه البلدات (التي تسمى "بلدات جماهيرية")، لكنّ كثيرين جداً من العرب لا يتقدمون بطلبات للانتقال للسكن في هذه البلدات، أصلاً، لأنهم يعرفون مسبقاً أن لا أمل لهم في ذلك. وعملياً، لا يقتصر تضييق هذه اللجان على العرب فحسب، بل هو يشمل أيضاً قطاعات أخرى من السكان، مثل اليهود الشرقيين، العائلات الأحادية الوالد وذوي المحدوديات الجسمانية وغيرهم أيضاً". 

ويطرح يفتحئيل تساؤلاً استنكارياً فيقول: "لماذا توجه الزوجان قعدان إلى كتسير أصلاً؟"، ثم يجيب: "لأنه لم يكن لديهما خيار آخر طالما لم يكن بالإمكان ضمان جودة حياة معقولة في بلدتهما، باقة الغربية، حيث لا متنزهات ولا بنى تحتية بمستوى يداني ما هو متوفر في البلدات اليهودية، أو مستوى معقول حتى". ويضيف: "المجلس الإقليمي مسغاف يقوم بين سخنين وكفر مندا على أراضٍ مصادرة من العرب، لكن ما هي جودة الحياة في مسغاف مقابل جودة الحياة في هاتين البلدتين العربيتين؟... من واجب الدولة الديمقراطية ضمان المواطَنة المتساوية لجميع المواطنين فيها، ولكنّ التمييز الرسمي المتواصل منذ سنوات عديدة جداً ضد البلدات العربية يجعل من بعض المحاولات المحدودة التي جرت خلال السنوات الأخيرة لإصلاح الأوضاع وسد الفجوات مجرد محاولات غير قابلة للنجاح. ذلك أن قانون لجان القبول، بصيغته الأولى أصلاً فكم بالحري بصيغته الجديدة الأكثر تشدداً بكثير، هو النقيض التام للهدف من هذه المحاولات ولواجب الدولة المذكور سالفاً". 

جاءت أقوال يفتحئيل وكيدار هذه ضمن التقرير الثالث من سلسلة تحقيقات صحافية استقصائية أجراها ونشرها حول "لجان القبول" والقانون الخاص بها والتعديلات الذي أدخِلت عليه مركز "شومريم"، الذي يعرّف نفسه بأنه "مركز للإعلام والدمقراطية" وبأنه "جسم إعلامي غير سياسي غايته تعزيز أسس الديمقراطية في إسرائيل من خلال المشاريع الإعلامية والتعاون مع وسائل الإعلام الإسرائيلية الأخرى". وقد اختار مركز "شومريم" لسلسلة تحقيقاته هذه عنوان "لجان اختيار الجيران". في التقرير الأول، كُشف النقاب عن الطريقة التي تعتمدها مستوطنات معينة لرفض قبول مطلقات أو مطلقين أو عائلات أحادية الوالد للسكن فيها. وفي التقرير الثاني كُشف النقاب عن العلاقة الخفية ما بين "برنامج الإصلاح القضائي"، الذي تسعى الحكومة الإسرائيلية إلى تنفيذه ويصطدم بمعارضة شعبية واسعة، وبين توسيع "لجان القبول" في "البلدات الجماهيرية" بحيث تُبقيها على أرض الواقع "لليهود فقط". وحاول التقرير الثالث، الذي نُشر تحت عنوان "البوابة الصفراء بقيت مغلقة: أكثر من 80% من مساحة إسرائيل بأيدي 8 بالمئة من السكان"، الإجابة على تساؤلات في غاية الأهمية، من بينها مثلاً: "ما العلاقة بين الكيبوتسات ومنتدى (فوروم) كوهيلت؟ ما هي العلاقة بين رؤساء مجالس من اليسار واليمين الاستيطاني؟" ثم يوجز الإجابة عليها بعنوان كبير يقول: "العلاقة هي ـ الرغبة في الاحتفاظ بالقدرة على اتخاذ القرار حول من يسكن في بلداتهم: عرب؟ أزواج تجاوزوا سن الـ 50 عاماً؟ مرضى بالسرطان؟... شكراً على توجهاتكم، لكن ليس بيننا"! 

 

"قضية قعدان" و"لجان القبول" ـ  تذكير قصير

بدأ موضوع "لجان القبول" فيما يسمى "البلدات الجماهيرية" يثير الاهتمام والنقاش في أواخر سبعينيات القرن الماضي بالتزامن مع إنشاء المناطر الاستيطانية في الجليل. وفي العام 1995 توجه الزوجان إيمان وعادل قعدان من باقة الغربية إلى بلدة "كتسير" بغية شراء قطعة أرض لبناء بيت يسكنان فيه هناك. لكن "لجنة القبول" في هذه "البلدة الجماهيرية" رفضت طلبهما على خلفية كونهما عربيين الأمر الذي دفع بهما إلى تقديم التماس إلى "محكمة العدل العليا" الإسرائيلية بواسطة "جمعية حقوق المواطن" الإسرائيلية. وبعد خمس سنوات من المداولات، أصدرت المحكمة العليا قرار حكمها القضائي الذي شكل سابقة قضائية في ذلك الوقت، إذ قبلت التماس الزوجين قعدان وأقرّت عدم قانونية التمييز الذي انطوى عليه قرار البلدة رفض طلب الزوجين مؤكدة أنه "حتى لو كانت الوكالة اليهودية ("مالكة الأرض" في كتسير) هي التي قامت بعملية التصفية/ الرفض هذه، فإنه لا يجوز للدولة التمييز في تخصيص الأراضي".

قاد قرار المحكمة هذا في حينه ـ إلى جانب التماسات أخرى قُدّمت إلى المحكمة ذاتها في أعقاب قرارها الأول، المذكورـ إلى تشريع قانون أقره الكنيست في العام 2011 وقضى بـ "حظر التمييز على أساس القومية، الدين، العِرق أو الجنس" وبأن "لجان القبول" هذه "تعمل في النقب والجليل فقط وفي البلدات التي تضم عدداً من العائلات لا يتعدّى الـ 400 عائلة في البلدة الواحدة". لكنّ القانون أتاح للجان القبول تلك "الاستمرار في رفض مرشحين للسكن في البلدة" بناء على بند جديد أطلقوا عليه اسم "بند الملاءَمة للنسيج الاجتماعي"، وهو الذي استُخدم فعلياً لسدّ الطريق أمام العرب ومنعهم من السكن في "بلدات جماهيرية" يهودية. 

منذ سن القانون، واصلت "لجان القبول" عملها كالمعتاد، لكن "تحت الرادار"، بعيداً عن الأنظار والاهتمام، في الغالب. والمجالس الإقليمية (التي تشكل سقفاً إدارياً ضمن الحكم المحلي لمجموعة من البلدات الصغيرة نسبياً) هي التي تفعّل هذه اللجان وتديرها، وليس البلدات ذاتها. 

لكن الحكومة الحالية تسعى هذه الأيام لتوسيع إضافي آخر في سريان "قانون لجان القبول" (الذي هو، في حد ذاته، تعديل لقانون "أمر الجمعيات التعاونية") بعد أن تم توسيعه في الكنيست السابقة إلى بلدات يصل عدد العائلات فيها إلى 700 عائلة. وسيتم توسيعه هذه المرة ليسري على البلدات التي يصل فيها عدد العائلات إلى 1000 عائلة وبحيث يسري أيضاً على المستوطنات في الضفة الغربية، وذلك تنفيذاً للبند 111 من الاتفاقيات الموقعة بين أحزاب الائتلاف الحكومي الحالي. معنى ذلك، توسيع دائرة البلدات التي يمكنها رفض انضمام مواطنين جدد للسكن فيها. ويعني توسيع سريان "لجان القبول" على البلدات الكبيرة، نسبياً، وليس على "البلدات الجماهيرية" فقط، توسيع وتعميق ممارسات إقصاء "الأقليات"، وفي مقدمتها العرب بالتأكيد، من العديد جداً من البلدات. وكلما حصلت بلدات كبيرة على تصريح بإقصاء هذه الأقليات، ازداد الضغط بطبيعة الحال لإقصاء مجموعات سكانية في داخل المدن والأحياء أيضاً. وهو ما يندرج في المحصلة في المساعي العريضة التي تنطوي عليها الاتفاقيات الائتلافية المذكورة لتأهيل وتوسيع "الاستيطان اليهودي" التمييزي، خلافاً لقرار الحكم القضائي المذكور (في "قضية قعدان") الذي يحظر التمييز في تخصيص الأراضي والموارد. 

وفي يوم الخميس الأخير (13 تموز الجاري)، عقدت "لجنة المشاريع العامة" الخاصة في الكنيست جلسة إضافية أخرى ضمن سلسلة الجلسات التي عقدتها حتى الآن والتي سوف تعقدها في الأسابيع القريبة لإعداد هذا التعديل القانوني للقراءتين الثانية والثالثة ليتم إقراره في الكنيست نهائياً. 

"لجان القبول بمثابة بوابة صفراء. حاجز مغلق"!

في هذه الأثناء، كشف تحقيق "شومريم" أن الجهة التي تحرّك مساعي التوسيع في سريان "قانون لجان القبول"، في المرة السابقة وفي المرة الحالية أيضاً، هي "منتدى/ فوروم شيله"، وهو أحد أذرع "فوروم كوهيلت"، الذي يشكل المحرك الأيديولوجي الأساسي والأكبر لـ "برنامج الإصلاح القضائي". وكشف التحقيق عن عاصفة كبيرة كانت قد ثارت في بلدات المجلس الإقليمي "مسغاف" قبل بضعة أشهر في أعقاب مقالة نُشرت في صحيفة "هآرتس" وكشف النقاب من خلالها عن لقاء نظمه "فوروم شيله" في المنطقة جرى فيه الحديث عن "الحاجة إلى إنقاذ الجليل" بمشاركة رؤساء حركة "الكيبوتسات" (البلدات اليهودية التعاونية) وحركة "الموشافيم" (البلدات اليهودية الزراعية) ورئيس "منتدى شيله" بنتسي ليبرمان. 

وقبل سنتين، كان رئيس "مجلس مسغاف الإقليمي"، داني عبري، قد نشر مقالاً في موقع المجلس أعلن فيه تأييده لمبادرة وزيرة الداخلية آنذاك، أييلت شاكيد، توسيع سريان "لجان القبول" على بلدات يبلغ فيها عدد العائلات 700 عائلة. ورفض عبري آنذاك وصف هذا القانون بأنه عنصري. لكن عبري، بحسب بعض السكان في بلدات "مجلس مسغاف الإقليمي" والذين تحدث معهم موقع "شومريم"، أبلغهم بموقف مغاير تماماً خلال لقاء عقدوه معه في أعقاب العاصفة المذكورة. وقال أحد سكان بلدة "ركيفت"، داني أفيغور، إن عبري "قال لنا في اللقاء معه إنه يعارض لجان القبول ويرفضها لكنه مضطر إلى العمل بموجبها لأن لا خيار آخر أمامه، وإلا فسيأتي إلى بلدات مسغاف أشخاص مما هب ودب". وأضاف أفيغور إنه في كل بلدات "مجلس مسغاف الإقليمي هنالك عائلتان أو ثلاث عائلات من العرب فقط، إحداها في ركيفت. أنا أتحدث مع أصدقاء من سخنين وعرابة ويطلبون مني ترتيب شيء ما لهم للانتقال للسكن هنا، لكن دون المثول أمام لجان القبول، لأن هذه اللجان بالنسبة لهم بمثابة بوابة صفراء. حاجز مغلق".

إيال بن رؤوبين، الجنرال (احتياط) وعضو الكنيست السابق ضمن حزب "الحركة" (هتنوعا) بقيادة تسيبي ليفني والذي يقيم في "مسغاف"، أعلن تأييده لعبري ورداً على سؤال عن عدم وجود عائلات عربية في البلدات الجماهيرية، قال: "سأعطيكم مثلاً. إن زوجتي يسارية ولكن حين أسألها هل تقبلين بأن يسكن محمد من سخنين في يودفات حيث تسكن شقيقتك تقول لا، لأننا يجب أن نعيش في الواقع. لماذا خلق التوتر؟ ما الذي سيحصل في "يوم الغفران" أو في أية مناسبات أخرى؟ لكي لا نخلق هذه التوترات بصورة متعمدة، يجب الحرص على أن يعيش عرب سخنين وعرابة في مدن بمستوى جيد، مثل مدننا نحن، الأمر الذي سيقلل الاحتكاك والتوتر. مسموح قول هذا. هذه ليست عنصرية، وإنما تأييد الحياة الجيدة للجميع"!

في أعقاب الانتخابات الأخيرة للكنيست، والتي فشلت فيها حركة ميرتس بتجاوز نسبة الحسم، عبرت رئيسة الحركة، زهافا غالئون، عن الندم على أن الحركة لم تقف موقفاً حازماً ضد "قانون لجان القبول". وقالت في مقابلة مع صحيفة "هآرتس" مؤخراً: "دعونا نسمي الولد باسمه. دعونا نقول لجميع مؤيدينا في الكيبوتسات، بكل صراحة ووضوح، إن هذا القانون هو قانون عنصري. وأنا أعلم أن كثيرين من بينهم يشاركوننا هذا الرأي اليوم"!

ويشير تحقيق "شومريم" إلى أن ما تقوله غالئون صحيح "فثمة عدد غير قليل من أعضاء الكيبوستات والموشافيم الذين يوافقون معها اليوم"، ولكن القضية المركزية تبقى بالنسبة إلى هؤلاء أنهم "يتعايشون بسلام مع هذا التناقض"، وذلك لأن رؤساء المجالس الإقليمية والحركات الاستيطانية (الكيبوتسات والموشافيم) يشكلون "لوبي غير رسمي، عابر للأحزاب، بيمينها ويسارها. فصحيح أنهم يمثلون 8-9 بالمئة من السكان في إسرائيل فقط، لكنهم يسيطرون على 84 بالمئة من مساحتها"!

 

المصطلحات المستخدمة:

الكنيست, الوكالة اليهودية, هآرتس

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات