المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

يثير تقرير جديد كشفه مدير "أرشيف الدولة" في إسرائيل يعكوف لازوفيك (15 كانون الثاني 2018) جدلا واسعا في الدوائر ذات الصلة في شأن سياسة كشف المواد الأرشيفية، في أرشيف الدولة تحديداً والأرشيفات الحكومية الرسمية عموما. فقد كتب أن هناك الكثير من العوائق التي تمس بسير العمل السليم في الأرشيف، وهي مرتبطة بمناهج/ سياسات كشف المواد وإتاحتها أمام الجمهور للاطلاع.

 

وهو يبدأ تقريره بشكل حاد قائلا إن إسرائيل "لا تعالج المواد الأرشيفية الخاصة بها كما يُتوقع من دولة ديمقراطية"، فالغالبية الساحقة من المواد الأرشيفية مغلقة ولم يتم فتحها أمام الجمهور للابد. أما المواد القليلة التي يتم عرضها فستكون ضمن تقييدات غير معقولة حيث لا توجد رقابة عامة على إجراء الكشف وليس هناك شفافية.

يتحدث كاتب التقرير كيف أنه مع دخوله إلى وظيفتة في صيف 2011 فهم أن أرشيف الدولة وفروعه تقع في باب غير المعقول لكنه أجل معالجة الموضوع. وفي الاعوام اللاحقة حتى 2015 يقول إنه حظي بتعاون مع كثيرين من أجل إجراء خطة إصلاح في الأرشيف، وقد غيّر هذا التطور (المحدود كما سيتبيّن) ما يجري في الأرشيف مما قاد إلى أنه في 2016 طرأ تغيّر على المكانة الجماهيرية للأرشيف. فعدد استخداماته ارتفع من بضعة آلاف في 2015 إلى نحو نصف مليون في 2017 وارتفع عدد الملفات التي تم طلبها من 5 آلاف سنويا إلى نحو 40 ألفا. وهذا بالإضافة إلى وجود 16 مليون صفحة ممسوحة ضوئياً متاحة ولا حاجة لطلبها مسبقاً. لكنه يستدرك قائلا: إن استكمال الإصلاح وزيادة الاهتمام الجماهيري قادا إلى زيادة ارتفاع الجدران أمام فتح المواد. أي أن زيادة الاهتمام أدت إلى تقليص إمكانيات رؤية المواد.

هذا "الأمر المؤسف" كما يقول، سببه هو أن إخفاء المواد عن الجمهور يجري بدون أن يتم الاستماع إلى رأيه (الجمهور)، فجميع التساؤلات واتخاذ القرارات تجري داخل نطاق سلك خدمات الدولة، لكن مجلس الأرشيفات لا يعبر عن كل الجمهور، مع أن بين أعضائه ممثلين للجمهور ويمكن مشاركتهم في المعلومات غير المكشوفة للجمهور. وهو يعبر عن أمله في أن يتم اعتماد معايير "تعزز الشفافية وتسريع فتح المواد والوثائق مستقبلا".

7ر1 مليون ملف مرّ موعد منع نشرها وفقا للقانون

يشير كاتب التقرير إلى المعضلة الأساسية، والمتجسدة في الإجابة على السؤال: من يخدم الأرشيف، الحكومة أم الجمهور؟ وأما عن الوضع في إسرائيل فان نحو نصف مستخدمي الأرشيف حتى عام 2016 كانت أذرع الحكم والسلطة والمؤسسة الحاكمة. وتغيّر هذا الوضع في ظل ارتفاع الاهتمام الجماهيري بالمواد المؤرشفة. وهذا مشابه أيضا للحاصل في أرشيف الجيش الإسرائيلي. وهو يعادل من يصفهم بـ"زبائن آخرين" للأرشيف، مثل باحثين ومؤرخين وحقوقيين ومهتمين بعلم الأنساب. لكنه يشير إلى أن الجمهور هو الهدف الأكبر، لكنه لا زال هدفا غير واضح. فشرائح كبيرة من الجمهور لا تهتم أبدا في الأرشيفات وهناك نسب محدودة فقط زاد اهتمامها منذ 2016.

من بين نحو 3 ملايين ملف في أرشيف الدولة هناك 7ر1 مليون ملف مرّ موعد منع نشرها وفقا للقانون. وهناك مليون ملف ليس هناك تاريخ لموعد انتهاء منع نشرها. وهناك 330 ألف ملف تحت غطاء السرية ولم يجر بحثها بعد. وهو يقدم معطيات مختلفة ليصل بالنتيجة إلى أنه لو افترضنا أن العامل يمكنه العمل لكشف 1000 ملف في السنة، فإن الوضع الإسرائيلي في تخلف يزيد عن 2000 سنة عمل لكشف ما لم يتم فحصه بعد. وتيرة عملية كشف الوثائق في الأرشيف هي تقريبا 10 آلاف ملف سري في السنة و20 ألف ملف انتهى الموعد القانوني لعدم كشفها. وهو يؤكد أن هذه المعطيات تتطرق إلى الملفات الورقية فقط حتى مطلع القرن الحالي. ولا تشمل المواد الرقمية المختلفة. وبالنسبة لأرشيف الجيش هناك مليون و 146 ألف ملف فات موعد منع كشفها وفقا للقانون، ولكن من بينها تم فتح 50 ألف ملف فقط. ووتيرة العمل هناك هي نشر 2000 ملف في السنة فقط. ويتوصل هنا إلى استنتاج بأنه في ضوء هذا الوضع، فـ"معظم المواد في الأرشيفات الحكومية لن تفتح للأبد".

يستند كاتب التقرير إلى قاعدة قانونية ينص عليها قانون الأرشيفات من العام 1955 وهو يقتبس: "كل إنسان مخول بالإطلاع على المواد الأرشيفية المودعة في أرشيف الدولة، ولكن يمكن تقييد هذا الحق بأنظمة وقد يكون التقييد وفقا لنوع المادة الأرشيفية ووفقا لفترة محددة منذ انتاج المادة". صحيح أنه توجد أمام كل دولة ضرورة حماية قسم من المواد الأرشيفية ولذلك يمكن تطبيق أنظمة تحدد ما الذي تشمله تلك القيود المعيارية الاساسية، ولكن مقولة التشريع الأساسي واضحة ومفهومة، أيضا بالسياق العالمي. (يقول متهكماً ربما: القانون ينص على حق الإطلاع على كل المواد بأل التعريف وليس على قسم منها فقط). ففي الدول الديمقراطية - يؤكد- تكون الأرشيفات مفتوحة، لكن اسرائيل قلبت هذا النظام وذلك في إشارة إلى قلب المنطق كما سبقت الإشارة، حيث أن الأساس هو الإخفاء والاستثناء هو الكشف. وهو يشير إلى أن الإصرار "على نبش كل وثيقة وكل ورقة بل كل سطر" هو بمثابة اختراع إسرائيلي غير قائم في سائر دول العالم..

ويشير أيضا إلى أن منظومات القضاء الإسرائيلي تتميز أيضا بالفجوة ما بينها وما بين الواقع. فالأنظمة عموما تشير إلى فتح مواد أرشيفية تم فحصها قبل انتهاء موعد التقييد. لكن يوجد نظام آخر يحدده احد البنود ويقول إنه يحق لمن أودع الوثيقة أن يطلب ابقاء اقسام معينة مغلقة لفترات قادمة. الوضع نظريا هو أنه في مثل هذه الحالات يجب التوجه إلى أرشيف الدولة والطلب منه أن يتوجه إلى لجنة الوزراء المسؤولة عن هذه المسألة. ولكن في واقع الحال لا توجد إمكانية كهذه. لأنه لا يتم أصلا كشف المواد فور انتهاء مدة التقييد، ولا يحتاج أحد لطلب تمديد المنع! وبرأي المسؤول المذكور: هناك لا مبالاة ازاء انتهاك القانون المتمثل في اغلاق معظم المواد التي فات أصلا موعد تقييد نشرها، وبالمقابل هناك تشدّد في جميع التفاصيل التي تبطئ العمل على فحص المواد وبالتالي كشفها.

الجمهور ليس شريكا في اعتبارات كشف المواد!

يصف لازوفيك كيف أن الجمهور ليس شريكا في اعتبارات كشف المواد، والمسؤول عن الأرشيف يحق له التعبير عن موقف فقط إذا كان هذا متوافقا مع موقف المستشار القانوني للحكومة. بل إن موظفا كبيرا في مكتب المستشار القانوني طلب في 2017 بأن يتم السماح بالكشف فقط من قبل الجهة التي أودعت المادة وليس من قبل الأرشيف! وهنا تبين أن معظم مودعي المواد لم يسمعوا عن هذا الواجب وليسوا جاهزين ايضا للقيام به. وهو يطرح السؤال: من يقرر ما الذي يجب أو يمكن فتحه؟! وهكذا، وعلى وجه العموم، لا تتم استشارة أرشيف الدولة. ويروي كيف أنه استشار في إحدى المرات اخصائيين قانونيين من خارج الجهاز الحكومي وفهم منهم أنه يمكن تفسير مبدأ "حماية الخصوصية" (المستخدم لحظر نشر مواد كثيرة) بشكل مختلف عما هو معتمد في خدمات الدولة. ولكن ردا على ذلك "الاجتهاد" قدمت المستشارة القانونية لمكتب رئيس الحكومة دعوى معالجة تأديبية ضد لازوفيك أمام المستشار القانوني للحكومة "بحجة أنني انتهكت الأنظمة المعتمدة".

رداً على السؤال: متى يتم فتح المواد الأرشيفية؟ يقول: إن الأنظمة تحدد مواعيد لفتح الملفات، ومنظومة اجراءات لإغلاقها في الحالات النادرة. ولكن من الناحية الفعلية لم يتم فحص الملفات بالمرة، وحين يتم فحصها يسمح الموظفون لأنفسهم بإغلاقها دون أية استشارة. وهكذا فليس هناك أي معنى فعلي لمواعيد التقييد ومنع النشر التي حددتها أنظمة القانون المعمول بها، ومنها أن هناك جدولا يفصل مواعيد التقييد لجميع أنواع المواد الأرشيفية، وغالبية المواد يفترض أن تفتح في ختام 15 عاما. أما المواد "الحسّاسة" في مجالات الأمن والعلاقات الخارجية فهي تُفتح بعد 25 عاما أو 30 أو 50 أو 70 عاما. والمواد التي تضم مبدأ حماية الخصوصية تفتح بعد 70 عاما. لكن الوضع الواقعي معقد أكثر، يقول كاتب التقرير. وهو يروي كيف أنه لا يتم تطبيق النظام المفترض. أي أنه بعد انتهاء موعد التقييد اذا ارادت اية جهة الابقاء على قسم من المواد تحت قيد السرية، يجب عليها أن تتوجه إلى أرشيف الدولة ليتوجه بدوره إلى لجنة خاصة مؤلفة من وزراء للمصادقة على الطلب. ولكنه يروي - بغاية قليل من السخرية – كيف أنه توجّه في اربع حالات إلى لجنة الوزراء لكن الامر استغرق ثلاثة أعوام لفحص حالتين ولا زالت حالتان بانتظار الرد!

والخلاصة هنا أن هناك مئات آلاف الملفات التي مرت فترة تقييد عدم نشرها ولكن لم يجرِ فحصها بعد. وبما أن الجميع يعرف أن الوزراء لن يقوموا بفحص العديد من الحالات، فقد خوّل الموظفون أنفسهم القيام بإغلاق ملفات بدون استشارة لا مع وزراء ولا مع الأرشيف نفسه.

بالإضافة إلى شرح القيود والإشكاليات البيروقراطية التي تؤدي إلى الابقاء على الغالبية الساحقة من المواد الأرشيفية تحت طائلة السرية وبعيدا عن الجمهور لممارسة حقه بالمعرفة، فهو يشير إلى خطوط عريضة سياسية تقف خلف اخفاء المواد الموصوفة بـ "السرية أو المحفوظة". فهو يشير مثلا إلى اعتماد الرقابة فيما يخص الأرشيفات.

ويقول إن إدخال جهاز الرقابة إلى المادة الأرشيفية "هو ممارسة لا يوجد لها مثيل في العالم الديمقراطي ويجب اعادة التفكير بها"! ومثلها الحجة القائلة بضرورة إخفاء مواد في مجال الخارجية والأمن بادعاء أن هناك مواد كثيرة متاحة أمام الجمهور ولكن لا تتوفر وثائق رسمية بشأنها ولذلك فيجب اخفاء الوثائق حتى لو كانت الحقائق معروفة. "قد يكون هذا صحيحا حين تكون لدى الدولة سياسة علنية تنص على عدم الوضوح"، يقول، "ولكن الدولة ليس لديها سياسة عدم وضوح في جميع مجالات الحياة". بل على العكس: إن تبرير وجود الأرشيفات هو تمكين المواطنين من معرفة كل ما يريدونه عن الحكم في المستقبل ويتوقع من المواطنين بالذات أن يذهبوا إلى الأرشيفات لفحص مصداقية ما يبدو لهم بشأن الماضي.

تستّر متزايد منذ فرض السلطة  الاسرائيلية على الأراضي الفلسطينية

 

يقول كاتب التقرير بصراحة إنه لن يفصّل الحالات والأمثلة التي تم فيها منع كشف وثائق تؤكد ما يعرفه الجمهور مسبقا! ويشير فقط إلى قضية الأطفال اليمنيين المخطوفين. ولكنه لا يفصل أكثر في قضايا تعتبر "حساسة". مع ذلك، فهو يقول بوضوح إنه كلما ازدادت السنوات منذ فرض السلطة الإسرائيلية على المناطق الفلسطينية، ازدادت قائمة المواضيع التي قد يطلب احدهم التستر عليها! وهذه السيرورة قد بدأت، يضيف مؤكداً.

يقول التقرير إن منطق تحديد فترات التقييد على المواد الأرشيفية هو وجود معلومات قد يؤدي كشفها الفوري إلى التسبب بأضرار. ولكن كلما مرّ الوقت فإن الضرر سيتقلص أو سيختفي. ومنطق تحديد فترات مختلفة في التقييد هو أن هناك أنواع معلومات تختلف الأضرار المترتبة على سرعة كشفها. مثلا: كشف أوراق مفاوضات معينة قد يؤدي إلى القضاء على قدرة التفاوض. ولكن في لحظة توقيع اتفاق يبقى القليل مما يمكن إخفاؤه، وبعد انتهاء الاتفاق من الصعب ذكر ما يجب مواصلة اخفاؤه! ولكن من الناحية العملية المعلومات في قضايا الخارجية والأمن تغلق في الكثير من الأحيان بحجة أن كشف المعلومة ما زال يشكل مصدرا للضرر حتى لو أن فترة الانتظار قد انتهت. ولكن حسب رأيي، يقول كاتب التقرير، من يسعى إلى اغلاق ملف أو مادة أرشيفية بعد انتهاء موعد تقييدها، يجب عليه أن يفسّر بشكل واضح ما الذي تحتوي عليه المعلومات بحيث أنها ما زالت تشكل مصدرا للخشية.. وبعد أن يفصل ذلك يجب عليه أن يشرح ما الذي يجب أن يحدث حتى يزول الخطر ويتسنى بالتالي فتح المادة! فهو يعتبر أن ذرائع مثل أن فتح المعلومات قد يؤدي إلى تأجيج المشاعر أو التسبب للدولة بحرج على المستوى الدولي، هي ذرائع غير لائقة. ويشير إلى أن الادعاء بضرورة ابقاء معلومات تحت غطاء السرية لأن إسرائيل موجودة في حالة حرب، هي مسألة تحتاج إلى تشريع واضح في القانون، ولكن لا يوجد أي غطاء قانوني لهذه الذريعة اليوم على الرغم من أنه يتم تطبيقها.

ومعظم صلاحية القرار بالإبقاء على سرية مواد معينة موجودة بأيدي جهات وشخصيات أمنية مع أنه يجب إعطاء مساحة حرة للمختصين في القانون والقضاء. ويقول إنه "ربما توجد للشخصيات الأمنية دراية كبيرة في المسائل الأمنية ولكن درايتهم أقل في مسائل الجدل والنقاش الجماهيري الذي يحتاج اجراؤه بشكل سليم لتوفير المعلومات للجمهور بما في ذلك في مجال ومسائل القانون والعلاقات الخارجية". ويؤكد أنه من المحظور في أية دولة ديمقراطية اخفاء المعلومات بذريعة أن "كشفها يحرج الدولة". ويؤكد أن الموقف المتشدد للمؤسسة الأمنية في إسرائيل والى حد ما لمؤسسة العلاقات الخارجية يجعلهما جهات تشوّش الجدل والنقاش العام بسبب عدم توفير حقائق ومعلومات للاطلاع العام.

ويورد التقرير عدداً من الذرائع التي تستخدم من قبل هذه الجهات لمنع كشف معلومات معينة. وبدورنا نؤكد أن هذه الذرائع يفترض أن تشكل بنوداً من لائحة اتهامات مفترضة، هناك من اهتم بالإبقاء عليها تحت قيد السرية!

بين هذه الذرائع أن "كشف الحقائق قد يشكل وسيلة بأيدي أعدائنا وخصومنا بل قد يؤدي إلى إضعاف عزيمة أصدقائنا"؛ "كشف الحقائق قد يؤدي إلى إلهاب مشاعر السكان العرب في البلاد و/ أو في المناطق الفلسطينية"؛ "كشف الحقائق قد يؤدي إلى إضعاف حجج الدولة في محاكم البلاد أو المحاكم في العالم"؛ "هناك خشية من أن كشف المعلومات قد يتم تفسيره على أنه جرائم حرب إسرائيلية".

خلاصة هذا التقرير فيما يخص المسألة الأخيرة هو ضرورة إلغاء الرقابة عن المواد الأرشيفية وإزالة العوائق أمام فحص وكشف العدد الكبير من المواد التي لا تزال خارج اطلاع الجمهور على الرغم من انتهاء فترة تقييد نشرها كما ينص عليه القانون. لكن هذه المهمة تبدو مستحيلة في ظل السياسة المعتمدة والحواجز البيروقراطية.

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات