المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

في كل جولة انتخابات إسرائيلية جديدة، يلمع نجم أحد الجنرالات السابقين، ويُقدَّم للرأي العام على أنه الشخصية المركزية التي تستطيع أن تحسم الانتخابات، وتحدث الفارق المطلوب الذي قد يكسر حالة الجمود الناجمة عن التعادل بين المعسكرين.

في جولة الانتخابات المقبلة في تشرين الثاني القادم، يحتل رئيس الأركان السابق للجيش الإسرائيلي الجنرال غادي أيزنكوت مكان الصدارة لكونه الشخصية الأكثر طلبا من قبل الكتل والأحزاب، بحيث صنفته كثير من وسائل الإعلام الإسرائيلية على أنه الشخصية المرغوبة، والأكثر جاذبية في هذه الانتخابات. فعلى

الرغم من أنه لم يعلن رسميا نيته الترشُّح، إلا أنه تلقى عروضا من أحزاب ذات توجّهات سياسية مختلفة، سواء من اليمين مثل حزب "أمل جديد" الذي يترأسه جدعون ساعر قبل اندماجه مع بيني غانتس، وأحزاب يمين الوسط، مثل حزب "أزرق أبيض" الذي يتزعمه بيني غانتس، وكذلك من حزب "يوجد مستقبل" الذي يتزعمه رئيس الحكومة الحالي يائير لبيد الذي تسلم منصبه في ذروة الحملة الانتخابية، ويبدو في أمسّ الحاجة إلى شخصية أمنية ذات ثقل وخبرة عسكرية ليعزز بها قائمته، وحتى اليسار الإسرائيلي مثل حزب العمل، وفق ما نشره موقع "بحدري حداريم" الذي قال في تقرير له نشره في 14-07-2022 إن السباق على قلب أيزنكوت "قد وصل إلى حد ممارسة الضغط عليه أحيانا"، وخاصة بعد إعلان وزير الدفاع غانتس ووزير العدل جدعون ساعر عزمهما خوض الانتخابات القادمة ضمن قائمة واحدة تضم حزبيهما معا تحت مسمى "أزرق أبيض- أمل جديد".

أيزنكوت الذي يعي جيدا عمق الأزمة السياسية التي تمر بها إسرائيل، ويعرف تركيبة الأحزاب وتعقيدات العلاقات بين قادتها ومكوِّناتها، وتداخل برامجها، وكون كل هذا يأتي في ظل تصاعد التهديدات والمخاطر والتحديات التي تعيشها إسرائيل وتتطلب منها الحسم في قضايا مصيرية، يكتفي في هذه المرحلة بالاجتماع بممثلين عن الأحزاب المختلفة والاستماع إلى العروض المقدمة بدون إعطاء موقف واضح إذ اكتفى بإصدار إشارة عابرة أطلقها في خطاب له أمام مركز أبحاث الأمن القومي في 12-7-2022 قال فيها إنه "عندما يكون لديّ ما أتحدث به سأقوله"، تاركا بذلك باب التنافس مفتوحا على مصراعيه.

الجنرال الغامض

الغموض في موقف غادي أيزنكوت حول نواياه وخططه للانتخابات القادمة، وفي أي قائمة يمكن أن يخوضها، ليس فريدا وغريبا لمن يعرفون تركيبته وشخصيته ومواقفه من القضايا العامة الداخلية والأمنية والسياسية.

ولد غادي أيزنكوت ذو الأصول المغربية في مدينة طبريا العام 1960 والتحق بالجيش في العام 1978 في وحدة جولاني، ترقّى أثناء خدمته العسكرية على سلم الرتب، وشغل مواقع مهمة في الجيش أبرزها موقع السكرتير العسكري لاثنين من رؤساء الحكومة اللذيْن يتمتعان بخلفية وماضٍ عسكري مرموق، وهما إيهود باراك وأريئيل شارون، قبل أن يصبح رئيسا للأركان في العام 2015.

يعد أيزنكوت في نظر خبراء الإعلام والعلاقات العامة شخصيةً رماديةً وغير واضحة المعالم، وهذا بقدر ما يجعله بعيدا عن الأضواء وغير ذي تأثير ظاهر، بقدر ما يجعله مرغوبا لدى طيف واسع من الأحزاب.

وفي هذا السياق يصف الخبير الاستراتيجي موشي كلوجهافت الذي قدم استشارات إعلامية ودعائية لأحزاب يسارية في أوروبا، أيزنكوت بأنه شخصية "رمادية ومحبة للعمل"، وهذا يجعل منه أسيرا لخيارات سياسية محدودة وواضحة، وهو ما دفعه إلى نصحه بأن يحسم أمره في معسكر اليسار. وهذا التوصيف يؤكده الخبير الاستراتيجي روني ريمون إذ يصف أيزنكوت بأنه شخص غير ميال للظهور و"يتمتع بمظهر غير بطولي"، وهي صفة قد تؤهله لأن يدخل عالم السياسة وأن يستجيب لتطلعات الجمهور الذي يبحث عن شخصية متوازنة وغير متحمسة.

يختلف مع هذا التقييم خبير استراتيجي آخر هو ليئور حوريف، الذي سبق له العمل مستشارا في حملة كل من إيهود أولمرت وأريئيل شارون الإعلامية والدعاوية، إذ يرى أن "طبيعة أيزنكوت الهادئة لا تؤهله لأن يصمد أمام شخصية قوية وهجومية مثل بنيامين نتنياهو" معتبرا أن أيزنكوت يحتاج الى "ثورة داخلية وفي شخصيته، قبل أن يتمكن من إحداث التغيير المأمول في عالم السياسة".

في تقرير نشرته القناة 12 قبل عامين (2020) وفي ذروة البحث عن بديل قادر على الإطاحة بنتنياهو، وعشية تشكيل تحالف "أزرق أبيض"، لمع نجم أيزنكوت، كما يحدث في هذه الأثناء، غير أنه بدا مترددا وغير متحمس و"لا شهية لديه لخوض التجربة"، وفق تعبيره.

في العام نفسه (2020) اختير أيزنكوت من قبل مجلة "ذي ماركر" ضمن أكثر 100 شخصية مؤثرة في إسرائيل، ولكن وجوده ضمن هذه القائمة لم يعوّض عن التركيبة غير المشجعة سياسيا لشخصيته، إذ اعتبرته المجلة التي نشرت أسماء الشخصيات المائة "أنه ملمّ في تخصصه، ويبدو شخصية حذرة جدا، ويتجنب الخروج عن السكة ولا يحمل جينات خوض الحروب في الشوارع التي يحتاجها السياسيون"، ومع ذلك وعلى الرغم من علامات الضعف القيادية لديه "إلا أنه يصلح أن يكون الرقم 2 وعاملا داعما لأي قائمة يتواجد فيها".

التقرير الذي نشرته القناة 12 نشر شهادات زملاء أيزنكوت في الخدمة العسكرية، وتم إعداد استطلاع رأي عام خاص به حول أهليته لقيادة الدولة، ليتضح منها جميعها أن طبعه الهادئ وتجنبه اتخاذ مواقف حاسمة أو توجيه انتقادات علنية للمسؤولين، والتقليل من الظهور الإعلامي وتمسكه بالخطاب الرسمي في ظل وجود منافسين من أوساط الجيش (جنرالات) مثل جابي أشكنازي وبيني غانتس، جعلت حظوظه وتأثيره شبه معدوم، وهو ما قد يكون السبب وراء تنازله عن خوض الانتخابات في الجولات السابقة.

تردد أيزنكوت لا يتعلق فقط بالقرار المتعلق بالانخراط في الحياة السياسية، بل وفي أي حزب أو قائمة سيخوض هذه المنافسة، فالقناة 13 التي كانت أول من نشر في 8-6-2022 عن نية أيزنكوت "وفق مقربين منه" التنافس في الانتخابات القادمة والإعلان عن ترشحه فور حل الكنيست، شددت على أنه لا ينوي أن يخوض هذه الانتخابات بشكل منفرد، أو في قائمة مستقلة بل ضمن حزب قائم، وهو ما يعكس عدم ثقته بنفسه وعدم امتلاكه رؤية أو برنامجا واضحا في القضايا السياسية والاجتماعية على حد سواء.

هذه الصفات جعلت غادي أيزنكوت شخصية مطلوبة لأنه لا يمثّل تهديدا مستقبليا لزعامة أي قائمة يتواجد فيها، بالإضافة إلى أن وجوده سوف يشكل إضافة نوعية بحكم تاريخه العسكري وسمعته الجيدة والتقدير الذي يحظى به بسبب حذره السياسي، خصوصا لدى يائير لبيد الذي يحتاج إلى شخصية أمنية إلى جانبه في سياق تنافسه على رئاسة الحكومة في الجولة القادمة التي يخوضها لأول مرة من موقع رئيس الحكومة.

مواقف أيزنكوت السياسية

معروف عن غادي أيزنكوت انه مولع بالتاريخ والفلسفة إلى الدرجة التي وصفه فيها المحلل السياسي بن كسبيت بأنه "فيلسوف ومؤرخ مسجون في حياة جنرال"، ورغم أنه مقلّ في المقابلات الإعلامية إلا أنه ومن المقابلات القليلة التي أجراها أيزنكوت بعد إنهاء خدمته العسكرية يمكن التعرف على رؤيته السياسية بشكل أوضح، وخاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية وايران، وآلية اتخاذ القرارات في القضايا المصيرية، وموقفه من الفلسطينيين في الداخل، والتي كان أبرزها المقابلة المطوّلة التي أجراها معه بن كسبيت في صحيفة "معاريف" في 22-1-2022 وعبّر فيها عن أولويته التي تتمثل في رأب الصدع الداخلي المتمثل في عدم المساواة، والتراخي في حالة التضامن الاجتماعي، والفجوة بين المركز والأطراف وهو التهديد الذي وصفه بانه "أخطر من التهديد الإيراني وتهديد حماس"، لأنه "يمس المناعة الداخلية التي تعتبر مركّبا عضويا في الأمن القومي الإسرائيلي".

عارض أيزنكوت عملية الانسحاب من الاتفاق النووي الايراني التي دفع باتجاهها رئيس الحكومة السابق بنيامين نتنياهو من خلال التأثير على الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب واعتبر أن هذه الخطوة "خطأً استراتيجي".

تأتي في القضية الفلسطينية الترتيب التالي لدى أيزنكوت من حيث الأهمية، وهو يدعو إلى حلها لأنه "لم يولد بعد الفلسطيني الذي يوافق على التنازل عن 100% من أراضي 67" وأن هذا سيقود الى "كارثة" حل الدولة الواحدة، وهو ما سيعني عمليا "هدم الحلم الصهيوني".

لم يكتف أيزنكوت بانتقاد غياب سياسة "أمنية" ثابته تجاه الحل مع الفلسطينيين، وهو يرى أن الاتفاقيات مع الدول العربية لا تلغي الحاجة إليه كونه يعدّ "نصف الكأس الأخرى" الفارغة، بل تجرأ وطرح أفكارا تحدد ملامح الحل الذي وصفه "بالانتقالي" سيمتد على مدى ما بين ثلاث إلى خمس سنوات تكون كل من مصر والأردن ودول الخليج والولايات المتحدة شريكة فيه.

يتضح أن مواقف أيزنكوت لم تخرج عن كونها أفكارا عامة وانطباعات، ولا ترقى إلى كونها برنامجا واضح المعالم، وأجندة تجعله قادرا على خوض انتخابات من أجل فرضها لكونها لا تميزه كثيرا عن شخصيات عسكرية سبقته إلى ميدان السياسة.

جاذبية العسكر

ما يقلل من حظوظ أيزنكوت وجاذبيته ليس افتقاده لرؤية واضحة وطريق ثالث يعطي بارقة أمل لجمهور الناخبين، ولا تردّده وعدم حسم خياراته الحزبية وتحالفاته والإطار الذي سيخوض المنافسة من خلاله، بل أيضا تراجع شعبية الجنرالات في السياسة الإسرائيلية، وأفول بريقهم مع تصاعد قوة اليمين وأيديولوجيته المتطرفة والتغيرات التي يشهدها المجتمع الاسرائيلي.

وقد نشر أرييه إلداد، الصحافي اليميني، مقالا في صحيفة "معاريف" بتاريخ 18-6-2022 تحت عنوان " لم نتعلم من أخطاء باراك ورابين" اعتبر فيه أن الجمهور اكتشف "عشرات المرات أن جنرالا مبجلا في الجيش، يمكن أن يكون غبيا سياسيا، وجبانا في القضايا المدنية، وخيبة أمل كبيرة" وهو يقصد بذلك رؤساء الأركان الذين أصبحوا رؤساء حكومة مثل إيهود باراك الذي اعتبر الجندي رقم واحد، ورئيس أركان وقائدا عسكريا من الطراز النادر، لكنه فشل سياسيا واجتماعيا، وكذلك الأمر مع إسحق رابين الذي "أوقع علينا كارثة اتفاق أوسلو" وفق تعبيره.

الكاتب إيتان أوركيفي نشر مقالا في "يسرائيل هيوم" بتاريخ 1-7-2022 اعتبر فيه أن اليمين متفوق الآن في الكنيست بسبب نزعته اللاعسكرية، وتفضيله سياسيين وقادة من الميدان بدل الجنرالات وخريجي المؤسسة الأمنية، وأن "النزعة العسكرية تصيب السياسة الإسرائيلية، وترفض مغادرتها بسبب أحزاب (الوسط واليسار) التي تدّعي أنها تريد إنقاذ الديمقراطية بينما تفرش بساطا أحمرَ تحت أقدام القادة العسكريين، وهم أشخاص كل مسار حياتهم الاجتماعي والمهني والتنظيمي من سن 18 حتى التقاعد كان في أجواء انضباط شمولية وهرمية صارمة وتلبية الأوامر".

وفي 3-1-2021 كان الصحافي والمحلل السياسي شالوم يروشالمي قد نشر في "مكور ريشون" مقالا بالروحية نفسها، والغريب أنه اقتبس فيه أيزنكوت "ليس كل جنرال مضطر لأن يدخل عالم السياسة" خلص فيه إلى أن أيزنكوت سيحسن صنعا اذا ما تمسك بقراره عدم الخوض في السياسة، خاصة بعد أن شاهد "كيف تحول سلفه بيني غانتس من أمل كبير إلى مجرد دمية سياسية"، معتبرا أن هذه "الساحات مختلفة جدا وتحتاج إلى مهارات مناقضة تماما لتلك التي يحتاجها الجنرالات".

الإشارة الأوضح في بلورة هذا الاتجاه لدى الرأي العام الاسرائيلي الذي فقد خاصية الانجذاب التي ميزته في الماضي تجاه القادة الأمنيين عبر عنها الكاتب موشي مئيرسيدروف في موقع "مكور ريشون" في 9-6-2022 حيث اعتبر أن إسرائيل "نضجت" على ما يبدو وأن التغريدات في تويتر لا تظهر التلهف لدخول" جنرال آخر للسياسة" وأن هذا يبعث "على التفاؤل".

وحول أسباب "عدم اللهفة" التي يقابل بها خبر انضمام جنرال جديد إلى عالم السياسة يقول مئيرسيدروف إنه "قد يكون بسبب الذاكرة وما علق بها من آخر حزب ضم ثلاثة جنرالات معا اثنان منهم يجلسون الآن في البيت" وهو يقصد هنا موشي (بوغي) يعالون وجابي أشكنازي، أو ربما "أننا نكتشف عند دخول الجنرالات إلى حلبة السياسة أن تحريك كتيبة مصفّحة أمر أبسط من عرض رؤية سياسية واضحة".

أيزنكوت في استطلاعات الرأي العام

فور إعلان مقربيه نيته الانضمام إلى الحياة السياسية، نشرت القنوات الإسرائيلية الرئيسة استطلاعات للرأي العام لفحص مدى تأثير دخوله الحلبة السياسية على خارطة الكتل وقوة الأحزاب، خاصة بعد إعلان بيني غانتس وجدعون ساعر التوحد وخوض الانتخابات في قائمة واحدة.

الاستطلاعات التي تم قياس وزن أيزنكوت الانتخابي فيها جاءت في وقت واحد بتاريخ 11-7-2022، أي بعد يوم واحد من إعلان مقربي أيزنكوت عزمه خوض الانتخابات.
استطلاع القناة 11 أظهر أن انضمام أيزنكوت الى قائمة غانتس/ ساعر سيمنحها ثلاثة مقاعد فقط أي 17 مقعدا بدل 14 وأن هذه المقاعد ستأتي على حساب كل من لبيد (مقعدان) والليكود (مقعد)، وهو ما لن يؤثر على حجم الكتل، علما أن هذا يعتبر رقما متفائلا كونه يأتي في بداية السباق الانتخابي الذي قد يتراجع مع الوقت.

واستطلاع القناة 12 منح يائير لبيد مقعدا إضافيا واحدا (24 مقعدا) في حال انضم إليه أيزنكوت وهو أيضا أثر هامشي.

معضلة أيزنكوت أن كل العوامل لا تجعل منه شخصية مؤثرة رغم التسابق على اجتذابه والذي نشهده من قبل أحزاب عدة، خاصة في حال اشتراطه دخول عدد من مقربيه إلى أي قائمة يختار أن يلتحق بها.

ولعلّ التفسير الحقيقي لوزن أيزنكوت ليس في كل العوامل التي ذكرت، بل في الفراغ الذي تعاني منه الحلبة السياسية في إسرائيل وشدة المنافسة بين مكوناتها وعدم قدرة أي طرف على حسم المعركة لصالحه، وهذا يجعل أي تغير مهما كان هامشيا عاملاً مساعداً في محاولة كسر الجمود وإحداث الاختراق المطلوب.

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات