المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

التناقض بين المتدينين والعلمانيين يحتل مكانة التناقض الرئيسي في المجتمع الإسرائيلي، إذا نحينا جانبا التناقض الخارجي المتعلق بالصراع مع الفلسطينيين والصراع العربي ـ الإسرائيلي عموما..

مجددا، كشفت المعركة الانتخابية في إسرائيل عن عورات النظام السياسي فيها وبيّنت حجم التناقضات الموجودة في إطار المجتمع الإسرائيلي، لا سيما بين المتدينين والعلمانيين والشرقيين والغربيين واليمين واليسار واليهود والعرب، وعلى ذلك فقد أظهرت هذه الانتخابات الدولة العبرية على حقيقتها بوصفها دولة أمنية وظيفية مصطنعة، برغم من مرور أكثر من نصف قرن على إنشائها.

فمثلا أفادت استطلاعات الرأي عن تراجع ما في مكانة حزب الليكود، حيث كان، قبل شهر فقط، يحظى في الاستطلاعات على 40 مقعدا، وإذا به مؤخرا يراوح بين 27 ـ 32 مقعدا في الاستطلاعات. واللافت أن هذا التراجع حصل على خلفية فضائح الفساد والرشاوي، التي طاولت العديد من قادة الحزب وفي مقدمتهم زعيمه اريئيل شارون وولداه عومري وجلعاد، والتي أظهرت الحلبة السياسية الإسرائيلية باعتبارها حلبة للوجهاء والمغامرين والزعران وزعماء المافيا، الذين يمكنهم بوسائل النفوذ والفهلوة والمال شراء مقعد في الكنيست الإسرائيلي، بحيث ظهرت مثلها مثل أية جمهورية "موز"، وليس كما تدعي بكونها "واحة" للديمقراطية في الشرق الاوسط.

المهم، أيضا، أن التطور المتمثل بتراجع مكانة الليكود، بين الإسرائيليين، عكس ظاهرة من الصعب تفسيرها، فقبل شهر فقط كانت استطلاعات الرأي تمنح هذا الحزب 40 مقعدا في الكنيست القادمة، بسبب الشعبية الكبيرة التي حازها زعيمه شارون، والتي لم يحظ بمثلها رئيس وزراء قبله (عدا بن غوريون)، على رغم أن إسرائيل شهدت في عهده مقتل أكبر عدد من الإسرائيليين كما شهدت تدهورا كبيرا في أوضاعها الاقتصادية، وإذا بفضيحة مالية تطيح بكل ذلك وتؤدي إلى تدهور مكانة الحزب ومكانة شارون نفسه، الذي بات وكأنه في اللحظات الأخيرة من عمره السياسي. وتلك هي الملاحظة الأولى.

الملاحظة الثانية تتعلق بهذا التصارع بين التيارين الديني والعلماني وبينما لفت الانتباه في الانتخابات السابقة الصعود الصاروخي لحركة "شاس" (للمتدينين الشرقيين) التي احتلت موقع الحزب الثالث في الكنيست الإسرائيلي مع 17 مقعدا، إذا بحزب "شينوي"، الذي ليس له في الكنيست الحالية سوى ستة مقاعد، يصعد صعودا صاروخيا هو الآخر بحسب استطلاعات الرأي التي ترجح احتلاله موقع الحزب الثالث في الكنيست القادمة مع 15 ـ 17 مقعدا.

وبكل الأحوال فإن هذا التحول يعكس الاستقطاب بين الإسرائيليين، بسبب الخلافات بين المتدينين والعلمانيين. ومن المعروف أن حزب شينوي يرفض المشاركة بأية حكومة يدخلها المتدينون، كما أنه يطالب بتخليص الدولة من كل الالتزامات المتعلقة بالمسألة الدينية، ومن ضمن ذلك قوانين الأحوال الشخصية والعمل يوم السبت وموازنات المدارس الدينية. ولكن مشكلة العلمانيين أنهم لا يستطيعون الذهاب بعيدا في اطروحاتهم بحكم الطابع الملتبس للحركة الصهيونية ووليدتها إسرائيل، فهي علمانية ـ ويهودية، وبحكم أن "القومية" اليهودية هي في الأصل هوية دينية. ومعلوم أن التناقض بين المتدينين والعلمانيين يحتل مكانة التناقض الرئيس في المجتمع الإسرائيلي، إذا نحينا جانبا التناقض الخارجي المتعلق بالصراع مع الفلسطينيين والصراع العربي ـ الإسرائيلي عموما.

الملاحظة الثالثة، تتعلق بحزب العمل فهذا الحزب خسر كثيرا في ظل رؤسائه السابقين ايهود باراك وشمعون بيريز وبنيامين بن اليعازر، الأول بسبب تعاليه وفرديته وتردده تجاه التسوية واختياره الصدام مع الفلسطينيين، والثاني بسبب ضعفه وتقلباته، والثالث بسبب تحويله الحزب إلى ليكود (ب) بعد أن رضي الانخراط في حكومة "الوحدة الوطنية" الشارونية والاستمرار فيها طوال عامين.

لذلك يبدو من الصعب على زعيم الحزب الحالي، القادم من خارج المؤسسة القيادية التقليدية، أن يرسخ زعامته بين الجمهور الإسرائيلي، رغم كل الاطروحات المتقدمة نسبيا التي يطرحها، لا سيما في الظروف التي يحتدم فيها الصراع مع الفلسطينيين. ويبدو أن المكسب الوحيد الذي يمكن أن يحققه متسناع في الانتخابات القادمة هو الحؤول دون استمرار تدهور الحزب والحفاظ على حجمه في الكنيست الإسرائيلي (24 مقعدا). ولا شك أن مستقبل متسناع السياسي سيبقى أمامه، إذا أحسن إدارة أوضاعه وأنضج اطروحاته وإذا حالفه الحظ، على خلاف شارون، فما لا يستطيع كسبه متسناع في هذه الانتخابات قد يحصل عليه في الانتخابات ما بعد القادمة، التي ستكون مبكرة جدا على ضوء التعادل المرجح في الكنيست القادمة، بين تكتل اليمين ـ المتدينين وتكتل اليسار ـ الوسط.

الملاحظة الرابعة وهي تتعلق بعرب 48 الذين يناضلون في ظروف استثنائية للحفاظ على هويتهم العربية، في مواجهة "الاسرلة" وعلى وجودهم في أرضهم وعلى حقهم في المساواة في الدولة العبرية التي تعتبر نفسها دولة ديمقراطية ويهودية! في ذات الوقت الذي يخوضون فيه معركة شعبهم الفلسطيني (ضد دولتهم) من أجل دحر الاحتلال.

ومعلوم أن نسبة العرب تبلغ حوالي 20 بالمئة من سكان إسرائيل، ولكنهم يمتلكون قوة انتخابية قدرها 14 ـ 16 بالمئة، بحكم التركيبة الفتية للمجتمع الفلسطيني، ولكن هؤلاء لم يستطيعوا إيصال سوى 10 نواب عرب إلى الكنيست، من الأحزاب العربية، واربعة نواب عرب ضمن قوائم الأحزاب الصهيونية (العمل وميريتس والليكود).

في هذا الإطار يمكننا فهم المعركة الصعبة التي يخوضها العرب في إسرائيل على مختلف المستويات، ضد القوى الصهيونية، بيمينها ويسارها، فهذه القوى باتت تنظر بعين الخطورة إلى تنامي الهوية العربية، وإلى ما بات يعرف بمسار "الفلسطنة" عند عرب 48، والذي يتمثل بتزايد مظاهر التضامن مع شعبهم الفلسطيني ضد الاحتلال، وبتبلور قوى سياسية عربية مستقلة، كما نظرت هذه الأوساط بخطورة بالغة إلى الخطاب السياسي العربي الذي بات أكثر نضجا، لا سيما مع المفكر والسياسي عزمي بشارة الذي تقدم بتحدي عنصرية إسرائيل ونظامها السياسي، عبر أطروحة "دولة لمواطنيها"، والذي تحدى عدوانية إسرائيل وروحها الاستعمارية بأطروحته المتعلقة بالدولة "ثنائية القومية".

ولعل هذا التحدي، الذي عبرت عنه النخب العربية في إسرائيل، بمختلف أطيافها السياسية، هو الذي حدا بالقوى الصهيونية العنصرية إلى التقدم بشطب القوائم العربية ولا سيما قائمة حزب التجمع الوطني الديمقراطي، الذي يتزعمه عزمي بشارة، على أساس أن الكنيست هو بيت اليهود ولا يحق إلا لليهود أو المتصهينين احتلال مقاعده، وهو الأمر الذي حال دونه قرار المحكمة العليا في إسرائيل، الذي حسم الموقف لصالح مشاركة القوائم العربية ومن ضمنها قائمة التجمع وعزمي بشارة.

اللافت هنا أن إسرائيل حاولت استغلال هذا القرار وتصديره باعتباره انتصارا للديمقراطية الإسرائيلية ولدولة القانون، ولكنه في الواقع لا هذا ولا ذاك، لأن الديمقراطية التي تتشدق بها إسرائيل تتحول إلى عنصرية، عندما يتعلق الأمر بمواطنيها العرب، وكما قال بشارة فإن أغلبية نواب الكنيست اليهود كانوا سيصوتون ضد مشاركته في الانتخابات، وهذا الامر ليس له علاقات بالاقلية والاكثرية فالمسألة هنا تتعلق بالتمييز القومي؛ والحقيقة فإن الديمقراطية الإسرائيلية لم يتسع صدرها لمجرد مواقف نظرية يطرحها هذا النائب أو ذاك! أما بالنسبة لانتصار دولة القانون، فهو إدعاء مردود، أيضا، إذ أن المستشار القانوني للحكومة الياكيم روبنشتاين هو الذي أوصى بمنع بشارة والطيبي من المشاركة بالانتخابات، برغم انتهاجهما الوسائل السلمية في كفاحهما من أجل المساواة والهوية القومية والسلام.

ولاشك أن قرار المحكمة الإسرائيلية، الذي أخذه بعض القضاة النزيهين (7 مقابل 4) بشان مشاركة بشارة والطيبي أنقذ إسرائيل أولا من المأزق الذي كادت تقع فيه، وغطى على حقيقتها العنصرية، قبل كل شيء، كما أن هذا القرار ثمرة من ثمرات الكفاح الطويل والمرير لعرب 48 ونتيجة لارتقاء خطابهم السياسي.

تلك هي ملاحظات على هامش المعركة الانتخابية التي ستنتهي عشية في الثامن والعشرين من الشهر الجاري، والأكيد أن هذه الانتخابات، كما قدمنا، ستنتهي إلى تعادل، وستفتح الباب على مصراعيه أمام انتخابات أخرى، لحسم الكثير من القضايا الداخلية والخارجية التي تواجهها إسرائيل، هذا إذا لم يحصل ما لم يكن في الحسبان خلال الأيام القادمة.

( ماجد كيالي - دمشق – خاص)

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات