المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

لم يعد ثمة ما يمكن تسميته بـ "الصهيونية الدينية". فقد كانت هذه وتلاشت كليا. وعلى أنقاضها، تشكلت مجموعات اجتماعية مختلفة ما يفرّق بينها هو أكثر بكثير مما يوحّدها بكثير! ـ هذه هي النتيجة التي يقررها أحد أبرز الباحثين الإسرائيليين في شؤون "الصهيونية الدينية" وأحد المنتمين إليها، البروفسور كيمي كابلان، أستاذ "التاريخ اليهودي الحديث" في جامعة بار إيلان (المؤسسة الأكاديمية التي تشكل مركزا لتيار "الصهيونية الدينية").

وقد جاءت هذه الخلاصة ضمن نتائج بحث أخير أجراه حول "الوسط الديني" في إسرائيل ونُشر تحت عنوان "المجتمع اليهودي الديني في إسرائيل: إنجازات، فرص ضائعة وتحديات"، في العدد قبل الأخير (نيسان 2017) من فصلية "اتجاهات" المتخصصة بالعلوم الاجتماعية والتي تصدر عن "الجامعة المفتوحة" و"معهد هنرييتا سولد".

تشير المجلة، بداية، في تقديمها للبحث الجديد، إلى الاتساع اللافت، منذ أواسط سبعينات القرن المنصرم، في الأبحاث الأكاديمية التي تعالج مسائل الدين، المجتمعات الدينية والحياة الدينية في المجتمع الإسرائيلي، مكانتها فيه وتأثيراتها عليه. وينعكس هذا الاتساع، الذي يظهر في مجال العلوم الاجتماعية بشكل أساس، في مئات كثيرة من الأبحاث المنشورة، في المنابر العلمية العديدة التي تُنشر فيها هذه الأبحاث، في تنوع المواضيع التي تعالجها وفي مدى تركيزها على الظواهر المختلفة، القديمة والمستجدة، فضلا عن عشرات الأطروحات العلمية لنيل درجات الماجستير والدكتوراه، المؤتمرات والجلسات المخصصة للتداول في جوانب مختلفة تتعلق بالفئات الدينية المختلفة في إسرائيل، خلفياتها ومرجعياتها، الفكرية والدينية، واقعها وأنماط معيشتها، تشكيلاتها السياسية وتطور مكانتها وتأثيراتها، السياسية والاجتماعية، على المجتمع الإسرائيلي برمّته وعلى مجمل الواقع الإسرائيلي.

يعتقد كابلان بأن مصطلح "الصهيونية الدينية" خاطئ من أساسه، فيما هو يطلق لوصف شمولي إجمالي لمختلف التيارات الدينية اليهودية التي اصطُلح على تسميتها بـ "الدينية الوطنية". ويؤكد: "ثمة علامة سؤال كبيرة على هذا المصطلح".

فحص كابلان، في بحثه هذا، جملة من المعايير المختلفة الخاصة بهذا التيار، من أبرزها: الانتماءات السياسية ـ الحزبية، التعليم، اللباس، أحكام الحلال (كشروت/ كوشر)، الإيديولوجية الدينية وغيرها، فتبين له وجود فوارق عميقة جدا، بل هائلة، بين المجموعات المختلفة في داخل مجتمع "الصهيونية الدينية"، إلى درجة أن هذه الفوارق "تضع علامة سؤال كبيرة على إمكانية وصحة الاستمرار في التعامل معه كمجتمع واحد متناسق".

يستعيد كابلان نقطة انطلاقه في هذا البحث التي أوصلته إلى هذا الاستنتاج الهام وبعيد الأثر فيقول إن "كل الموضوع بدأ من مبادرة بحثية استهدفت إجراء مسح شامل لوضع الشرائح والمجموعات الاجتماعية المختلفة في المجتمع الإسرائيلي". ثم يضيف، موضحا تطور الأسئلة البحثية في سياق العمل البحثي: "وجدتُ أن البحث الذي أجري في المجتمع الديني (اليهودي) قد تركز، بصورة أساسية، في خط التماس ما بين الإيديولوجية بمعناها الصلب، المستوطنات وتفشي التعصب الديني في داخل الجيش الإسرائيلي". ومن خلال التركيز على هذه النقاط المفصلية، لكن الجزئية، "ارتسمت صورة عامة لشبان يعتمرون القلنوسات المنسوجة (القلنسوة المنسوجة هي رمز "الصهيونية الدينية" أو "المتدينون الوطنيون") ويتجولون على التلال (في وبين المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية) وهم يحملون السلاح، يُحْدثون الفوضى وجميعهم يمينيون... وهي صورة عامة يمكن أن نشمل فيها، أيضا، جميع الصور النمطية المعروفة والمحتملة"!

وهنا يعترض كابلان على الشائع في إسرائيل عموما من "تعريف الصهيونية الدينية كلها بأنها يمين سياسي"، منبهاً إلى أن "صدقية هذا التعميم وموثوقيته هما موضع شك عميق". ويوضح: "هل يعرف الجمهور شيئاً عن البرجوازية الصهيونية الدينية؟ عن جبعات شموئيل وغور القدس؟ ... إن كل هذا الحيز الصهيوني البرجوازي، الذي لا أعرف ما هي حقيقة مواقفه السياسية بشكل عام، يعيش نمط حياة مختلف تماما عما تعيشه أوساط دينية أخرى وعن تلك الصور النمطية. هؤلاء لا يعتمدون إيديولوجية معينة ولا يتحركون بهدي أية إيديولوجية، بل هم يمثلون طبقة من البرجوازية المتوسطة، لكن أحدا لم يتطرق إليهم ولم يكتب عنهم شيئاً، على الإطلاق".

لا قواسم مشتركة!

يحاول كابلان أن يعتمد أقصى درجات الحذر في عرضه "السياسي/ الاجتماعي" لمسار بحثه ونتائجه، لكن صياغاته الأكاديمية لا تحاول تجنب مقولات راديكالية واضحة: "ادعائي المركزي هنا هو أن البحث الأكاديمي، وخصوصا الباحثين في العلوم الاجتماعية الذين درسوا المجتمع الصهيوني الديني، أضاعوا فرصة كبيرة لبحث وتقصي ما أسميه "الانشطارات" في هذا المجتمع. فلو أنهم وجهوا نظراتهم البحثية إلى مواقع وزوايا أكثر تنوعاً مما يظهر على السطح، لاكتشفوا ما أعتبره الاستنتاج المركزي والواضح تماما وهو: أن ليس ثمة "صهيونية دينية". ليس هنالك "وسط صهيوني ديني". هنالك مجموعات كانت متجمعة في مكان واحد في الماضي، لكنها انشطرت وتوزعت. وأينما وضعت إصبعك، تجد أن ليس ثمة قواسم مشتركة بينها"!

وفي محاولة تفسيره لما يسميه "إضاعة فرصة كبيرة"، يقول كابلان (في حديث لموقع "واي نت" الإسرائيلي ـ 19/11/2017) إن هذا "يتطلب بحثا آخر كي نفهم ما حصل ولماذا؛ كي نفهم كيف فوّت باحثو علم الاجتماع هذه السيرورة إبان حصولها "في الوقت الحقيقي"؛ كي نفهم خلفيات الدينامية الاجتماعية التي ما أن يفتح شخص ما من المحسوبين على هذا "التيار" فمه ويقول شيئا ما حتى يصبح الأمر، في السجال الجماهيري العام، وكأن "الصهيونية الدينية قالت...". أنا، شخصيا، لا أرى ولا أفهم القاسم المشترك بين هؤلاء، بل أعرف أن لديهم منظورات مختلفة تماما، فهل من الصحيح وضعهم جميعا في الغرفة نفسها، بينما يعرف الجميع أن بعضهم غير مستعد حتى لأن يكون في نفس الغرفة مع الآخرين؟".

من بين المجالات التي يعددها كابلان باعتبارها "خطوط صدع" في داخل المجتمع "الصهيوني الديني"، الذي "كان أكثر انسجاما واتساقا بكثير، في مرحلة ما"، يركز على مجال التعليم بشكل خاص، فيقول: "حصل انشقاق عن التعليم الرسمي الديني. بادرت بعض المجمعات المختلفة إلى بناء مؤسسات تعليمية وأجهزة تعليمية خاصة بها، بعضها متطور جدا وبعضها أقل تطورا. وفي نهاية المطاف، فإن ما حصل في المجتمع الصهيوني الديني يمثل سيرورة هامة جدا وعميقة الأثر. فقد تحولت الكتلة الأكبر إلى المدارس الرسمية الدينية وكان هؤلاء، كلياً تقريبا، من مصوتي حزب "المفدال" ("الحزب الديني الوطني")، لكن ليس ثمة كتلة كهذه اليوم، إذ أن جهاز "التعليم الرسمي الديني" هو واحد فقط من بين أجهزة تعليم كثيرة ومختلفة".

أما في مجال الشبيبة والأطر الشبابية التي ينخرط فيها أبناء "الصهيونية الدينية"، فيشير كابلان إلى أنه "في الماضي، كانت هنالك حركة شبابية واحدة، هي حركة "بني عكيفا" (هي حركة الشبيبة المركزية بين الجمهور "الديني الوطني" وتُعتبر الحركة الشبابية الثالثة من حيث حجمها في إسرائيل). أما اليوم، فلدينا عدة "بني عكيفا". وهذا إلى جانب الانفصالات العديدة التي حصلت في المدارس والكليات الدينية، في أنماط ومعايير اللباس (الديني) فيها. حتى تشكيلة القلنسوات الدينية (للذكور)، وكذلك أغطية الرأس (للإناث)، المستخدمة لدى جمهور "الصهيونية الدينية"، أصبحت اليوم أكثر تنوعا وتعقيدا، برسم الجواب على السؤال: ماذا وكم نغطي؟... جميع هذه الأغطية، بمختلف أنواعها سواء للرجال أو للنساء، تعبر عن انشطارات عديدة ومتنوعة".

ويشير كابلان إلى "نقطة انشطار" أخرى هي العلاقة تجاه النساء بين جمهور "الصهيونية الدينية"، إذ "ثمة اليوم تشكيلة آراء واسعة وهامة جدا في مسألة مكانة النساء وأدائها في الكُنُس. إنه موضوع على درجة عالية جدا من الحساسية، لا مثيل لها، في جميع الاتجاهات والمشارب. وهذا كله نتاج النقاش العميق الذي دار ولا يزال يدور حول: هل ينبغي أن يوضع حاجز يفصل النساء عن الرجال؟ كيف ينبغي لهذا الحاجز أن يكون؟ وما هي الأنظمة اللائقة التي ينبغي اعتمادها في الكنيس؟".

"صهيونيون متدينون" في أحزاب مختلفة

يدعي كابلان بأن "جميع الأبحاث التي أجريت على المجتمع الديني اليهودي في إسرائيل، والتي أجراها باحثون ينتمون إليه أساسا، لم تول أهمية كافية ووزنا ملائما لسيرورة الانشطار التي شهدها هذا المجتمع خلال العقود الأخيرة بوجه خاص، مقارنة بحالة الوحدة والتجانس التي سادت هناك حتى سبعينيات القرن الماضي".

ومما يمثل على حالة الانشطار هذه، في رأيه، انعدام تمثيل موحد وعدم وجود حزب سياسي واحد يمثل "المجتمع الديني الوطني". فمنذ غياب حزب "المفدال" بصيغته الأصلية عن الساحة الحزبية ـ السياسية، يُلاحَظ أن أعضاء الكنيست الممثلين لهذا المجتمع قد توزعوا، ويتوزعون اليوم أيضا، على أحزاب عديدة مختلفة، في ما يؤكد حقيقة تلاشي "المجموعة الدينية ـ السياسية الواحدة والمتجانسة".

خلافا لما يراه كثيرون من الباحثين والمهتمين بالشأن "الصهيوني الديني" في إسرائيل، يرفض كابلان اعتبار هذه الانشطارات "تعبيرا عن صراع ما بين المركز والأطراف"، بل يعتبرها "صراعا بين مجموعات متمايزة لكل منها خطوط ومناهج خاصة بها ومميزة لها". ويؤكد أن "هذه الحقيقة واضحة بشكل بارز في مجالات معينة، مثل التعليم خاصة، بينما هي أقل وضوحا في مجالات أخرى. لكنّ الانشطار قائم، دون شك".

وفي رد على سؤال عما إذا كان الشعور السائد لدى أوساط وفئات "الصهيونية الدينية" نفسها هو شعور بالتمايز والاختلاف عن بعضها البعض حقا، قال كابلان إن "الشعور السائد، في رأيي، هو شعور بالإقصاء وبأن لا شيء مشترك بيننا إطلاقا، وإن وُجد فهو هامشي جدا. وعليه، فهو شعور بالتمايز والاختلاف فعلا، شعور بالاختلاف أكثر من كونه شعورا بالتشابه وبوجود قواسم مشتركة... وهو شعور يعكس حقيقة الوضع القائم فعليا".

وفي تحليله لمحاولات "الصهيونية الدينية" الأخيرة الرامية إلى التحرر والتبرؤ من الصورة "الفئوية" العامة التي تكرست عنها على مدى عشرات السنين، ثم محاولاتها وضع نفسها في "مركز الحياة الإسرائيلية"، يقول كابلان إن "جزءا من هذه المحاولات، في بعض دوافعه وغاياته، قد يكون مجرد اجتهادات بلاغية لا أكثر". ويقدم على هذا المثال التالي: "حين يستخدم نفتالي بينيت (وزير التربية والتعليم وزعيم حزب "البيت اليهودي"، الذي يعتبر عنوان "الصهيونية الدينية" وممثلها الرئيسي)، مرارا وتكرارا وبشكل يومي تقريبا، عبارة "أخي أخوتي وأختي أخواتي"، فقد يظن البعض أن هذا كلام حقيقي فعلا، لكن هذه البلاغة ليست سوى جزء من حالة السيولة التي نشأت في العلاقة بين اليمين العلماني واليمين الديني، وهو ما يعبر عنه ويخدمه، مثلا، التحالف بين نفتالي بينيت وأييلت شاكيد، أيما خدمة". (أييلت شاكيد هي وزيرة العدل عن حزب "البيت اليهودي"، لكنها ليست متدينة). ويضيف: "أعتقد بأن هذا الخطاب يرمي إلى التغطية على حقيقة وجود اختلافات وفوارق جوهرية وعميقة. أي، كلما أكثر شخص ما من الادعاء، بصورة أكثر قوة وحدة، بأننا "نشبه بعضنا بعضا، نحن عائلة واحدة"، صار من الأسهل أن تفهم أن الأمر ليس مفهوما ضمنا ومفروغا منه".

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات