المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

سجل القوانين الإسرائيلي لا يتضمن تشريعاً يحظر ارتكاب جرائم حرب ويعاقب عليها باعتبارها كذلك

صدر مؤخراً عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- "مدار" العدد رقم 63 من سلسلة "أوراق إسرائيلية" ويحمل عنوان "جرائم الحرب في القانون الإسرائيلي - مخالفات عادية".

ويضم هذا العدد تقريراً أصدرته منظمة "يش دين" ("يوجد قانون") الإسرائيلية (وهي منظمة متطوعين لحقوق الإنسان)، في تشرين الأول 2013، يعتبر الأول من نوعه تحت عنوان غني بالدلالات هو: "ثغرة - جرائم الحرب في القانون الإسرائيلي وفي قرارات المحاكم العسكرية"، يتوصل إلى خلاصة مركزية مؤداها الدعوة إلى "إجراء تعديل قانوني (سنّ قانون خاص) يتيح إمكان إجراء محاكمات في إسرائيل بتهمة ارتكاب جرائم حرب". ويستعرض التقرير الوضع القانوني السائد في إسرائيل مؤكداً أن ثمة "ثغرة" قانونية كبيرة في كل ما يتصل بتعريف وتحديد جرائم الحرب وبإمكانيات محاكمة المتورطين في هكذا جرائم طبقا للقوانين الإسرائيلية في المحاكم المحلية، سواء المدنية منها أو العسكرية.

وقال مُعدّ التقرير، ليئور يفنه: "كانت دولة إسرائيل واحدة من الدول الرائدة في سن تشريع يحظر قتل شعب، لكنها من بين الدول القليلة في العالم الديمقراطي التي لم تسن لغاية اليوم قوانين تدين جرائم الحرب. إن نتائج التقرير تستوجب تشريعا يعرّف جرائم الحرب ويعاقب عليها بهذه الصفة".

وثبّت معدّ التقرير، في مستهله، موجزا تلخيصيا لما يتضمنه، في محاولة لتبيان خطوط المسألة وحدودها، خلفياتها والحاجة إلى الخوض فيها، جاء فيه:

تعتبر جرائم الحرب، في عُرف الأمم، واحداً من أصناف الجرائم الأشدّ خطورة وتندرج في إطار "الجرائم الدولية" ـ أي الجرائم التي تمسّ منظومة القيم المشتركة للمجتمع الدولي بأسره، والتي تعتبر ملزمة لجميع الدول وبني البشر: الجينوسايد (إبادة شعب/ الإبادة الجماعية)، جرائم الحرب، الجرائم ضد الإنسانية وغيرها. وتعمد الدول المختلفة إلى تشريع قوانين خاصة لغرض إدانة هذه الجرائم ومعاقبة مقترفيها. وقد قامت دولة إسرائيل بسن قوانين واضحة غايتها حظر ومعاقبة جريمة "الجينوسايد"، لكن سجل القوانين الإسرائيلي لا يتضمن تشريعا يحظر ارتكاب جرائم حرب ويعاقب عليها باعتبارها كذلك.

ويعرض هذا التقرير الحاجة إلى مثل هذا التشريع في إسرائيل. فهو يستعرض أحكام القانون الإسرائيلي القائمة، ويعرض نماذج من التشريعات التي تدين جرائم الحرب، ويستقصي سياسة مؤسسة "الادعاء العسكري" والعقوبات التي تفرضها المحاكم العسكرية الإسرائيلية في الحالات التي تجري فيها محاكمة جنود إسرائيليين بمخالفات قد تصل إلى حد جرائم الحرب.

كل واحد من مواثيق جنيف من العام 1949، والتي وقعت عليها دولة إسرائيل وصادقت عليها منذ السنوات الأولى على قيامها، يشمل بندا يتعلق بواجب التحقيق مع ومحاكمة كل من يقترف "انتهاكات خطيرة" للميثاق. فالبند رقم 146 من ميثاق جنيف الرابع، مثلا، يؤكد واجب الدول الأعضاء (المتبنية للميثاق) بشأن تشريع القوانين المناسبة التي تتيح التحقيق مع، محاكمة ومعاقبة كل من تثبت مسؤوليته عن ارتكاب انتهاكات خطيرة كهذه. أما لائحة المخالفات التي تشكل جرائم حرب، لدى توفر الشروط الملائمة، فيمكن العثور عليها في مواد ومرجعيات قضائية مختلفة، زيادة على معاهدات جنيف، وفي مقدمها: المعاهدات والمواثيق الدولية، دساتير الهيئات القضائية الدولية المختلفة، فضلا عن التشريعات والأحكام القضائية في الدول المختلفة. ومع ذلك، من المتفق عليه، عادة، اعتبار لائحة جرائم الحرب الواردة في الفصل 8 (2) من "ميثاق روما" قائمة شاملة لجرائم الحرب تحظى بقبول دولي واسع.

ومع تطور القانون الجنائي الدولي، اتساع استخدام واعتماد مبدأ صلاحية القضاء الدولي بشأن الجرائم الدولية وترسخ عمل المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، يجدر التذكير بأن مبدأ "التكامل" يوفر الحماية للضالعين المحتملين في تنفيذ جرائم دولية من مغبة تعرضهم لدعاوى جنائية ومحاكمات، طالما كانت أجهزة تطبيق القوانين في دولتهم تقوم بدورها، ذلك أن المنظومة الدولية تمنح الدولة الأم وإجراءاتها القضائية حق الأولوية. وعليه، فإن النظام القضائي الذي يؤدي واجبه، ويعتبره مراقبون أجانب كذلك، يمثل مصلحة عليا لكل معنيّ بحماية الإسرائيليين من أي تدخل قضائي أجنبي.

تعتمد الدول والأعراف القضائية المختلفة طرقا شتى لتشريع قوانين تدين الجرائم الدولية، ومن ضمنها جرائم الحرب. والفصل (أ) من هذا التقرير يعرض، بإيجاز، أهم الأسس في التوجهين المركزيين المعتمدين في أنحاء العالم المختلفة بخصوص إدانة جرائم الحرب في القانون المحلي. التوجه الأول هو التشريع بمنهجية الإحالة إلى القانون الدولي. أحد المسارات (الموديلات) في هذا التوجه يتمثل في "الإحالة الساكنة": وهو أشبه بعمليتي "قـَص وإلصاق" – نقل بنود المواثيق المعمول بها في القانون الدولي ونسخها إلى القانون المحلي. وثمة مسار (موديل) آخر يدعى "الإحالة الديناميكية"، حينما تحيل بنود القانون إلى القانون الدولي العُرفي. أما التوجه المركزي الآخر، فهو التشريع المستند إلى القانون المحلي. أحد المسارات في هذا التوجه يتمثل في دمج تشريع خاص في القانون المحلي: قانون منفصل يُدرج الجرائم الدولية في القانون المحلي، أو بدلا من ذلك، سنّ بنود قانونية كجزء لا يتجزأ من سفر القوانين الجنائية القائم. وتعتبر دولة إسرائيل ضمن مجموعة صغيرة من الدول التي تعتمد مسارا آخر: إنها الدول التي تصرّح بأن قانونها الجنائي يتضمن جوابا قضائيا على جرائم الحرب. غير أن هذا الموقف يتنافى مع التوجه الشائع لدى أغلبية الدول بشأن الحاجة إلى وضع تشريعات مخصصة لهذا المجال.

بعض المخالفات المنصوص عليها في قانون العقوبات الإسرائيلي يوازي، من حيث المبدأ، حقا، المخالفات التي تصل (في حال توفر الملابسات الملائمة) إلى حد جرائم الحرب. من ضمنها: التسبب بالموت عمدا، إجراء تجارب بيولوجية، التسبب المتعمد بمعاناة فائقة أو بأذى للجسم أو للصحة، هدم ومصادرة ممتلكات على نحو واسع، دونما ضرورة عسكرية، وبعض المخالفات الأخرى. ومع هذا، فإن القانون الجنائي الإسرائيلي يفتقر إلى مخالفات عديدة أخرى تشكل جرائم حرب ولا يمكن تقديم متهمين إلى المحاكمة بجريرتها. القسم الأول من الفصل (ب) يستعرض الأحكام الواردة في القانون الإسرائيلي بخصوص الجرائم الدولية وجرائم الحرب. أما القسم الثاني فيعدد المخالفات المنصوص عليها في ميثاق روما، مرجعية المحكمة الجنائية الدولية، والتي يفتقر إليها القانون الإسرائيلي وبعض المبادئ الأساسية في القانون الإسرائيلي التي لا تنسجم مع مقتضيات القانون الدولي.

في قرار حكم صدر في أواخر العام 2011، أشارت رئيسة المحكمة العليا آنذاك، دوريت بينيش، إلى أنه في حال توفر شرطين اثنين، مجتمعين معا، يمكن الاكتفاء بالقانون الداخلي الإسرائيلي، من دون تضمينه أحكام القانون الدولي. الشرط الأول هو أن تعكس بنود الاتهام مدى خطورة المخالفة التي تتضمنها لائحة الاتهام، فيما الشرط الثاني هو أن تعكس العقوبة الملابسات الخاصة التي تم فيها تنفيذ المخالفة بحق مواطنين محميين. الفصل (ج) من التقرير يبيّن، من خلال فحص التعليمات المهنية الصادرة عن الادعاء العسكري وتحليل قرارات الحكم الصادرة عن المحاكم العسكرية منذ العام 2000، أن تضافر الشرطين اللذين حددتهما القاضية بينيش لا يتحقق، فعليا، في جهاز القضاء العسكري. فسياسة الادعاء العسكري تتحدد في إطار "تعليمات المدعي العسكري العام" – وهي تعليمات مهنية توجيهية للمدعين في النيابة العسكرية فيما يتعلق بسياسة الادعاء العسكري بشأن المخالفات المختلفة. ويستعرض التقرير تعليمات الادعاء العسكري العام الخاصة بمخالفات استخدام السلاح، مخالفات السرقة ومخالفات التنكيل. وبوجه عام، ليس في تلك التعليمات أي ذِكر لقوانين الحرب أو للمخالفات الدولية. وإذا ما تضمنت إشارة إلى مخالفات بحق الفلسطينيين في المناطق المحتلة، فهي تخلو من أي إشارة إلى الواجبات التي يفرضها القانون الدولي أو إلى الخطورة الزائدة التي ينبغي اعتمادها في التعامل مع المخالفات المتعلقة بالمس بمواطنين محميين وفقا لقوانين الحرب، أو في الحالات التي تثير شبهة اقتراف جرائم حرب.

في الأغلبية الساحقة من قرارات الحكم التي صدرت عن المحاكم العسكرية بشأن جنود اتُّهموا بارتكاب مخالفات بحق الفلسطينيين وممتلكاتهم، لا يمكن العثور ـ ولا حتى بواسطة عدسة تكبير ـ على أي إشارة إلى مكانة ضحايا المخالفات بوصفهم "مواطنين محميين" طبقا للقانون الدولي. فالجنود الذين تتم إدانتهم في المحاكم العسكرية بارتكاب مخالفات بحق الفلسطينيين وممتلكاتهم تـُفرَض عليهم عقوبات مختلفة يتم تبريرها بسلسلة طويلة من التسويغات. هذه التسويغات، التي تتطرق إلى اعتبارات التخفيف، أو التشديد، في عقوبات الجندي المدان، تستند بوجه عام على قرارات الحكم الصادرة عن محكمة الاستئناف العسكرية. وهي تشمل تسويغات من شتى الأصناف، لكنها لا تتضمن، عموما، أي إشارة إلى خرق الجندي واجباته تجاه المواطن المحمي في منطقة محتلة.

إحدى الحالات الاختبارية الواردة في التقرير تتناول تقديم متهمين باستخدام "الدرع البشري" إلى المحاكمة. فهذا الإجراء يعتبر جريمة حرب، لكن نظرا لعدم احتواء القانون الإسرائيلي على مخالفة استخدام الدرع البشري، تتم محاكمة الجنود المتهمين بارتكاب هذه الأعمال بتُهَم طفيفة فقط. وتعرض الحالة الاختبارية لمحاكمة ضباط وجنود في ثلاث حالات (فقط) منذ العام 2000 وحتى اليوم، وتُبيّن كيف جرت إدانة المتهمين بمخالفات طفيفة وفرض عقوبات مخففة جدا عليهم.

وتتناول الحالة الاختبارية الثانية، بالتحليل، النتائج التي أسفرت عنها محاكمة 39 جنديا بتهمة الاعتداء العنيف على موقوفين فلسطينيين كانوا، في أغلبيتهم، مكبلي الأيدي ومعصوبي الأعين. إن ممارسات الإذلال، التحقير والاعتداء الجسدي التي يقترفها ذوو الصلاحية بحق موقوفين، وخاصة المكبلين منهم، وعلاوة على كونها مخالفة للقانون الإسرائيلي، قد تشكل جريمة حرب وفقا للقانون الدولي حينما تقع على خلفية مواجهة مسلحة. ويبين الاستعراض أنه خلال الفترة الواقعة بين أيلول من العام 2000 وحتى نهاية العام 2012، تمت إدانة الأغلبية العظمى من المتهمين بالاعتداء على موقوفين مكبلين بمخالفات طفيفة عقوبتها القصوى، أصلا، قصيرة.

وفضلا عن هذا، يقضي تعديل قانوني جديد اعتمد في الأعوام الأخيرة بتقصير فترة التسجيل الجنائي للجنود الذين فرضت عليهم عقوبة السجن لفترة أدنى من حد معين. ونظرا لأن القانون الإسرائيلي يلتزم الصمت حيال جرائم الحرب، فإن هذا التعديل القانوني أيضا لا يميز بين الجنود الذين أدينوا بارتكاب جرائم حرب وبين الآخرين. وهذا التقصير الجدي في فترة التسجيل الجنائي للمتهمين المدانين بارتكاب أعمال هي بمثابة جرائم حرب يمسّ إذن بالمبدأ الذي يضفي وصمة عار شديدة على مخالفات من هذا النوع وعلى المخالفين المدانين بارتكابها. وزيادة على ذلك، يمثل هذا التعديل مساً جديا بالحماية التي يفترض أن يوفرها مبدأ التكامل للأشخاص المدانين باقتراف جرائم حرب.

ثمة دول معدودة فقط تعتمد توجها مماثلا لهذا الذي تعتمده دولة إسرائيل، والقاضي بإمكانية الاكتفاء بالقانون المحلي القائم من أجل محاكمة أشخاص متهمين بارتكاب أعمال قد تصل حد جرائم الحرب. وترى منظمة "يش دين" أنه بالنظر إلى الممارسات التطبيقية في المحاكم العسكرية، وفي غياب مخالفات جوهرية من نصوص القانون المحلي، ينبغي صياغة وتعريف مخالفات خاصة لجرائم الحرب، عبر تشريعات خاصة يتم تضمينها في سجل القوانين الإسرائيلي. وأعلنت المنظمة أنها ستعمل خلال الأشهر المقبلة، وبالتعاون مع شركاء آخرين، من أجل وضع "مسودة قانون خاصة سيكون من شأنها، إذا ما أقرت، وضع إسرائيل في مصاف الدول التي تعهدت ببذل كل ما في وسعها بغية اجتثاث جرائم الحرب من جذورها وحماية ضحاياها".

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات