المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

قبل نحو أسبوع وصل الشاب يوفال داغ (20 عاماً) إلى مركز التجنيد القطري وأعلن رفضه الخدمة في الجيش بسبب رفضه الاحتلال والأبرتهايد كما أكد. وحكمت عليه محكمة عسكرية بالسجن. قبل أسبوعين تلقى الشاب نافيه شبتاي- ليفين (19 عاماً)، إعفاء من الخدمة العسكرية بعد أن قضى أربعة شهور في السجن لرفضه التجنّد للأسباب نفسها. قبل نحو شهر تلقى الشابان شاحر شفارتس (18 عاماً) وأفيتار روبين (19 عاماً) إعفاء من الخدمة العسكرية بعد أن قضيا نحو أربعة شهور في السجن.

جميعهم رافضون فعليون، جاهزون لدفع الثمن بالسجن، وما قاله الرافض داغ لموقع "سيحا ميكوميت" يعبّر عن روح مواقفهم: "أدعو الناس إلى فحص الواقع، النظر إلى ما يجري، لفهم تداعيات ما سيفعلونه ومعنى الوظائف التي يلقيها عليهم الجيش. معنى مراقبة الناس وملاحقتهم بشكل دائم، اعتقال أشخاص وأطفال من بيوتهم، حراسة مستوطنات أو إخلاء قرية".

الإعلام الإسرائيلي والجدل الجماهيري يغيّب تماماً هذه الأصوات الجريئة، لا يذكرهم ولا يتحدث عنهم وبالطبع لا يقابلهم ولا يصغي إليهم ويحجب مجرد وجودهم السياسي والاجتماعي عن الجمهور. هذا موقف معادٍ تماماً ضدهم وفي الوقت نفسه انحياز كامل إلى الموقف الحكومي والعسكري الطاغي الذي يعاقب الرافضين بدوافع الضمير بالسجن.

هذا يحدث في حين أنه لا يمرّ يوم واحد في الإعلام الإسرائيلي من دون التحدّث عن إعلان ضباط وجنود رفضهم المشاركة في تدريبات عسكرية احتجاجاً على الانقلاب القضائي، وما يترتّب عليه، الذي تنفّذه الحكومة برئاسة بنيامين نتنياهو. علماً بأن هذا حتى الآن ليس رفضاً فعلياً للقيام بمهمات عسكرية قتالية، ولم تُسجّل بعد أي حالة كهذه. هو رفض للمشاركة في التدريبات الروتينية.

وبالفعل، فإن المحلل العسكري عاموس هرئيل في "هآرتس" يرى أن رسائل الطيارين ومشغلي الطائرات المسيّرة والمراقبين في سلاح الجو وضباط وجنود وحدات السايبر ووحدة العمليات الخاصة في شعبة الاستخبارات لا تتضمّن "إعلان نوايا مستقبلية بأنهم لن يمتثلوا للخدمة، بل كانت هناك مقولة فورية وهي: في هذا الأسبوع لن نأتي"، في إشارة إلى التدريبات. ويخلص من هنا أنه "حتى الآن لا يعتبر هذا رفضاً بالضبط".

هجوم عنيف مقابل تفهّم وتسويغ لخطوة الطيّارين

يبرز الانقسام الأيديولوجي والعقائدي في الجدل حول الرفض في صفوف قوات الاحتياط، وخصوصاً من سلاح الجو ووحدات خاصة في الاستخبارات، بسبب الانقلاب القضائي، وهذا خلافاً للإجماع "القومي" شبه الشامل ضد رافضي الخدمة العسكرية من أصحاب الضمائر والمواقف الرافضة للاحتلال. هنا في هذه الحالة الأخيرة ينعدم أي تفهّم أو تسامح في صفوف الغالبية الساحقة من المجتمع الإسرائيلي، بما يشمل الرأي العام وشتى ما يُعرف بـ "النخب"، السياسية والعسكرية والإعلامية إلى آخر القائمة. 

يقول رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو: "مهما كانت الاختلافات، فنحن دائماً متحدون أمام أولئك الذين يريدون قتلنا. الرفض يهدد هذا الأساس الوجودي، وبالتالي يجب ألا يكون له مكان لدينا (...) لا مجال للرفض. لأنه بمجرد أن نمنحه الشرعية، ستنتشر آفة الرفض وتصبح نظاماً". 

وهناك وزراء في حكومة نتنياهو استخدموا لهجة أشدّ عنفاً من زعيمهم، فقد دعت وزيرة المواصلات ميري ريغف إلى محاكمة الطيّارين، بينما وصفهم زميلها وزير الاتصالات شلومو كرعي بـ "الوقحين" وأن إعلانهم الرفض خطوة "نتنة وتعيسة"، مضيفاً: "شعب إسرائيل سيتدبّر أمره بدونكم، اذهبوا إلى الجحيم". أما الوزير ايتمار بن غفير فقد ذهب إلى حد الدعوة إلى تسريحهم من الخدمة العسكرية. ومن تفوّقت على الجميع كانت وزيرة الدعاية غاليت دسطل أتبريان التي كتبت في صفحتها على موقع "تويتر": "الطيارون مع وقف التنفيذ ليسوا وطنيين. ليسوا ملح الأرض. ليسوا أفضل من شبابنا. ليسوا شعبا رائعاً. ليسوا شعب إسرائيل. الطيارون الذين يشترطون ثقة المواطنين بنتائج الانتخابات هم حثالات نرجسية. لا يهمني ما فعلوه من أجل الدولة، فالمساعدات في رياض الأطفال يفعلن أيضاً الكثير من أجل الدولة. أنا أكنّ الاحتقار لكل واحد منهم".

في المقابل، يوفّر المتحدثون من المعسكر المناهض تسويغات وتبريرات تتفهّم خطوة الطيّارين وسواهم. فرئيس الحكومة الأسبق إيهود باراك دافع عن الطيّارين مؤكداً أنهم ليسوا رافضين بل يتخذون هذا الموقف كمواطنين، وهم أصلا متطوعون في خدمة الاحتياط وليسوا ملزمين بالقيام بها. وقد أضاف في مقابلة مع "إذاعة الجيش" رداً على سؤال عن الخطر الكامن مستقبلاً في خطوتهم بالقول إن هؤلاء الضباط والجنود سيمتثلون للخدمة العسكرية في وظائفهم فوراً في حال نشبت حرب أو مواجهة.

جنرالات على طرفيّ النقاش كلّ بحسب معسكره

يشمل الجدل عسكريين سابقين أيضاً. فقد كتب نائب قائد سلاح الجو في جيش الاحتلال، سابقاً، الجنرال ران غورين في "هآرتس": "ليس عبثاً أن طواقم الطيارين في الاحتياط تقف اليوم على رأس المحتجين ضد الانقلاب الحكومي. هم أشخاص لهم مواقف ووعي سياسي واجتماعي وأخلاقي متقدم (...) ولا شك في أنهم فعلوا ذلك بعد تخبّطات نفسية صعبة ومؤلمة، ومن خلال الشعور الحقيقي بأن هذه هي الوسيلة الأخيرة التي بقيت لديهم في إزاء عملية التشريع المدمرة التي تمس بأغلى شيء لديهم (...) إن الدافع لخطوات الاحتجاج التي اتخذت هو أعمق وجوهري أكثر من صورتهم العامة ومن المس بسمعتهم الشخصية. هم يشعرون وبحق أن الدولة تتعرض لتهديد حقيقي يتمثل في تدمير الديمقراطية، التي بنيت خلال 75 سنة بروح وثيقة الاستقلال ولخطر سيطرة نظام "ديمقراطي شمولي" يشبه الديكتاتورية. سيؤثر الانقلاب الحكومي على واقع حياتهم وعلى مستقبل أولادهم. وفي كل ما يتعلق بخدمتهم العسكرية، سينهار الأساس الفكري والقيمي الذي آمنوا به وضحّوا من أجله بأنفسهم (...) حسب رؤية طياري الاحتياط ورجال احتياط آخرين فإن فرض نظام ديكتاتوري يبرر تحطيم القاعدة المقدسة لواجب الامتثال للخدمة والخضوع لتعليمات الجيش في كل الحالات".

في المقابل، فإن الجنرال في الاحتياط غرشون هكوهين، وهو مستوطن تخرّج من المدارس الدينية (ييشيفوت) المحسوبة على تيار الصهيونية الدينية، رأى في مقال نشرته صحيفة "يسرائيل هيوم" اليمينيةأن "الرفض الآن لا يأتي ضد مهمة محددة موضع خلاف، بل ضد حكومة تمثل بهويتها نزعات مهددة. ويستخدم تهديد الرفض ضدها كأداة في الصراع على سياسة الحكومة. في هذا الجانب فإن تهديداً من نوع امتناع الجنود عن الخدمة، مثله مثل إضراب الحمّالين في الموانئ، يمكن عرضه كخطوة فيها من قوة الابتزاز ما يحملها انقلاب عسكري خامل. ومنذ اللحظة التي تعتبر فيها خطوة كهذه أداة شرعية في الصراع السياسي تنهار لبنة أساسية من المؤسسة التي بني عليها مبدأ الرسمية في الجيش الإسرائيلي. والتحفظ المبدئي على مثل هذه الخطوة يجب أن يكون مشتركاً بين عموم القيادة الإسرائيلية من اليمين ومن اليسار".

يكثر خلال النقاشات المستعرة في الجدل الإسرائيلي العام اليوم التذكير بحملة رفض الخدمة العسكرية التي جاءت من صفوف اليمين، واليمين الاستيطاني خصوصاً، احتجاجاً على خطة "فك الارتباط" والانسحاب العسكري الملموس من طرف واحد من قطاع غزة وابقائه تحت السيطرة ثم الحصار المطبق في العام 2005. وكتب الصحافي شاحر إيلان في جريدة "كالكليست" مذكّراً بالوقائع: " لقد نشرت جمعية "قيادة الجدار الواقي"، بقيادة نوعم ليفنات (شقيق الزيرة السابقة من الليكود ليمور ليفنات)، رسالة عشيّة خطة فك الارتباط بتوقيع 13 ألف جندي يرفضون المشاركة في إخلاء المستوطنات. وقد عزز مؤيدو الرفض ادعاءهم باقتباس كلمات رئيس الحكومة آنذاك أريئيل شارون في فترة اتفاقيات أوسلو: ’إذا شعر الجندي بأن الأمر الذي أعطي له مخالف لضميره، فعليه أن يمثُل شخصياً أمام قائده، وشرح الأمر له والاعلان عن استعداده لتحمل العواقب’".

في هذا السياق برزت الردود التي دحضت تصريحات لنتنياهو عن فترة "فك الارتباط"، ومنها مثلا: "يمكنني أن أتعلم شيئاً واحداً، هذه المعركة لم تتجاوز الخطوط الحمراء. حينها لم نر ما نراه اليوم، المتظاهرون لم يضربوا ضباط الشرطة، ولم يدعوا إلى أعمال شغب مدنية، ولم يطالبوا بالرفض، ولم يأخذوا أموالهم من الدولة، ولم يشوهوا سمعة إسرائيل". فكتب الصحافي إيتمار آيخنر في "يديعوت أحرونوت" أنه "خلافاً لما قاله رئيس الحكومة نتنياهو - فخلال فترة فك الارتباط كانت هناك دعوات للرفض. وازدادت الخشية داخل الجيش من رفض الجنود المتدينين لأمر الإخلاء بعد صدور فتوى للحاخام أبراهام شابيرا الذي قارن الأمر بإخلاء المستوطنات بأمر تدنيس السبت أو عدم فرض القيود المتعلقة بالأكل المحرّم. كما نشر عدد من الأكاديميين بعد ذلك مقالات تدعو إلى رفض أمر الإخلاء".

مثال يلخّص اختلاف المواقف 

باختلاف المصالح والمواقع

الجنرال في الاحتياط دان حالوتس، الذي كان رئيساً لهيئة أركان جيش الاحتلال خلال "فك الارتباط" – وقائداً لسلاح الجو أيضاً قبل ذلك - قال مؤخراً إنه يتفهّم من لا يخدم في الجيش إذا قام نظام دكتاتوري في إسرائيل. وأضاف في مناسبة أخرى أنه إذا تم تمرير قوانين الانقلاب القضائي فإنه لن يمتثل للخدمة العسكرية حتى لو قامت حرب.

موقع "ميدا" اليميني الذي يلعب دوراً بارزاً في الترويج لأفكار تيّار الصهيونية الدينية وجّه إليه لسعات واضحة حين كتب: "في الماضي عرف الجيش الإسرائيلي كيف يتعامل بشكل حاسم مع مظاهر الرفض. على سبيل المثال، أبلغ رئيس الأركان خلال فك الارتباط والعضو الكبير في هيئة الأركان العامة للانقلاب اليوم، دان حالوتس، لجنة الخارجية والأمن بعد فك الارتباط، عن رفض 63 جندياً وضابطاً المشاركة فيها، 53 قبل العملية وعشرة خلالها، وكان أحدهم برتبة رائد. وبحسب حالوتس، تم تقديم جميع الرافضين لإجراءات تأديبية وحكم عليهم بالسجن من 21 إلى 28 يوماً، وتم تقديم بعضهم للمحاكمة أمام محكمة عسكرية".

في 24.09.03 أرسل 27 طياراً وطياراً سابقاً عريضة إلى قائد سلاح الجو في حينه، حالوتس نفسه، أعلنوا فيها أنهم لن يشاركوا في طلعات هجومية في الأراضي الفلسطينية. ومما كتبوه: "نحن، الطيارين السابقين والطيارين الفعليين على حد سواء، الذين خدموا وما زالوا يخدمون دولة إسرائيل لعدة أسابيع كل عام، نعارض تنفيذ أوامر الهجوم غير القانونية وغير الأخلاقية، من النوع الذي تنفذه دولة إسرائيل في المناطق (الفلسطينية). نحن الذين نشأنا على حب دولة إسرائيل والمساهمة في المشروع الصهيوني، نرفض المشاركة في الهجمات الجوية على التجمعات السكانية المدنية. ونحن، الذين يشكل الجيش الإسرائيلي والقوات الجوية جزءاً لا يتجزأ منا، نرفض الاستمرار في إلحاق الأضرار بالمدنيين الأبرياء. هذه الأعمال غير قانونية وغير أخلاقية، وهي نتيجة مباشرة للاحتلال المستمر الذي يفسد المجتمع الإسرائيلي بأسره، واستمرار الاحتلال يضر بشكل خطير بأمن دولة إسرائيل وقوتها الأخلاقية".

يومها ردّ حالوتس: "نحن في جيش إنساني أخلاقي لا مثيل له. هذا رفض سياسي (...) الرفض السياسي هو بيت الداء والخطر على هذه الأمة"، وقرر لاحقاً فصل اثنين من الطيارين النشطين من سلاح الجو. 

في المحصلة الأخيرة، فإن السؤال كان وما زال في إسرائيل ليس متعلّقاً بفعل الرفض نفسه كمبدأ، بل بدوافعه ومضمونه. ومثله الجواب أيضاً، متعلّق بالعقائد والمصالح.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات