المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
وحشية الحرب الإسرائيلية على غزة: تداعيات دولية عميقة. (أ.ف.ب)
  • كلمة في البداية
  • 73
  • أنطوان شلحت

مع انتهاء عام آخر من الحرب الممتدّة التي تشنها إسرائيل في أكثر من جبهة وأساساً في قطاع غزة، ومع اقتراب عام جديد، يجري التركيز في عديد التحليلات الصحافية وأوراق السياسات الصادرة عن مراكز الأبحاث على أبرز التحديات الماثلة أمام إسرائيل سواء على الصعيد الداخلي أو على الصعيد الخارجي، والتي يبدو أنها ستكون ضمن محاور معركة الانتخابات المقبلة الآخذة بالاقتراب.

ومنها سنتوقف عند التحديات التالية على وجه التحديد:

أولاً، استئناف الصراع بين الحكومة والجهاز القضائي، والذي تقف في صلبه حملة نزع شرعية متواصلة يقودها وزراء الحكومة ضد قضاة المحكمة الإسرائيلية العليا والمستشارة القانونية للحكومة. 

وفي قراءة الكثير من التقييمات الإسرائيلية تحاول الحكومة وأنصارها، عبر هذا الصراع، "الدفع قدماً نحو ما يُعتبر انقلاباً دستورياً يقلّص الطابع الديمقراطي لإسرائيل بشكل كبير، ويمنح الحكومة صلاحيات غير متوازنة ربما تمسّ بحقوق المواطنين"، على ما جاء في ورقة سياسات صادرة مؤخراً عن "معهد السياسات والاستراتيجيا" في جامعة رايخمان (هرتسليا)، أشير فيها أيضاً إلى أنه بحسب استطلاعات رأي عام كثيرة فإن أكثر من نصف المواطنين الإسرائيليين يعارضون هذه الخطوات و"يخشون على مستقبل الدولة" منها.

وتقف وراء هذا الصراع غايات كثيرة للحكومة الإسرائيلية ورئيسها بنيامين نتنياهو أضيفت عليها، في إثر الحرب على قطاع غزة، غاية منع تشكيل لجنة تحقيق رسمية للتحقيق في أحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، تعمل وفق القانون القائم، ويعيّن رئيس المحكمة العليا أعضاءها، درءاً لأي شكوك في تحيُّز محتمل في نتائجها.

ثانياً، تزداد في الآونة الأخيرة التقارير التي تتطرق إلى التأثير العام للأوضاع المستجدة على المجالين الاجتماعي والاقتصادي، ولا سيما في كل ما يتعلّق بما يوصف بأنه هجرة العقول وشركات الهايتك من إسرائيل، وكذلك بتأثير هذه الظواهر في مستقبل الدولة. وقد نشر المكتب المركزي الإسرائيلي للإحصاء مؤخراً أنه في الفترة بين 1990 - 2018 أمضى نحو 55 ألفاً من حمَلة الشهادات الأكاديمية ثلاثة أعوام، أو أكثر، في الخارج، وهُم، في أغلبيتهم، من المناطق الأكثر ازدهاراً في إسرائيل. ووفقاً لورقة السياسات من جامعة رايخمان، المذكورة سابقاً، من المرجح أن تكون الأرقام الحقيقية أعلى كثيراً وربما تصل إلى مئات الآلاف، "وهو وضع خطِر للغاية في المدى البعيد".

وبموجب الإحصاءات الرسمية، تشهد إسرائيل نزيفاً متزايداً في صفوف الباحثين والعلماء. وكشفت معطيات جديدة نشرها مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي، في أواسط الشهر الحالي، أنه في العام 2024 سُجلّت زيادة في نسبة الإسرائيليين الحاصلين على شهادة الدكتوراه الذين انتقلوا إلى العيش في الخارج لفترة تتجاوز ثلاثة أعوام. وتشير المعطيات كذلك إلى ارتفاع عدد المقيمين في الخارج، سواء بين الباحثين الشباب أو بين مجموع الباحثين عموماً. و"بذا، فإن الباحثين الذين استثمرت الدولة كثيراً في تعليمهم، وكان بإمكانهم تقديم إسهام حاسم للاقتصاد وللبحث العلمي في إسرائيل"، باتوا يعملون ويعيشون، اليوم، خارج البلد ("ذي ماركر"، 16/12/2025).

ويؤكد مكتب الإحصاء المركزي أنه في العام 2024 انتقلت إسرائيل إلى ميزان هجرة سلبي للأكاديميين؛ إذ غادر عدد من الأكاديميين الحاصلين على شهادة جامعية أولى فما فوق إلى الخارج بما يفوق عدد الأكاديميين الذين عادوا إليها. ووفق المعطيات، فإن العقول المهاجرة هي في غالبيتها من الشباب والمثقفين، وتتسم بارتفاع مستواها التعليمي، وهي متحدرة من التجمعات السكنية الغنية في إسرائيل، ولا سيما من منطقة هشارون وتل أبيب.

وتتعلق هذه المعطيات بفترة الحرب على قطاع غزة والانقلاب القضائي، لكنها تعكس اتجاهاً تصاعدياً آخذاً في التعمق. فبحسب البيانات، يعيش اليوم أكثر من ربع الإسرائيليين الحاصلين على دكتوراه في الرياضيات (25.4 بالمائة) خارج البلاد، وكذلك 21.7 بالمائة من حاملي الدكتوراه في علوم الحاسوب، و19.4 بالمائة في علم الوراثة، و17.3 بالمائة في علم الأحياء الدقيقة، و17 بالمائة في الفيزياء، و14 بالمائة في الكيمياء، ونسب مشابهة بين حاملي الدكتوراه في الهندسة الكهربائية وعلم الأحياء.

بالإضافة إلى ذلك، تُظهر معطيات مكتب الإحصاء أن 23 بالمائة من خريجي الدكتوراه من معهد وايزمان يعيشون، اليوم، في الخارج، وكذلك 18.2 بالمائة من خريجي الدكتوراه من معهد التخنيون، و15 بالمائة من خريجي الدكتوراه في العلوم من جامعة تل أبيب. كما يعيش خارج إسرائيل 10 بالمائة من خريجي الدكتوراه في العلوم من جامعة أريئيل، و7 بالمائة من خريجي الدكتوراه من جامعة بار إيلان. واعتباراً من العام 2024 يعيش في الخارج 11.9 بالمائة من الإسرائيليين الحاصلين على دكتوراه و8.1 بالمائة من الحاصلين على درجة الماجستير.

كذلك يجب الإشارة إلى ازدياد المقاطعة الأكاديمية الدولية المفروضة على إسرائيل في العامَين الأخيرين، والتي تتصاعد حدّتها، وتشمل إقصاء باحثين وأكاديميين إسرائيليين عن مؤتمرات وأبحاث وبرامج تعاوُن ونشر علمي حول العالم.

ويؤكد تقرير "ذي ماركر" أنه فضلاً عن الحرب والانقلاب القضائي، قد تعود أسباب الهجرة وتراجع الرغبة في العودة إلى إسرائيل لدى حاملي الدكتوراه إلى ظروف البحث العلمي وتعامل الحكومة الحالية مع المؤسسة الأكاديمية. فمنذ تشكيلها، تشن حكومة نتنياهو هجوماً متواصلاً على المؤسسة الأكاديمية ومنظومة الأبحاث، يقوده وزير التربية والتعليم يوآف كيش، الذي يعمل كذلك على فرض سيطرة على مؤسسات التعليم العالي.

بالإضافة إلى ذلك، تتعرض ميزانيات التعليم العالي في إسرائيل إلى تآكل مستمر. فقد جرى تقليص ميزانية التعليم العالي عدة مرات منذ تشكيل الحكومة، في وقت تُوزَّع فيه أموال ائتلافية. ونتيجة لذلك، تتراجع الموارد المخصصة للبحث العلمي وبناء البنى التحتية البحثية المتقدمة، ما يدفع الباحثين إلى الانتقال أو البقاء في الخارج، حيث تُعرض عليهم رواتب أعلى وميزانيات بحث وبنى تحتية أفضل.

ثالثاً، لعلّ المقاطعة الأكاديمية المفروضة على إسرائيل على مدار العامين الماضيين هي من علائم أزمة إسرائيل في الساحة الدولية على خلفية الحرب التي تشنها على قطاع غزة وسياستها العامة إزاء الفلسطينيين والقضية الفلسطينية. وسوف يحتاج الأمر إلى وقفة لاحقة موسعة. ولكن حتى ذلك الحين لا بُدّ من الإشارة إلى أن هناك زيادة ملحوظة في التطرّق إلى هذه المسألة في عدد كبير من التحليلات وأوراق السياسات في إسرائيل إلى درجة أن إحدى هذه الأوراق ذهبت إلى درجة اعتبار ما يجري في الساحة الدولية من مواقف مستجدة حيال إسرائيل، وخصوصاً في أوساط الرأي العام العالمي، بمثابة معضلة استراتيجية تستلزم اعتبار تلك الساحة جبهة ثامنة ينبغي خوض صراع فيها "من أجل الدفاع عن بقاء إسرائيل، ويهود الشتات، والعالم الغربي" ("يديعوت أحرونوت"، 16/12/2025).

وبموجب الورقة نفسها تتحوّل إسرائيل أكثر فأكثر إلى رمز للشرّ في نظر "جيل شاب لم يلتقِ إسرائيلياً في حياته"، وهو ما أدّى في نهاية المطاف، على سبيل المثال، إلى انتخاب شخص مثل زهران ممداني لمنصب عمدة نيويورك. وتؤكد أن هناك حاجة ماسة لأن تعلن الحكومة الإسرائيلية أن هذه الجبهة الثامنة هي "تهديد استراتيجي - وجودي لإسرائيل، لأن تعريفاً كهذا يفتح المجال أمام إعطاء صلاحيات، وميزانيات، وقدرات، ويحرك سلسلة منظومة عمل عملياتية – استخباراتية"، أما الخطوة التالية فهي إنشاء قيادة للجبهة الثامنة تكون عبارة عن هيئة مركزية تُدار تحت إشراف رئيس الحكومة، وبالتوازي، إنشاء منظومات مخصصة لجمع المعلومات والتنفيذ في الجيش الإسرائيلي، ومنظومات الموساد، والشاباك، والاستخبارات.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات