المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

في حزيران 2023، نشر ضابط رفيع في الجيش الإسرائيلي ورقة بحثية قال فيها، بلكنة تُعدّ ناقدة وغير راضية، إن التاريخ قد أثبت أن محاولة هزيمة مجموعات مقاومة من خلال استخدام القوة العسكرية وحسب سيكون مصيرها الفشل الحتمي، خصوصا إذا كانت هذه المقاومة صاحبة تطلعات وطنية- قومية. وردت هذه العبارة في معرض انتقاد سياسات الحكومة الإسرائيلية اليمينية الحالية. فقد أوضحت الورقة بأن ممارسة القيادة الوسطى للجيش الإسرائيلي، باعتبارها القوة المكلفة بالسيادة على الأرض المحتلة، تتأثر حاليا بنزعتين متناقضتين: من جهة، هناك المعرفة العسكرية المتراكمة على مدار 56 عاما من عمر الاحتلال التي تقوم بالموازنة بين سياسة "العصا" (استخدام القوة العسكرية) وسياسة "الجزرة" (تسهيلات اقتصادية وتوفير أفق سياسي لتقويض مسببات الانتفاض الفلسطيني). من جهة ثانية، هناك صعود واضح لسياسات اليمين الجديد التي اعتبرها "صقرية"، ومحافظة، وتدعو إلى التقليل من سياسة "الجزرة" والارتكاز قدر المستطاع إلى مركب القوة العسكرية القامعة. على ما يبدو، فإن هذا التوجه الجديد هو الذي يكمن خلف الأسلوب الذي تحكم به إسرائيل الضفة الغربية منذ بضعة أعوام والمتمثل في سياسة استخدام القوة، ثم المزيد من القوة، بدون رفد هذا التصعيد العسكري بتسهيلات اقتصادية (مثلا، تحرير أموال المقاصة المحتجزة) أو تسهيلات سياسية (فتح قنوات اتصال رسمية مع السلطة الفلسطينية لـ "تنفيس" المناخ العام السياسي).

هذه الورقة تنظر في تأثير اليمين الجديد على ممارسة القيادة الوسطى للجيش الإسرائيلي، والأيديولوجيا التي تكمن خلف سياسة "الاستمرار في قمع الفلسطينيين"، وتستشرف معانيها المستقبلية. يبدو الأمر أكثر الحاحاً للنقاش في حال كانت سياسة إسرائيل تجاه الضفة الغربية تمر في منعطف طرق هو الأول من نوعه منذ العام 1967، ويتلخص هذا المنعطف في الانتقال من "سياسة العصا والجزرة" إلى "سياسة العصا" بكل ما يحمله الأمر من تبعات على عقيدة إدارة الصراع.

القيادة الوسطى للجيش الإسرائيلي: احتلال مؤقت أم دائم؟

يمكن تقسيم الجيش الإسرائيلي إلى أربع قيادات: قيادة الشمال، قيادة الوسط، قيادة الجنوب، وقيادة الجبهة الداخلية. على العكس من قيادات الجيش التي تضطلع فقط بمهمات حربية قبل أن تعود إلى قواعدها العسكرية، فإن القيادة الوسطى في الجيش الإسرائيلي تعتبر "حاكمًا" و"صاحب سيادة فعلية" (sovereign) على منطقة الضفة الغربية. بما أن إسرائيل لم تضم الأرض المحتلة بشكل رسمي، فإن الوضعية التي يتيحها القانون الدولي في هذه الحالة تندرج تحت ما يسمى "الاحتلال الحربي" (belligerent occupation): أي وضع قوة عسكرية لإدارة شؤون الأرض المحتلة وسكانها إلى حين الوصول إلى تسوية دائمة، وبالتالي فهي إدارة عسكرية مؤقتة.[1] والقيادة الوسطى للجيش، كحاكم فعلي للضفة الغربية، تقوم بدورها باعتبارها "حكومة عسكرية" مصغرة ذات أذرع شبيهة بالدولة تشمل:

  • سلطة تشريعية: تتمثل في آلاف الأوامر العسكرية المتراكمة منذ العام 1967 والتي تشكل القانون العام الذي ينظم إدارة أراضي الضفة الغربية وسكانها. بالإضافة إلى توليفة انتقائية تجمع القانون الدولي، والعثماني، والبريطاني، والأردني، والإسرائيلي.
  • سلطة قضائية: منظومة القضاء العسكري التي تشمل المحاكم العسكرية- ابتدائية واستئنافية- والمكونة من قضاة عسكريين برتبة رائد فما فوق.
  • سلطة تنفيذية (مسؤولة عن الإدارة المدنية، وإنفاذ القانون وعن استخدام القوى العسكرية التدخلية).

الهدف الأساس للحكم العسكري، كما تبلور منذ العام 1967 وحتى اليوم، هو الحفاظ على الاستقرار في الضفة الغربية على المدى الطويل من خلال ثلاثة مبادئ تمكينية (enabling principles)، كما يفصح عن ذلك الجيش الإسرائيلي نفسه: 1) الجيش هو صاحب السيادة ولديه تصور منهجي تجاه السكان الفلسطينيين يقوم على مركبات إدارية وليست عسكرية بالدرجة الأولى؛ 2) الجيش هو الجهة الوحيدة التي تحتكر ممارسة القوة، وبيده إنفاذ القانون عسكريا من خلال سياسات دفاعية وهجومية؛ 3) الجيش، باعتباره صاحب السيادة، يستفيد من "كيانات" أخرى تساعده في استخدام القوة أو إدارة الأرض المحتلة. أحد هذه الكيانات هي الإدارة المدنية (دائرة تابعة لوزارة الدفاع لكنها تعمل تحت سلطة القيادة الوسطى للجيش). والإدارة المدنية تقيم قنوات اتصال وتنسيق أمني ومدني مع السلطة الفلسطينية في ما يتعلق بحياة نحو 3 ملايين فلسطيني يسكنون في معظمهم في نحو 40% من المناطق المحتلة (مناطق "أ" و "ب") والتي يتم تصنيفها بموجب أمر عسكري صادر عن القيادة الوسطى للجيش كمناطق حكم ذاتي. وللتوضيح، فإنه من الناحية القانونية- الإدارية، يرى الجيش الإسرائيلي بأنه لا يزال هو مصدر السلطة على كل الضفة الغربية حتى بعد توقيع اتفاق أوسلو. فبحسب يوئيل زنغر، المحامي من النيابة العسكرية الذي عمل مستشارا قانونيا للجيش في صياغة اتفاق أوسلو، تم السماح بتطبيق اتفاق أوسلو من خلال إصدار أوامر عسكرية لتمرير صلاحيات مناطقية وإدارية وأمنية للسلطة الفلسطينية، الأمر الذي يجعل "اتفاق أوسلو" من وجهة نظر الجيش الإسرائيلي جزءاً من منظومة القوانين العسكرية التي تشكل البنية التحتية للاحتلال العسكري وليست موازية لها.[2] ولا بد من الإشارة إلى أن رئيس الإدارة المدنية يتبع وظيفيا إلى "المنسق" إلا أنه يعمل أيضا كضابط أركان داخل القيادة الوسطى للجيش، وهذا يفسر لماذا يرتدي رئيس الإدارة المدنية (على خلاف المنسق) زياً عسكرياً باستمرار. وفق هذا الفهم، يمكن النظر إلى القيادة الوسطى للجيش باعتبارها هيئة أركان مسؤولة عن الأرض المحتلة تنفيذيا، وتشريعيا، وقضائيا، ومن مهمتها التنسيق مع السلطة الفلسطينية، وهي التي تشرف بشكل مباشر على عمل "المنسق"، والإدارة المدنية، والتوسع الاستيطاني في المناطق "ج". وباعتبارها الحاكم الأعلى صاحب السيادة، فإنها أيضا تنفذ الأعمال الحربية والقتالية داخل الضفة الغربية، وتنسق عمل كافة الأذرع الأمنية الأخرى داخل الضفة الغربية، بما فيها الشرطة وحرس الحدود والمخابرات الإسرائيلية.

التناقضات التي تعتري عمل القيادة الوسطى للجيش الإسرائيلي

على العكس من القيادة الشمالية، على سبيل المثال، التي تقوم بعمليات حربية ضد حزب الله أو ضد سورية، فإن هيئة أركان القيادة الوسطى تنفذ عملياتها الحربية ضد الفلسطينيين بما يخدم استراتيجية أوسع: "إن الهزيمة العسكرية للفلسطينيين وحدها لا تكفي، لأن وجود الاحتلال على أراضي الضفة الغربية يوفر عاملا منشطا لإعادة إنتاج المقاومة الفلسطينية". وعليه، طالما لا يوجد موعد واضح أمام القيادة الوسطى للجيش الإسرائيلي للانسحاب من الضفة الغربية، فإن منطق الحكم العسكري للضفة الغربية يستند إلى استراتيجية الاحتلال ذي السقف الزمني المفتوح (أو طويل الأمد). يخلق هذا الوضع تناقضات أمام الجيش الإسرائيلي في القيادة الوسطى.

إن التناقض الأول يكمن في أن مفهوم "الاحتلال الحربي" يشترط ضمنيا بأن هذا الاحتلال مؤقت إلى حين الوصول إلى تسوية سياسية- مناطقية. لكن من جهة ثانية، لا يتدخل الجيش بتاتا في مسارات الوصول إلى تسوية سياسية- مناطقية، بل يخضع إلى سياسات الحكومة التي، منذ العام 1967، تدفع بشكل ممنهج نحو تحويل الوجود الإسرائيلي في الأرض المحتلة إلى وجود دائم لا تراجع عنه. على القيادة الوسطى إذن أن توفر الظروف القانونية، التشريعية، والدبلوماسية لإدارة الأرض المحتلة وفق هذا التناقض المستفحل.

التناقض الثاني يكمن بين المعرفة التي راكمتها القيادة الوسطى في إدارتها لحياة 3 ملايين فلسطيني في الضفة الغربية، التي تقوم على سياسة العصا والجزرة، والتوجيهات اليمينية المتزايدة من قبل الحكومات الإسرائيلية الأخيرة، التي تنتهج فقط سياسة العصا، تاركة مآلات الأمر لـ "حسن إدارة" القيادة الوسطى في الجيش التي عليها أن توفر الأدوات والمعرفة الجديدة للتعامل مع الفلسطينيين ميدانيا.

وللتوضيح، فإن "سياسة الجزرة"، التي تصر الحكومة الإسرائيلية على تغييبها مؤخرا عن عمل القيادة الوسطى في الجيش، هي "الفلسفة" الوحيدة التي عرفتها القيادة الوسطى في الجيش، ومارستها، منذ العام 1967. وتتلخص هذه الفلسفة في ثلاثة مبادئ تطورت منذ حقبة وزير الدفاع السابق موشيه ديان. المبدأ الأول هو "الاحتلال المتنور" (enlightened occupation) الذي يدعو إلى إتاحة حياة شبه طبيعية للفلسطينيين تحت الاحتلال وفي الوقت نفسه تنفيذ عمليات قمعية- عقابية وقت الضرورة. المبدأ الثاني يتمثل في "الاحتلال الخفي" (invisible occupation)، الذي يقوم على خلق قنوات، ومؤسسات، وسلطات (يفضل أن تكون فلسطينية)، تقوم بإدارة شؤون الفلسطينيين بشكل شبه ذاتي، لكن تحت إمرة القيادة الوسطى للجيش التي يجب أن تظل، على الأقل قانونيا، الحاكم الفعلي للأرض المحتلة كيلا تتخلخل الوضعية القانونية الدولية لمفهوم "الاحتلال الحربي المؤقت". المبدأ الثالث، يكمن في الاستناد الى علوم إدارة السكان (population managment) والتي تشمل، في حالة الاحتلال الإسرائيلي توليفة ذكية بين القمع العسكري وفرض السلطة بالقوة (وهذه العصا)، وتسهيلات اقتصادية وعدم إغلاق الأفق السياسي بشكل مطلق وصريح (وهذه الجزرة).

من وجهة نظر القيادة الوسطى للجيش، التي تشرف مرة أخرى على عمل وحدة المنسق (COGAT)، والإدارة المدنية، وقنوات التنسيق الأمني والمدني مع السلطة الفلسطينية، فإن الاستمرار في حجز أموال المقاصة، وترك السلطة على حافة الانهيار، وتحويل القوة العسكرية إلى جزء ملازم للحياة اليومية للفلسطينيين، والقيام بحملات عسكرية مستمرة وعنيفة في قلب المدن الفلسطينية، هي أمور من شأنها أن تقوّض قدرة القيادة الوسطى للجيش الإسرائيلي على الدمج بشكل ناجع بين استراتيجية المدى القصير (قمع المقاومة الفلسطينية) واستراتيجية المدى المتوسط (خلق شروط حياة اقتصادية واجتماعية "مريحة" للفلسطينيين تقع دون الحل السياسي وفوق التوتر الأمني) واستراتيجية المدى البعيد (الاستمرار بإدارة الأرض المحتلة بدون سقف زمني لنهاية الاحتلال). على ما يبدو، فإن السياسة الإسرائيلية الرسمية في ظل حكم اليمين الجديد (تحديدا منذ العام 2015)، تقوم على استخدام القوة العسكرية بدون استخدام أدوات "كابحة"، سواء أكانت اقتصادية أو سياسية. هذا من شأنه أن يخلق حالة أمام القيادة الوسطى في الجيش الإسرائيلي لخلق معرفة وممارسة قد تغير شروط الاحتلال الإسرائيلي سواء من وجهة نظر الجيش أو من وجهة نظر الفلسطينيين.

القيادة الوسطى للجيش قبل اليمين الجديد

إن استعراض وتحليل دور القيادة الوسطى في الجيش الإسرائيلي في احتلال الضفة الغربية، وإدارتها باعتبارها "الحاكم صاحب السيادة"، أمر معقد. لكن يكفي أن ننظر إلى دورين أساسيين تقوم بهما القيادة الوسطى للجيش لممارسة سلطتها كـ "صاحبة سيادة" أمام الطموحات اليمينية الإسرائيلية.

منذ العام 1967، لعب الجيش الإسرائيلي بشكل عام، والقيادة الوسطى في الجيش الإسرائيلي بشكل خاص، دور "الكابح" (restraining)، ودوراً "تعديلياً" (readjustment) في ما يخص توسع المشروع الاستعماري.

الدور الأول هو دور "الكابح". مثلا، توسيع الاستيطان، شرعنة بؤر جديدة، أخذ قرارات بشأن مصادرة الأراضي الفلسطينية وتصنيفها، الاقتحامات العسكرية للمدن الفلسطينية وسياسات الاغتيال، وضع الحواجز وسياسات التنقل داخل الضفة الغربية ومنها إلى إسرائيل أو عبر جسر الأردن، عدد التصاريح الممنوحة للفلسطينيين، الأزمة المالية للسلطة الفلسطينية، سياسات الإغلاقات والحصارات، وغيرها... كل هذه القضايا يجب أن تمر من خلال القيادة الوسطى للجيش الإسرائيلي التي تلعب دور "كابح" بهدف الحفاظ على معايير "الاحتلال المتنور". هذا يصح في حال كانت الطموحات اليمينية الصهيونية صادرة من الأعلى (top-down policing) من قبل الحكومة الإسرائيلية، أو من الأسفل (bottom-up lobbying) من قبل مجلس المستوطنين، الصهيونية الدينية، منظمات اليمين الجديد وغيرها. في كل الأحوال، يهدف الدور "الكابح" للقيادة الوسطى للجيش الإسرائيلي إلى الحدّ، قدر الإمكان، من تحويل المجتمع الفلسطيني إلى "قنبلة متفجرة" يستحيل ضبطها أو إدارتها، وبالتالي الاضطرار إلى تقديم حلول سياسية حقيقية.

الدور الثاني هو دور "فقهي" بحيث أن قضايا مثل توسيع الاستيطان، مصادرة أراض، مصادرة أموال مقاصة، وحتى قمع المطالب الوطنية التحريرية للفلسطينيين، يجب أن تتوافق مع صورة "الاحتلال المؤقت"، بحسب الفهم المتوافق عليه دوليا. يتم ذلك من خلال المساعدة على توفير مسوغات قانونية وتشريعية تتيح الدفاع عن سياسات الاستيطان أمام القوى الدولية (الأمم المتحدة، محكمة الجنايات الدولية، السياسة الخارجية للولايات المتحدة، العلاقة مع الأردن وغيرها).

هذا لا يعني أن القيادة الوسطى للجيش الإسرائيلي تقوم بدورها كقوة احتلال بشكل "حيادي" أو "أخلاقي". بل على العكس تماما. فبينما أن المناخ العام في إسرائيل يدفع إلى توسيع الاستيطان، وإنهاء حل الدولتين، وقمع المقاومة الفلسطينية، وإسكات المطالب الوطنية- القومية للفلسطينيين، ونزع الدور السياسي عن السلطة الفلسطينية، فإن القيادة الوسطى للجيش هي التي تقرر كيفية تحقيق هذه الأهداف، ومتى، ضمن أي وتيرة أو سرعة- كل ذلك على اعتبار أن عقيدة الجيش تقوم على مبدأي "الاحتلال المتنور" و"الاحتلال الخفي".

حاليا، لا يوجد نموذج بديل عن "الاحتلال المتنور" و"الاحتلال الخفي" سوى التعامل العسكري العنيف والمستمر مع الفلسطينيين، وهو تعامل لا يصمد على المدى المتوسط والبعيد، ويشكل مأزقاً أمام الجيش الإسرائيلي في ظل حكومات إسرائيل اليمينية المتطرفة.

 

القيادة الوسطى للجيش في حقبة اليمين الجديد

تترك السياسة الإسرائيلية المتبعة تجاه الضفة الغربية خلال السنوات السابقة متسعا للادعاء بأن اليمين الجديد يدفع إلى تقويض عقيدة "الاحتلال المتنور" من الداخل (العصا والجزرة)، واستبدالها بعقيدة "الاحتلال العنيف" (سياسة العصا) وهي عقيدة تؤجج التوترات، وتولد العنف، وترهق حياة الفلسطينيين، وتفتح السيناريوهات على آفاق جديدة ما كانت لتولد سابقا. والدور الوظيفي لسياسة العصا والجزرة حسب القيادة الوسطى للجيش هو إتاحة "الاستقرار على الأمد البعيد من خلال إدارة الصراع"، بينما أن سياسة العصا قد تعني الانزياح تدريجيا عن "إدارة الصراع" تجاه تأجيجه، أو توتيره، لفتح آفاق جديدة، وغير سياسية، لـ "مشكلة الفلسطينيين".

ينتصب هذا الوضع أمام القيادة الوسطى للجيش الإسرائيلي مدعوما بممارسات تقوم بها الحكومات الإسرائيلية اليمينية منذ بضعة أعوام، وهي:

  1. الإعلان بأن المصير النهائي للأراضي "ج" سيكون الضم الفعلي والقانوني، الأمر الذي يهدد مفهوم "الاحتلال المؤقت"، ويجبر الجيش (بدون أن يكون مستعدا) على إيجاد مسوغ قانوني يتيح له التنازل عن سيادته "كقوة احتلال" على بقعة محتلة ومنحها إلى سيادة دولة أخرى (حتى لو كانت إسرائيل).
  2. الإعلان الضمني، والمقرون بممارسة دؤوبة، بأن حل الدولتين قد انتهى، الأمر الذي قد يعيد تعريف الدور السياسي للسلطة الفلسطينية، ويغيّر مفهوم الفلسطينيين للاحتلال، والعملية السلمية، وأدوات تحقيق تقرير المصير.
  3. الاستمرار في خنق الفلسطينيين مالياً بحيث أن احتجاز أموال المقاصة لا يؤثر فقط على ميزانية السلطة الفلسطينية، وإنما تمتد آثاره بشكل مباشر على رواتب مئات الآلاف من العائلات، والقطاع الخاص، ومشاريع القطاع العام، والبلديات. على خلاف المرات التي حجزت إسرائيل فيها أموال المقاصة لفترات متقطعة (كانت أطولها مدة عامين خلال انتفاضة الأقصى)، فإن إسرائيل تحتجز قسماً ثابتاً من أموال المقاصة بموجب قانون يتم تجديده منذ العام 2019، ولا تبدو "الانفراجات الاقتصادية" هي جزء أساس من أدوات الحكومات اليمينية المتطرفة.
  4. التعامل بعنف عسكري مستمر، وبدون الاهتمام بتصاعد الاحتقان السياسي والاجتماعي والاقتصادي الفلسطيني، وهو اهتمام كان يرافق عمل القيادة الوسطى للجيش (من خلال مفهوم إدارة الصراع) منذ العام 1967، لكنه بدا مغيبا منذ بضعة أعوام. من الواضح للقيادة الوسطى للجيش أن العمل العسكري المكثف يولد المزيد من المقاومة ويهدّد قدرة الجيش الإسرائيلي على الاستمرار في الحفاظ على " الاستقرار طويل الأمد من خلال إدارة الصراع".
  5. سحب ملف الاستيطان والتنازع على تصنيف أراضي "ج" من مهمات القيادة الوسطى للجيش ومنحه إلى الوزير بتسلئيل سموتريتش (وزير مدني داخل وزارة الدفاع) بالإضافة إلى الوزيرة أوريت ستروك (وزارة المهمات القومية). هذا يعنى أن قضايا أساسية تقع ضمن صلاحيات "صاحب السيادة" (أي الجيش) ستتحول إلى المستوطنين. العديد من مهمات الحاكم العسكري، والمحكمة العسكرية، والإدارة المدنية، والمتعلقة بتصنيف الأراضي، والبنى التحتية، وشرعنة البؤر الاستيطانية، وغيرها من المسائل التي تمس وضعية الأرض المحتلة ستكون خارج نطاق صلاحيات الجيش.

 

الخلاصة

يقدم تقييم الجيش الإسرائيلي للانتفاضة الثانية خير دليل على مفهوم إدارة الصراع. من وجهة نظر الجيش، فقد كان من المهم رفد القمع العسكري العنيف وواسع النطاق للفلسطينيين خلال الانتفاضة، بخارطة الطريق للسلام (2002)، ومبادرة جنيف (2003)، ومؤتمر أنابوليس (2007)، ومباحثات أبو مازن- أولمرت (2009)، واللقاءات السياسية بين أبو مازن- نتنياهو (2014). فكل هذه المحطات تناولت الأبعاد الوطنية- السياسية للصراع، وبالتالي أعطت الأمل إلى مجموعات كبيرة في المجتمع الفلسطيني، حسب وصف ضابط كبير في الجيش الإسرائيلي.[3] وهي محطات أثبتت أن المواجهة العسكرية وحدها لا تكفي لوقف تصاعد المقاومة الفلسطينية.

قد تنشأ ظروف على المدى القريب تدفع إسرائيل إلى الإفراج عن قسم من (أو كل) أموال المقاصة، أو إلى التخفيف من وتيرة العمليات العسكرية التدميرية. مثلا، في 9 تموز 2023، عقد الكابينيت الأمني- السياسي المصغر جلسة مداولة لإقرار "رزمة" تسهيلات للفلسطينيين قد تدفع إلى تلطيف الأجواء العامة في أعقاب العملية العسكرية الواسعة في جنين. تم إدراج هذه الجلسة على رأس أولويات الحكومة الإسرائيلية بفضل تقارير ملحة، ومستعجلة، تم رفعها من القيادة الوسطى للجيش بالإضافة إلى جهاز المخابرات الإسرائيلي.

 لكن، وبناء على قراءات مختلفة في الأجندة السياسية لليمين الجديد، الذي بات يهيمن على المشهد السياسي- الحزبي في إسرائيل، فإن الحكومات الإسرائيلية اليمينة تدفع الجيش إلى ممارسة الحكم العسكري على الفلسطينيين بدون وجود أفق سياسي، وإجبار الفلسطينيين على القبول بذلك. هذا يعني، على المدى المتوسط، أن القيادة الوسطى للجيش قد لا تحظى بالأدوات الضرورية للاستمرار في "إدارة الصراع". ومن المهم الإشارة إلى أن وجود السلطة الفلسطينية بموجب اتفاقيات دولية (سواء كانت مرحلية مؤقتة أو متجددة بفضل استمرار تبني المجتمع الدولي لها)، يعني أن "إدارة الصراع" منذ العام 1993 باتت تنطوي على مركب جوهري يتمثل في أن قبول الفلسطينيين لوجود السلطة الفلسطينية يحتاج إلى إبقاء باب الحلول السياسية مواربا، وعدم إغلاقه بشكل مطلق من خلال إنهاء "حل الدولتين". اليمين الجديد يسير بخطى حثيثة، وعلنية، لإغلاق هذا الباب بحيث أن مركب "الجزرة" في سياسة "العصا والجزرة" قد يشمل، في أحسن الحالات، "تسهيلات اقتصادية" وحسب، وهذا ما يتضح بشكل جلي من مداولات الكابينيت الإسرائيلي، التي ركزت فقط على عدم انهيار السلطة الفلسطينية من خلال توفير أقل الأدوات المتاحة تحت بند "التسهيلات الاقتصادية"، مع رفض صريح لفتح قنوات سياسية.

 وحسب تعريف الجيش الإسرائيلي نفسه، فإن إدارة الصراع، من الناحية العملية، ينطوي حاليا على أربعة مركبات مهمة، وهي: 1) موازنة القمع العسكري للفلسطينيين مع تقديم تسهيلات حياتية- اقتصادية للفلسطينيين (هذه الموازنة باتت أصعب بالنسبة للجيش خلال الأعوام السابقة)؛ 2) الموازنة بين توسيع المشروع الاستيطاني اليهودي والأراضي المملوكة للفلسطينيين (منذ بداية 2023 لم يعد توسيع المشروع الاستيطاني من مهمات الجيش وإنما المستوطنين أنفسهم)؛ 3) الحفاظ على الانقسام السياسي بين الضفة الغربية وقطاع غزة (هذا المُركّب لم يتأثر)؛ 4) توفير أدلة قانونية وإدارية لإقناع المجتمع الدولي بأن الحكم العسكري للضفة الغربية هو حكم "مؤقت" وليس دائماً (يتصاعد النقد الدولي والحقوقي تجاه مفهوم الاحتلال المؤقت، في ظل عدم خضوع شهية المستوطنين إلى الاعتبارات الدولية).

وفق هذه المعطيات التي تقوم على انزياح إسرائيلي دؤوب نحو أقصى اليمين، التدين التوراتي، الشهية الاستيطانية، فإن القيادة الوسطى للجيش الإسرائيلي تجد نفسها حاليا مضطرة إلى إعادة مفهوم إدارة الصراع، بحيث تقوم بتطوير المعرفة الإدارية-العسكرية اللازمة للحفاظ على استقرار طويل الأمد، تكون السلطة الفلسطينية هي أحد اللاعبين في ضبطه، بدون أن تشكل الهوية اللا-سياسية الجديدة للسلطة الفلسطينية، كما تأملها القيادة الوسطى للجيش،  أي عائق أمام الاستمرار في ضبط، أو تقويض، المشاعر الوطنية والطموحات التحريرية للفلسطينيين. في هذا المضمار، يمكن الادعاء بأن سياسات "حسم الصراع" لسموتريتش، أيديولوجية الترانسفير، المزيد من العنف العسكري، هي مقاربات لم تدمج بعد في ما قد يصبح "العقيدة الجديدة" للجيش الإسرائيلي في إدارة الصراع داخل الضفة الغربية؛ لكن هذا لا يمنع من أن تتحول هذه السياسات اليمينية، في ظل انتهاء ميكانيزمات التسوية السياسية، الى مركب أصيل من مركبات الحكم العسكري في المستقبل.

 

[1] Avinoam Sharon, “Why Is Israel’s Presence in the Territories Still Called “Occupation”?”, (Jerusalem: Jerusalem Center for Public Affairs, 2009) 

[2] يوئيل زنغر، "الاتفاق المرحلي بين إسرائيل والفلسطينيين بشأن الحكم الذاتي في الضفة الغربية وقطاع غزة- أبعاد قانونية"، مجلة القانون [مشباطيم]، العدد 27 للعام 2018.

[3] Tamir Hayman and Eden Kadur, “Undermining the Status Quo in the West Bank: Implications of Government Moves from the Perspective of Central Command”, (Tel Aviv: INSS, 2023) 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات