المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
الأسرى الإسرائيليون الأربعة لدى حركة حماس. (صحف)
الأسرى الإسرائيليون الأربعة لدى حركة حماس. (صحف)

نشرت حركة حماس تسجيلاً مصوّراً يظهر فيه مواطن إسرائيلي من أصول عربية اسمه هشام السيّد تقول إنه مُحتجز لديها، وتطالب إسرائيل بأن تشمله ضمن صفقة تبادل أسرى مرتقبة. ويضاف السيد إلى ثلاثة إسرائيليين آخرين مُحتجزين لدى حماس هم: أبراهام منغستو (من أصل أثيوبي، تدّعي إسرائيل أنه مواطن مدني "مُختلّ عقلياً")، أورون شاؤول (وهو جندي إسرائيلي تدّعي إسرائيل أنه قُتِل في العام 2014)، وهدار غولدين (ضابط إسرائيلي وقع في أسر حماس، ادّعت إسرائيل بعد ذلك أنه مقتول). بعد نشر مقطع الفيديو الخاص بالسيّد، توالت الأخبار والتحليلات التي تفيد بأن إسرائيل غير معنية بتحريك ملف المخطوفين الإسرائيليين لدى حماس طالما أن المخطوفين الذي تبقّوا على قيد الحياة (بحسب الرواية الإسرائيلية) هما مواطنان ليسا من أصول غربية (أشكناز)، وقد لا يشكّلان عامل ضغط من قِبَل الشارع الإسرائيلي كما لو كان الأمر في حال أن المخطوف هو جندي على قيد الحياة وينتمي إلى طائفة أو إثنية "مرموقة" مثل الأشكناز.

تسلّط هذه المساهمة الضوء على ملف الإسرائيليين المحتجزين لدى حماس، لكنها تركز على مسألة أخرى مهمة قلّما تم تناولها، وهي كيف تُصنّف إسرائيل، وبالتحديد الجيش الإسرائيلي، الجنود الذين يتم احتجازهم؟ وما هي تبعات كل تصنيف؟

باستمرار، هناك جنود إسرائيليون يتم تصنيفهم كـ"غائبين" عن وحداتهم. ثمّة أسباب عدة تتكرر، وتستدعي أن يقوم الجيش باتخاذ إجراءات مختلفة: فقد يكون الجندي قد هرب من الوحدة أو الكتيبة أو حتى من منزله عن قصد (أي تسرّب من الخدمة)، أو قد يكون قد أصيب من نيران صديقه أثناء التدريب أو أصاب نفسه (مفقود أثناء تدريبات)، أو ربما يكون لا يزال في موقعه، أو وحدته، لكنه لم يظهر أثناء الفحص أو أثناء عرض الجنود أمام قائدهم. هذا يعني أن الخيارات مفتوحة لكل الاحتمالات.
كل هذه الاحتمالات تجعل من الجندي "جنديا مختفيا" (بالعبرية "نعلام"). لكن أثناء الأعمال الحربية، قد تكون الحالة مختلفة تماماً؛ فالجندي في هذه الحالة يُعتبر "جنديا مفقودا" (بالعربية "نعدار")، وبالتالي قد يكون للأمر تداعيات خطيرة بالنسبة للجيش الذي يتباهى بأن عقيدته تقوم على حماية واحترام كل جندي، وإعادته لعائلته، حتى لو كان جثة هامدة.

لقد ثارت انتقادات دولية حادة، وكذلك إسرائيلية، وحتى انتقادات من داخل مؤسسة الجيش نفسها على ما بات يُعرف باسم إجراء "هنيبعل"؛ وهو إجراء دخل إلى الخدمة العام 1986 ويتم فرضه من قِبل رئاسة هيئة الأركان الإسرائيلية في حال تم اختطاف جندي. ويهدف الإجراء إلى إفشال عملية الخطف بأي ثمن، من خلال فتح النيران بكثافة شديدة في نطاق المكان الذي تمّت فيه عملية الخطف وتهديد حياة الخاطفين والمخطوفين على حدٍ سواء. لقد تم إلغاء إجراء "هنيبعل" العام 2017 على يد قائد أركان الجيش حينها غادي آيزنكوت، ليس لكونه غير أخلاقي؛ وإنما لأن الجنود على الأرض لا يُطبّقون، أو لا يفهمون، شراسة الإجراء كما يريده قادة الجيش. لكن ما يهم هنا، هو أن هذا الإجراء يهدف إلى الوصول إلى واحدة من نتيجتين: إما إفشال عملية الخطف، أو قتل الجندي المخطوف عند قتل أكبر عدد ممكن من المقاومين. وهذا يُعدّ إنجازاً بالنسبة للجيش الإسرائيلي؛ إذ إن جنديا مخطوفا حيّا، يختلف كل الاختلاف عن جندي مخطوف ميت.

بناءً على ما تقدّم، لا بد من توضيح تصنيفات الجيش الإسرائيلي لحالة الجنود الضائعين أو المخطوفين، وما هي تداعيات هذه التصنيفات على مؤسسة الجيش والمجتمع الإسرائيليين. على الأقل، هناك أربعة تصنيفات يستخدمها الجيش الإسرائيلي في ما يتعلّق بجنوده الذين تم إرسالهم إلى المعارك ولم يعودوا منها، وهي: جندي في الأسر (بالعبرية: "شافوي")، وجندي مفقود ("نعدار")، وجندي مختف ("نعلام")، وجندي غير معروف مكان قبره ("مكوم كبوراتو لو نوداع").

1. جندي مفقود: وهو جندي إسرائيلي اشترك في معركة، وفي خِضَم الأعمال الحربية فُقدت آثاره ولا يوجد دليل قاطع على وضعه الصحي (لا يزال على قيد الحياة أو ميت). هذا التصنيف، يتم منحه بعد إجراء تحقيق سريع وعميق من قبل الجيش ثم يُرفع التقرير إلى حاخام الجيش لإطلاق هذه الصفة على الجندي. وقد يكون من المعلوم جيداً بالنسبة للجيش بأن الجندي وقع في أسر فصائل، أو جيش العدو، لكنه غير قادر على تحديد ما إذا كان على قيد الحياة أم لا. وتتبع هذا التصنيف اعتبارات دينية (مثلا، زوجة الجندي المفقود تعتبر "عغوناه"- أي امرأة "معلّقة"؛ وهي لفظة توراتية لا تتيح للمرأة الزواج أو أن تتحول إلى أرملة). كما أن للأمر اعتبارات نفسية على عائلة الجندي المفقود، بحيث أن العائلة تظلّ على أمل كبير بعودة الجندي "سالماً" بغضّ النظر عن الطريقة التي يتعامل فيها المجتمع الإسرائيلي أو الحكومة مع الأمر. مثلاً، في العام 2006 اختطف حزب الله الجنديين الإسرائيليين إيهود غولدفاسر وإلداد ريغڤ، وتم تفعيل إجراء "هنيبعل" على الفور. وبعد تحقيق أولي، قرّر الجيش أن أحد الجنود قتيل لا محالة، أما الثاني فهو "جندي مفقود" بدون أن يتمكّن من حسم مسألة أي من الجنديين هو القتيل وأيهما المفقود. وهذا الأمر جعل الاثنين بمصافِ "المفقودين"! وربّما هذا ما وضع الحكومة الإسرائيلية تحت ضغوط شديدة من قبل المجتمع الإسرائيلي وعائلات الجنود الذي اعتقدوا أن أحد المخطوفين ما يزال على قيد الحياة.
في حال استمر التحقيق لدى الجيش الإسرائيلي في مصير "الجندي المفقود"، فإن النتيجة قد تصل إلى واحدة من النتائج التالية: إما أن يظلّ "مفقوداً"، أو أن يتم الإعلان بشكل متيقّن بأنه على قيد الحياة (أي أسير)، أو أن يتم الإعلان بشكل متيقّن بأنه متوفى، أو مقتول. وفي هذه الحالة يتم تحويل تصنيفه من "مفقود" إلى "مدفون في مكان مجهول".

2. جندي "مدفون في مكان مجهول": هو توصيف يُطلقه الحاخام الرئيس للجيش، من شأنه أن يعكس موقفا رسميا لمؤسسة الجيش مفاده بأن "الجندي المفقود" هو "جندي ميت". وقد يكون الجندي المقتول بيد الفصائل أو جيش عدو (في هذه الحالة هو "قتيل مفقود" أو "مكان قبره غير معلوم" كما هي الحال في قضية الجندي أورون شاؤول الذي تم خطفه في حيّ الشجاعية بتاريخ 20 تموز 2014 قبل أن تعلن إسرائيل بشكل نهائي أنه مقتول وأن مكان قبره غير معلوم وذلك بتاريخ 25 تموز 2014). أما هدار غولدين فقد فُقدت آثاره بتاريخ 1 آب 2014 في معركة رفح، وبعد قيام الجيش الإسرائيلي بتطبيق إجراء "هنيبعل" تم الإعلان بعد 38 ساعة أنه مقتول. وحسب الجيش الإسرائيلي، هناك حوالى 566 جنديا وفق هذا التصنيف، من ضمنهم بعض قتلى الغواصة الغارقة (حوالى 69 جنديا في غرق غواصة داكار العام 1968) بالإضافة إلى حوالى 242 قتيلا في معارك النكبة.

3. الأسير، وهو تصنيف واضح جدا لا لبس فيه: في ما يخص الجنديين الأسيرين لدى حماس، فإن الجيش الإسرائيلي لم يعلن بشكل عشوائي أنهما قتيلان. فالأمر يتعلّق بأمور عدة لا بد من توضيحها على النحو التالي:

أولا: قد يكون الجيش أجرى بالفعل تحقيقا كافيا ووصل إلى أدلّة دامغة بأنهما قتيلان. بيد أن تحقيقا كهذا يُعتبر أمراً صعباً جداً خصوصاً وأن ساحة المعركة غير متاحة بشكل حرّ لفرق التحقيق الإسرائيلية، كما أن الأدلة المتوفرة لدى الجيش تنطوي على تكهنات واحتمالات ذات مستوى دلالي يتراوح بين اليقين والتشكيك.

ثانياً: إن الاحتمال الثاني هو أن إعلان القتل جاء لاعتبارات سياسية تتعلّق بعدم رغبة إسرائيل بخوض نفس معركة تبادل الأسرى مع حركة حماس، والتي تم اعتبارها نصراً كبيراً للفصائل وقضية شكّلت ضغطاً كبيراً على الحكومات الإسرائيلية كون الجندي الأسير السابق (جلعاد شاليت) كان على قيد الحياة.

بناءً على ما تقدّم؛ فإن التقرير في ما إذا كان تحقيق الجيش الإسرائيلي هو نهائي وقاطع، يعتمد إذاً على طبيعة التحقيق وقدرة الجيش على التحكّم بنتائجه لتحقيق غايات سياسية تُحيّد قدرة حماس على المناورة الفعّالة. في هذا السياق، ستبقى الكرة في ملعب الفصائل في غزة لإجبار الجيش على العودة عن قراره المتعلّق بمقتل الجنديين.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات