المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
سموتريتش وبن غفير: عقيدة الترانسفير والتهجير (صحف(
  • كلمة في البداية
  • 26
  • أنطوان شلحت

قال عضو الكنيست نيسيم فاتوري (الليكود)، خلال جلسة عامة في الكنيست الإسرائيلي يوم 12 تشرين الثاني الحالي، إنّ مئير كهانا كان على حقّ في كثير من الأمور التي أخطأ فيها شعب إسرائيل، وكذلك "أخطأ قادة حزب الليكود حين أقصوه". وأضاف فاتوري، الذي يشغل أيضاً منصب نائب رئيس الكنيست: "لو كان كهانا حياً اليوم لكان اعتُبر قدّيساً، وربما نال "جائزة إسرائيل".

وأثارت تصريحاته جدلاً واسعاً، واتهم عضو كنيست من حزب "يوجد مستقبل" حزب الليكود بأنه تحوّل إلى فرع بائس من حركة "كاخ". وهي  الحركة التي أسسها مئير كهانا، وتم حظرها في العام 1988 ومنعت من خوض انتخابات الكنيست الثانية عشرة بعد أن تقرر أن أهدافها عنصرية. كما أن كهانا نفسه أُدين بمخالفات تتعلق بالإرهاب في كلٍّ من إسرائيل والولايات المتحدة.

ووفقاً لعدة تحليلات مستجدّة، باتت بعض أفكار كهانا، التي كانت تعتبر متطرفة جداً في الماضي، تُناقش حالياً في بعض الأوساط السياسية بجدية أكبر، بل وتُستخدم كمصدر إلهام من طرف نُخَب يمينية.

تدفعنا هذه الوقائع إلى استرجاع استنتاجات سبق أن لوّحنا بها في السابق، ولا سيما ضمن العديد من أدبيّات مركز مدار، مفادها أن الكهانيّة ما زالت تلقي بظلالها على أجزاء من المجتمع والسياسة الإسرائيلييْن اليوم، وإن لم تعد تمثل حزباً منتخباً معلناً كما في زمانه. وإن الكثير من التطرّف اليميني الإسرائيلي الراهن مستوحى من الكهانية، ناهيك عن أن حزب "عوتسما يهوديت" ("قوة يهودية") بزعامة وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير هو من أبرز الأحزاب التي تنبثق توجهاتها العامة من أفكار كهانا، وعن أنه ازداد الحديث في الإعلام وبعض المنابر عن طروحات كانت في السابق حكراً على الكهانيين مثل التهجير والترانسفير.

وسبق لكاتب هذه السطور أن نوّه بأنه قبل أكثر من عقد أصدر الأستاذ الجامعي الإسرائيلي عامي بداتسور عبر منشورات جامعة أكسفورد كتاباً بعنوان "انتصار اليمين المتطرّف في إسرائيل"، اعتبر فيه أن هذا الانتصار كان من نصيب "يمين إسرائيلي متطرّف جديد" يتسّم في رأيه بعدة خصائص أبرزها ما يلي: أولاً، "وطنيّة متطرفة" ترى أن دولة إسرائيل يجب أن تكون لليهود وفقط لهم؛ ثانياً، سلطوية من ناحية رؤية ماهية الحكم واعتبار الدولة والزعيم السلطة الأعلى وعلى باقي السلطات الانسجام مع توجهاتهما؛ ثالثاً، شعبوية. ومع أن المؤلف يقرّ بأن كل واحدة من هذه السمات الثلاث رافقت الحركة الصهيونية ومجتمع دولة إسرائيل على مرّ الأعوام، وتجسّدت في أشكال مختلفة ووسط أجزاء متعدّدة من ذلك المجتمع، إلا إنه في الوقت عينه يشير إلى أن اجتماعها معاً هو ما بات يميّز اليمين المتطرّف الجديد الذي أصبح جالساً على سدّة الحكم في إسرائيل.

كما نعثر في الكتاب نفسه على تأكيد أن صفة الجديد تأتي في سياق التمييز بين هذا اليمين المتطرف المنتصر، وبين يمين متطرّف آخر يخلع عليه صفة القديم تبنّى، بعد حرب حزيران 1967، صيغة "أرض إسرائيل الكاملة" بمفاهيم مشتقة من "السيادة لاعتبارات الأمن"، في حين أن الجديد يتبنى الصيغة ذاتها إنما بمفاهيم مسيانية.

ونعيد التذكير هنا بأن المؤلف أعرب عن اعتقاده بأن من زرع بذور هذا اليمين المتطرف الجديد كان الحاخام المقتول مئير كهانا، مؤسس حركة "كاخ" وزعيمها، وتمثلت تلك البذور بالعنصرية الشاطّة، والتطرّف القومي المؤجّج بشهوة التوسع الجغرافي، ومعاداة الديمقراطية، وتبرير استعمال العنف. غير أن هذه البذور نمت وترعرعت بعد مقتل كهانا، الذي حدث في أواسط تسعينيات القرن الفائت، حتى أمست ملازمة للفئات اليمينية الحاكمة، والتي ينطلق أداؤها من بدهية أن "المبادئ الديمقراطية" لإسرائيل يجب أن تكون خاضعة للمبادئ الإثنو- يهودية.

وتم التطرّق إلى هذه الجزئية على نطاق أوسع في كتاب "اليمين الجديد في إسرائيل: مشروع الهيمنة الشاملة"، الذي أشرفت على تحريره وتأليف القسم الأول منه د. هنيدة غانم، وصدر عن مركز مدار في العام 2023. ويقدّم الكتاب قراءة واسعة ومركّزة ومتشعبة النطاق لصعود اليمين الجديد في إسرائيل، حيث يستعرض السياق التاريخي والسوسيولوجي لهذا الصعود وأهم تياراته وأحزابه وجمعياته ومراكزه الفكرية ومميزات خطابه، ويضيء على مشروعه السياسي والاستعماري وسعيه لحسم الصراع الداخلي حول هوية إسرائيل بالانتصار للهوية القومية اليهودية المحافظة، والصراع الخارجي في مقابل الفلسطينيين عبر العمل على حسم المسألة الفلسطينية من خلال سحقها.

ولئن كان التشخيص المرتبط بالكهانية وظلالها جديراً بالاستعادة مرات ومرات، فلا بُدّ في الوقت ذاته من أن نستعيد أيضاً تأكيداً يتكرّر بين الفينة والأخرى يدحض الزعم بأن حظر عصابة كهانا تسبّب بتكريس نظرة عامة إلى العنصريـة بصفتها أمراً استثنائياً وشاذّاً في المجتمع الإسرائيلي، ويخلص إلى الاستنتاج بأن جذور العنصرية الكهانية عميقةٌ في صفوف المجتمع الإسرائيلي. 

وتشير دراسات عديدة إلى أن "التطرّف اليمينيّ" ليس مسألةً شاذّة في ممارسة المجتمع والساسة في إسرائيل. وعملياً قبل العام 1948، نشطت في فلسطين تياراتٌ قومويةٌ كان في مقدمها التيّـار التنقيحي (بزعامة زئيف جابوتنسكي)، وتأثرت أجزاء منها بفكر الفاشية الأوروبية. غير أنه في الأعوام بين 1948 و1967، ظلت هذه التيارات في صفوف المعارضة (وأساساً ضمن حركة حيروت)، إلى أن وقع احتلال 1967 الذي أعاد تمهيد الأرضية لاشتداد عودها، وتقدّمها إلى مركز الصدارة، وكذلك لظهور مزيدٍ منها على غرار أحزاب "هتحيا" و"تسومت" و"موليدت" المنحلّة، وأيضاً عصابة "كاخ". 

وفي إحدى هذه الدراسات، التي استندت من ضمن أمور أخرى إلى استطلاع للرأي العام، وجدت نسب تأييد للأفكار المتوحشة التي كانت عصابة "كاخ" تدفع قدماً بها (منها تشجيع تهجير فلسطينيي الداخل، وشرعنة شنّ هجوم عليهم بعد وقوع عمليات مقاومة)، في أوساط ناخبي جميع الأحزاب الإسرائيلية، بما في ذلك التي تؤطر نفسها ضمن خانة الوسط أو خانة "اليسار الصهيوني"!  وبموجب الدراسة نفسها، تقوم الكهانية على أربعة أسس (تمّ ذكرها أعلاه): العنصرية، والتطرّف القومي الذي يتجسّد بشهوة التوسع الجغرافي، ومعاداة الديمقراطية، وتبرير استعمال العنف. ومن نافل القول إن هذه الأسس تقوم عليها إسرائيل وثمة سعي حثيث لترسيخها أكثر فأكثر في الآونة الأخيرة. 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات