المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

خمسون عاماً مرت على الحرب العدوانية الإسرائيلية في العام 1967، التي أعادت ترسيم حدود دولة إسرائيل وأعادت، أيضا، تشكيل المجتمع الإسرائيلي. خلال ستة أيام، ازدادت المساحة الجغرافية الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية بخمسة أضعاف فبدا وكأن الخطر الذي تهدد وجود دولة إسرائيل قد زال وتبدد. رأى قطاع واسع من الإسرائيليين أن الإنجازات العسكرية التي تحققت في تلك الحرب قد تشكل فرصة مواتية لإحلال السلام بين إسرائيل والدول العربية المجاورة، فيما رأى آخرون أنها إشارة إلهيّة لخلاص إسرائيل ورسالة تأمر بالتشبث بأية قطعة من الأرض، مهما كانت النتيجة، فانطلق مشروع بناء المستوطنات وتكريسها سعياً إلى "تثبيت السيطرة الإسرائيلية"!

غير أن تلك الإنجازات العسكرية قد أثارت، في المقابل، نقاشا واسعاً وفرضت أسئلة سياسية وأخلاقية جوهرية وقاسية دارت حول الواقع المستجد الذي تمخض عن وضع شعب بأكمله تحت نير احتلال عسكري، على كل ما يعنيه وما يترتب عنه. فأطلق البروفسور يشعياهو ليبوفيتش، مثلا، "نبوءة الغضب" التي حذرت من "تحوّل دولة إسرائيل إلى دولة مخابرات" ومن أن "استمرار السيطرة العسكرية الإسرائيلية على المناطق الفلسطينية سيؤدي، بالضرورة، إلى اعتماد سياسة مماثلة لتلك التي اعتمدها النازيون" ومن أن "استمرار الاحتلال سيعني القضاء على دولة إسرائيل كدولة للشعب اليهودي، دمار الشعب اليهودي كله وانهيار البنى الاجتماعية التي أقيمت وتدمير الإنسان ـ اليهودي والعربي على حد سواء". بينما كتب الأديب دافيد غروسمان (في "الزمن الأصفر"): "أصبحنا نعيش في وضع مشوّه يقوم على أوهام، على توازن هشّ بين الكراهية والمخاوف، في صحراء عاطفية وإدراكية".

خلال السنوات الخمسين الماضية، أنشئت عشرات ـ وربما مئات ـ المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية وقطاع غزة، بتشجيع ودعم مباشرين من الدولة ومؤسساتها السلطوية المختلفة. لاحقا، وفي إطار "اتفاقيات أوسلو"، تم نقل بعض المناطق في الضفة الغربية إلى يدي السلطة الفلسطينية، لكن الجزء الأكبر من الأراضي لا يزال خاضعا للحكم العسكري الإسرائيلي. في قطاع غزة، تم إخلاء المستوطنات اليهودية في "انسحاب أحادي الجانب" في العام 2005، بينما تم ضم القدس الشرقية إلى إسرائيل رسمياً و"توحيدها" مع القدس الغربية، ضمن قانون خاص شرّعه الكنيست الإسرائيلي في العام 1981.

إسرائيل تتجنب الحسم... وأربعة خيارات

لا تزال إسرائيل تتجنب، في المحصلة العملية النهائية، أي حسم بشأن مستقبل الأراضي الفلسطينية التي احتلتها قبل خمسين عاماً، إذ يبدو أن أية حكومة إسرائيلية جديدة تتعمد ـ نتيجة موازين واعتبارات إسرائيلية داخلية ـ إرجاء البتّ في هذا الأمر إلى موعد آخر تعتقد بأنه سيكون "أفضل" من الوقت الراهن. فقد أثارت جميع محاولات الحسم، الجزئية والخجولة، التي ظهرت حتى الآن نقاشات حادة، لكن عقيمة، مظاهرات وصراعات، بل أوصلت حتى إلى اغتيال رئيس حكومة (إسحاق رابين، 1995)، فضلا عن محاولات اغتيال أخرى استهدفت وطالت ناشطين سياسيين.

واليوم، بعد أسبوعين من الذكرى الثانية والعشرين لاغتيال إسحاق رابين وخمسة أشهر من الذكرى الخمسين للاحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة، تدور سجالات إسرائيلية مختلفة تتمحور حول سؤال جوهري هو: ما هي الخيارات المستقبلية المتاحة أمام إسرائيل بشأن الضفة الغربية وقطاع غزة؟

في إطار هذه السجالات، أجرت صحيفة "دفار ريشون" الإسرائيلية، مطلع الشهر الجاري، حوارات مع خمسة إسرائيليين "يتبنون رؤى مبلورة، متكاملة ومتماسكة حول مستقبل يهودا والسامرة (الضفة الغربية)"، كما وصفتهم، طرحوا خلالها أربعة خيارات مختلفة حول مستقبل إسرائيل والضفة الغربية. وأوضحت الصحيفة أن "القاسم المشترك الوحيد لهؤلاء جميعا هو القلق الحقيقي على مستقبل دولة إسرائيل وسكانها"، بينما "آراؤهم مختلفة تماما، حدّ التناقض التام". وباستثناء اثنين منهم، يجمع الثلاثة الآخرون على ضرورة أن "تغيّر إسرائيل توجهها واتجاهها".

الخيارات الأربعة:  دولتان ودولة واحدة تحت سيادة إسرائيلية والحفاظ على الوضع القائم و"وطن واحد لشعبين"

 فيما يلي الخيارات الأربعة التي طرحها المتحاورون هي:

 الخيار الأول ـ دولتان للشعبين

تعرض صحيفة "دفار ريشون"، بداية، تاريخ "فكرة التقسيم" والتحولات التي طرأت عليها، فتقول إن فكرة تقسيم البلاد (فلسطين/ "أرض إسرائيل") إلى دولتين ـ واحدة يهودية والأخرى عربية ـ طُرحت، للمرة الأولى، إبان الانتداب البريطاني. فقد وضعت لجان مختلفة خرائط تتضمن اقتراحات بشأن صيغة التقسيم، لكنها "قوبلت بمعارضة كاسحة من القيادة العربية الرسمية" وأثارت "خلافات عميقة بين الجمهور اليهودي حول فكرة التقسيم بحد ذاتها". وكذلك كان الحال مع قرار التقسيم الذي صدر عن الأمم المتحدة في 29 نوفمبر 1947، الذي أنهى الانتداب البريطاني على فلسطين وقضى بإنشاء دولتين، عربية ويهودية، "تقيمان بينهما وحدة اقتصادية"، إذ "رفضته القيادات العربية في أرض إسرائيل والدول العربية" ـ كما تقول الصحيفة ـ مما "أشعل حرب الاستقلال التي انتهت بإنشاء دولة واحدة فقط، هي دولة إسرائيل"، بينما انتقلت الأراضي "التي لم تنجح إسرائيل في الاستيلاء عليها" (الضفة الغربية وقطاع غزة) إلى سيطرة دولتين عربيتين مجاورتين، هما الأردن ومصر.

غير أن "فكرة التقسيم" ظلت قائمة خلال السنوات اللاحقة أيضا. وبينما كان يبدو أن هذه "الفكرة" هي شعار "قوى هامشية متطرفة" بين الجمهور الإسرائيلي طيلة سنوات طويلة، حتى أن أحزاب "اليسار الصهيوني" أيضا رفضتها وقاومتها، أصبحت تبدو ـ في العام 1992 ـ "أكثر واقعية وأقرب من أي وقت مضى"، وذلك إثر اعتلاء إسحاق رابين سدة الحكم في إسرائيل. ورغم أن "اتفاقيات أوسلو"، التي وقعت عليها إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية في العام 1993، منحت الفلسطينيين "حكما ذاتيا" في جزء من مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة "كتسوية مرحلية"، دون أي ذكر لمصطلح "الدولة الفلسطينية"، إلا أن الاعتراف المتبادل بين الطرفين "استنهض آمال الكثيرين في الجانب الإسرائيلي وولّد لديهم القناعة بأن إقامة دولة فلسطينية مستقلة، إلى جانب دولة إسرائيل، هو الحل الصحيح والعادل للصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني".

لكن سرعان ما تبين أن الواقع "أشد تعقيدا وأكثر إشكالية عما كان يبدو ظاهريا": ففي ظل الحكم الذاتي الفلسطيني الجزئي "تعززت قوة التنظيمات الإرهابية" التي "ترفض أي اعتراف بدولة إسرائيل وتعارض أية تسوية تاريخية معها". كما أن "فشل القيادتين"، الإسرائيلية والفلسطينية، في التوصل إلى تسوية سياسية "بعد سنوات من جهود الوساطة الدولية"، أدى إلى "تراجع حل الدولتين وانحسار التأييد له باعتباره حلا ممكنا ومتاحا". ومع ذلك، بقي مؤيدو هذا الحل في داخل إسرائيل يعتبرونه "ليس حلا عادلا فحسب، بل الوحيد الذي يسمح ببقاء دولة إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية"، أيضا، ويجنّبها "خطر فقدان الأغلبية اليهودية".

يؤكد المحامي غلعاد شير، أحد المشاركين الإسرائيليين المركزيين في المفاوضات والاتفاقات السياسية مع الجانب الفلسطيني خلال العقود الثلاثة الماضية، في حديثه للصحيفة، أن "حل الدولتين للشعبين هو الطريق الوحيد الذي يضمن بقاء دولة إسرائيل كدولة يهودية ديمقراطية". ويضيف: "لا مفرّ من الانفصال عن الفلسطينيين، ضمن حدود واضحة. ولذا، فمن واجب أية حكومة إسرائيلية بذل كل الجهود الممكنة في السعي إلى تحقيق ذلك، بصورة تدريجية، متعقلة وحذرة". وهو يرى أن إسرائيل ملزمة بالدفع نحو هذا الانفصال "حتى ولو بدون اتفاق شامل لحل الصراع"، لأن "الواقع القائم اليوم يشي بأن لا أمل في التوصل إلى تسوية شاملة ودائمة تتضمن حل كل الخلافات والإشكاليات بين الطرفين، سواء حول القدس، اللاجئين، الأمن والحدود". ولهذا، فهو يقترح "اتخاذ خطوات تفضي إلى مفاوضات مستقبلية وتخدمها"، وفي مقدمة هذه الخطوات "تسوية مرحلية تضمن تغيير مسار التدهور الراهن نحو دولة واحدة، لأن الوقت يعمل في غير صالحنا".

وردا على سؤال الصحيفة حول "شكل الدولة الفلسطينية التي يتحدث عنها"، قال شير إن "على الجيش الإسرائيلي أن يبقى في الميدان" وإن "جميع محاولات التخويف من صواريخ ستسقط على مطار اللد (بن غوريون) لا أساس لها، لأن من السهل معالجة المشكلات والتحديات الأمنية الناشئة". وأضاف: "ثمة هنا شعب آخر سيعيش في دولة سيادية إلى جانبنا، لكن من دون جيش ومن دون القدرة على عقد تحالفات عسكرية، وإنما تحت رقابة لصيقة وتامة"!
يحتج شير على ملاحظة/ تساؤل الصحيفة بأنّ "الجمهور الإسرائيلي اليوم أقل تحمساً لهذه الفكرة عما كان عليه إبان اتفاقيات أوسلو" ويقول: "نرى خلال السنوات الأخيرة كلها، بما في ذلك إبان موجة "إرهاب السكاكين"، أن ثمة أغلبية إسرائيلية واضحة، دائمة ومستقرة، تؤيد حل الدولتين. المسار الذي بيّنتُه أعلاه يعتمد على مقترح كلينتون من كانون الأول 2000. وإذا ما سألتم الناس إن كانوا مستعدين لإخلاء مستوطنات كجزء من اتفاقية سلام، فسترون أن ثمة أغلبية مؤيدة لهذا أيضا. وهو الحال بالنسبة لتقسيم القدس أيضا. ولكن حين يجري تقسيم مركّبات الحل الشامل، تختفي هذه الأغلبية.... أومن بأن جزءا كبير من شعبنا يوافق على ما أقول، لكنه مشوش ومرتبك لأنه يعتقد بأنهم انتزعوا منه صفة "الوطني"... إسرائيليتي تقول بأن الدولة المحاطة بحدود معروفة وواضحة يمكن الدفاع عنها وحمايتها هي أكثر أهمية من مجرد قطعة من الأرض هنا أو هناك".

كما يعترض شير، أيضا، على الشعار الإسرائيلي الذي يزعم بأن "لا شريك" في الجانب الفلسطيني ويؤكد: "ثمة الكثير مما يجب القيام به على الصعيد السياسي من أجل الدفع باتجاه مفاوضات سياسية جدية مع الفلسطينيين"! لكنّ "المشكلة"، في رأيه، هي "انعدام الرغبة لدى القيادات في تغيير مواقعها ومراكزها".


الخيار الثاني ـ دولة واحدة وسيادة إسرائيلية على "يهودا والسامرة"

ما يعتبره غلعاد شير ومؤيدو "حل الدولتين" في إسرائيل بمثابة "التهديد الأكبر والأخطر" ـ دولة واحدة بين النهر والبحر ـ يشكل، في المقابل، غاية تطلع قطاع غير قليل من اليمين الإسرائيلي يدعو إلى بسط السيادة الإسرائيلية الكاملة على مناطق "يهودا والسامرة" (الضفة الغربية). من أبرز المعبرين عن رؤية هذا القطاع وطموحه، وزير الدفاع الأسبق موشيه آرنس، رئيس الدولة رؤوفين ريفلين، وزعيم حزب "البيت اليهودي"، وزير التربية والتعليم نفتالي بينيت.

"هذه الأرض لنا، منذ الأزل وإلى الأبد. كل ما نصبو إليه هو العيش مع الفلسطينيين بسلام، من دون إرهاب، لكن ينبغي عليهم تقبّل السيادة اليهودية على أرض إسرائيل"، تقول يهوديت كاتسوبر، الناشطة السياسية المستوطِنة في "كريات أربع" والتي كانت ضمن النواة الأولى التي أقامت "الحي اليهودي" في مدينة الخليل. وهي تقود، خلال السنوات الأخيرة، حملة دعائية جماهيرية تتمحور حول "السيادة الإسرائيلية على أرض إسرائيل" ـ وهي حملة "تحقق نجاحا ملحوظا وتستقطب اهتماما واسعا وتأييدا كبيرا"، كما تقول في حديثها للصحيفة.

بدأت كاتسوبر بترويج فكرة "السيادة الإسرائيلية" في أعقاب إخلاء المستوطنات الإسرائيلية من قطاع غزة، في العام 2005. "قلنا إنه من غير الممكن أن يجري طرد اليهود بعد الآن وإن علينا الشروع في خوض نضال آخر. أيقنّا بأنه حتى لو أنقذنا قطعة أخرى من الأرض، ثم قطعة أخرى، فليس في هذا ما يحقق الهدف المرجو ـ إنقاذ أرض إسرائيل. توصلنا إلى قناعة بضرورة تغيير التوجه والاتجاه. جلسنا، أنا ومجموعة أخرى ضمت يورام أتينغر، كارولين غليك، الحاخامة شولاميت ميلاميد، وقررنا عقد مؤتمر حول السيادة، في العام 2011. عقدناه في الخليل وحضره نحو 300 شخص. ساد الاتفاق على أنه يتوجب، أولا، تغيير نظرة جمهورنا، تغيير أسلوب "دونم إثر دونم" وجعله كفاحا لتغيير الوعي".

بين مؤيدي "بسط السيادة"، تقول كاتسوبر، ثمة أربعة توجهات مختلفة: "التوجه الأول يتحدث عن بسط السيادة الإسرائيلية الكاملة على جميع مناطق الضفة الغربية -A ، B و C. التوجه الثاني يقترح على الحكومة الإسرائيلية بسط السيادة على جميع مناطق "يهودا والسامرة" (الضفة الغربية)، بحيث يكون ثمة حكم ذاتي فلسطيني في منطقتي B و C. في إطار هذا التوجه، يستطيع المواطنون الفلسطينيون (في تلك المناطق) طلب الحصول على المواطنة الإسرائيلية، وكل من يستوفي المعايير والشروط يحصل عليها. أما التوجه الثالث، فهو الذي يقوده الوزير نفتالي بينيت، ويقترح ضم منطقة C فقط، ضمن ما يسمى "خطة التهدئة". وأما التوجه الرابع، الذي يقوده موشي فيغلين (عضو كنيست سابق عن "الليكود")، فيقترح تشجيع هجرة الفلسطينيين عن هذه المناطق". وتعلن كاتسوبر أنها، شخصيا، تؤيد التوجه الأول.

وردا على سؤال الصحيفة عما إذا كان الفلسطينيون سيقبلون "العيش في دولة لا تعترف بهم كفلسطينيين"، قالت كاتسوبر: "إذا كان ثمة ما يربط أحمد بالأرض، فلا مشكلة إطلاقا، لكن ليس كجماعة"! وأضافت: "أعتقد بأننا نرتكب خطأ أخلاقيا، إذ لم تكن ثمة قومية فلسطينية هنا. حتى العام 1970، لم تكن كلمة "فلسطينيون" مكتوبة في أية وثيقة. هذه الجماعة الفلسطينية هي اختراع من السبعينيات"!

وفي محاججة "التخوف من فقدان الأغلبية اليهودية"، تقول كاتسوبر: "إذا نظرنا إلى عدد اليهود والفلسطينيين اليوم، بما في ذلك في مناطق يهودا والسامرة (الضفة الغربية)، فسنجد أن ثمة أغلبية يهودية تصل إلى 66%. وأما إذا أضفنا قطاع غزة أيضا، فنحن نشكل أغلبية تصل إلى 61%". ثم تضيف أن "تأييد هذه الفكرة (بسط السيادة الإسرائيلية) آخذ بالاتساع باستمرار". ولتأكيد ادعائها هذا، تورد ما بيّنته نتائج "استطلاع رأي أجري في شهر شباط الأخير"، كما تقول، من ضمنها أن 75% من اليهود الإسرائيليين يؤيدون "بسط السيادة الإسرائيلية" بينما لم يؤيد إقامة دولة مستقلة "سوى 7% فقط".

أما الهدف التالي الذي تسعى كاتسوبر ومؤيدوها لتحقيقه فهو "سن قانون في الكنيست يقضي ببسط السيادة الإسرائيلية على يهودا والسامرة (الضفة الغربية)، لأن بسط هذه السيادة اليوم يتطلب أمراً عسكريا يصدره قائد المنطقة العسكرية الوسطى، لأننا نعيش تحت حكم عسكري"!

الخيار الثالث ـ الإبقاء  على "الوضع القائم"

ثمة من يعتقد بأنه على الرغم من الإشكالية الكبيرة والتعقيد الشديد اللذين ينطوي عليهما الوضع القائم في الضفة الغربية، إلا أنه لا يزال يشكل "الخيار الأفضل، أو الأقل سوءاً، بالنسبة لدولة إسرائيل".

الجنرال (احتياط) يعقوب عميدرور، الرئيس السابق لـ"مجلس الأمن القومي" والقائد السابق لشعبة الاستخبارات العسكرية (أمان)، يقول إن "الفجوة بين ما يريده الإسرائيليون وما يريده الفلسطينيون في الوضع الراهن أكبر وأعمق من أن يتم التجسير عليها والتوصل إلى تسوية سياسية". ويوضح: "وضعت جميع الادعاءات المؤيدة والمعارضة للخيارين السابقين ـ دولة واحدة أو دولتان ـ وتوصلت إلى الاستنتاج بأن الحل الأفضل هو إدارة الوضع القائم بصورة صحيحة. في هذه اللحظة، ليس هنالك استعداد لدى أي من الطرفين لتقديم جميع هذه التنازلات. ولذا، يجب إبقاء الخيارين مفتوحين، فربما يستطيع أبناؤنا، أو أحفادنا، التوصل إلى اتفاقية بعد خمسن عاما"!

ويرى الصحافي والكاتب بنحاس عنبري، أيضا، أن "تفضيل الوضع القائم هو ضرورة، وليس خيارا مثاليا". ويوضح عنبري، الباحث في "المركز المقدسي لقضايا الجمهور والدولة": "من المفضل التوصل إلى تسوية مع الفلسطينيين وإنهاء الصراع، لكن هذا لن يحدث في المدى المنظور". ويعتقد بأنه "من الممكن التوصل إلى تسوية مع الفلسطينيين القاطنين اليوم في الضفة الغربية، لكن المشكلة الحقيقية تبدأ من الفلسطينيين الذين طردوا في العام 1948". ذلك أن هؤلاء الفلسطينيين "يعتبرون أن نهاية الصراع تتمثل في عودتهم، جميعا، إلى الأماكن التي كانوا فيها قبل 1948، وهو ما لا تستطيع إسرائيل القبول به أو الموافقة عليه"!

وردا على سؤال الصحيفة حول "ما يمكن القيام به الآن"، قال عنبري إنه "ينبغي التوصل مع الفلسطينيين إلى ترتيبات عينية، في قضايا تصاريح العمل في إسرائيل، تزويد المياه والكهرباء، مثلا". وهي قضايا تتعلق بـ"إتاحة العيش للطرفين"، كما يقول!

ويوجه عنبري انتقاداته للجانب الفلسطيني ويحمّله المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع في الضفة الغربية (!)، فيقول إن "الفلسطينيين لم يتقدموا حتى الآن بأي اقتراح... جميع الأفكار والاقتراحات تأتي من الجانب الإسرائيلي"!! ويضيف: "أنا أشاهد التلفزيون الفلسطيني وما يجري هناك هو عملية غسل دماغ رهيبة. ثمة جيل كامل قد تربى على الكراهية تجاهنا"! ثم يحاول "دحض" الاعتقاد بأن الشعب الفلسطيني معني بالسيادة على أرضه ونفسه، فيقول: "نحن نعتقد بأن الفلسطينيين يتحرّقون لإقامة دولة فلسطينية خاصة بهم، لكن هذا ليس صحيحاً... إنهم يريدون العيش بهدوء وبدون مضايقات. أما دعاة الوطنية في الشعب الفلسطيني فهم ليسوا سوى النخبة الأكاديمية التي تعيش في رام الله... هم الوحيدون الذين يتحدثون عن دولة مستقلة"!!

يدافع عنبري عن "خيار الحفاظ على الوضع القائم"، على الرغم مما فيه من "إشكاليات"، كما يصفها. ويقول: "ارتسمت لنا صورة القوة المحتلة ونحن لا نريد أن يرانا العالم بهذه الصورة. النخبة في رام الله تضخّم هذه الصورة أضعافا مضاعفة وهي تتمتع بعلاقة وثيقة مع الإعلام العالمي. تضررت صورة إسرائيل كثيرا، لكن ليس ثمة ما يمكن عمله، لأن أية محاولة للقيام بشيء آخر ستفضي إلى ما هو أسوأ من الوضع الحالي بكثير، الذي هو "الأقل سوءاً". أما المرحلة التالية، ما بعد "الوضع القائم"، فهي: عندما يحين الوقت ويحصل الانفجار، سيتوجب علينا التفكير بما علينا فعله، بعيدا عن خيار الدولة الواحدة بالطبع، والذي هو الخيار الأسوأ على الإطلاق"، كما يقول.

الخيار الرابع ـ وطن  واحد لشعبين

إلى جانب الخيارات الثلاثة السابقة، التي تعتبرها الصحيفة "تقليدية"، ثمة من يحاولون "التفكير خارج الصندوق"، كما تصفهم الصحيفة، فيطرحون خيارا رابعا يتلخص في: دولة واحدة مكونة من مجموعات مختلفة ذوات حكم ذاتي ومكانة متساوية.

ظهر هذا الخيار "غير التقليدي" في العام 2002، حين تبلورت مجموعة ضمت الشاعر إليعاز كوهين، المستوطِن في "كفار عتصيون"، موطي أشكنازي، قائد الحملة الاحتجاجية التي أعقبت حرب تشرين 1973 ("حرب الغفران")، البروفسور إستر ألكسندر ود. حاييم آسا، وأقام هؤلاء حركة فكرية أطلقوا عليها اسم "عدالة" وضعت نصب عينيها نموذج "كونفدراليات ثلاث تعيش ضمن حدود أرض إسرائيل الانتدابية، تشمل الأردن، إسرائيل وفلسطين". وقد خاضت هذه الحركة الانتخابات للكنيست الإسرائيلي في العام 2003، لكنها لم تحصل سوى على 1181 صوتا، وما لبثت أن تفككت واختفت في إثر ذلك.

يقول كوهين إن "الفكرة الأولية كانت إقامة دولة فلسطين ضمن حدود 1967، بحيث تعيش في هذه الدول "جماعات"... مثلا، الفلسطينيون في الأردن يكونون مواطنين أردنيين ومواطنين في الكونفدرالية الفلسطينية أيضا وينتمون إلى الجماعة الفلسطينية. أما المستوطنون فيبقون في أماكنهم، في داخل فلسطين، لكن ينتمون إلى الجماعة الإسرائيلية".

في السنوات التالية، توصل كوهين إلى القناعة بضرورة "الاعتراف بحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة". ويوضح أنه "ليس من المهم صيغة الحل النهائي. لأنه، إذا لم نعترف بلاجئي العام 1948 وبأن إسرائيل هي وطن واحد للشعبين، فلن يكون هنالك أي حل". وعلى أساس هذه القناعة، بادر كوهين في العام 2009 إلى تشكيل "منتدى فكري" ضم مستوطنين، أكاديميين ونشطاء اجتماعيين أبدوا استعدادا للحديث عن "جماعات مختلفة تتقاسم حيزا جغرافيا واحدا".

"نحن نقول إنه إذا ما أردنا فعل شيء قابل للحياة ومؤهل للصمود لعدة أجيال، فمن الضروري احترام الروابط العميقة التي تربط كلا الشعبين لهذا المكان"، يقول كوهين، مشيرا إلى أن هذا "يتعارض مع المفهوم الذي قامت عليه اتفاقيات أوسلو، من حيث أن الخط الأخضر هو الذي يحدد حدود إسرائيل وحدود فلسطين... نحن نعلم أن كلا الشعبين مرتبطان بهذه البلاد كلها، دون تقسيم"! وفي رأيه أن "أحد الأمور التي تكرست خلال العقود الأخيرة هو أن كلمة "سلام" ترتبط بتنازلات مؤلمة وتثير الرعب. نحن نريد أن نعيد إلى هذه الكلمة ما فيها من أمل، أن نحدث تغييرا في لغة الحوار التي تتراوح ما بين الخسائر والأرباح المترتبة عن السلام".

وينوه كوهين بأن "هذه حركة متطوعين اتخذت قرارا مبدئيا بعدم الحصول على أي تمويل من أية صناديق تابعة لحكومات أجنبية، تعتمد نهج العمل الجماهيري الميداني...عقدنا حتى اليوم أكثر من 400 لقاء بيتي ولدينا 300 ناشط مداوم وبضعة آلاف من المؤيدين والداعمين... نتقدم بوتيرة بطيئة وبعمل شاق". ويعتبر أن "الصعوبة المركزية تتمثل في اليأس السائد لدى الطرفين، علما بأن اليأس والخوف هما أعمق وأشدّ لدى الجانب الفلسطيني، لأن حياته اليومية أقسى بكثير... والظروف في تدهور مستمر منذ اتفاقيات أوسلو".

ويرى كوهين أن "خيار الوطن الواحد للشعبين" يبدو اليوم "أقرب إلى الواقع مما كان عليه قبل خمس سنوات"، مع اتساع الإقرار، "في إسرائيل وفي غالبية دول العالم"، كما يقول، بأن "حل الانفصال غير واقعي وغير ذي صلة". ويضيف: "لقد نجحنا في إدخال مصطلح "كونفدرالية" إلى السجال العام، حتى أن وكالة المخابرات المركزية الأميركية (CIA) قد توجهت إلينا مؤخرا تطلب إيضاحات وتفسيرات حول ما نطرحه، لأن الأميركيين يدرسون اليوم خيارات جديدة، من بينها الخيار الذي نطرحه نحن".

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات