المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • كلمة في البداية
  • 990
  • أنطـوان شلحـت

قبل أكثر من 10 أعوام صدر للأستاذ الجامعي الإسرائيلي عامي بداتسور عن منشورات جامعة أكسفورد كتاب بعنوان "انتصار اليمين المتطرّف في إسرائيل". ووفقاً لهذا الكتاب، فإن الانتصار المذكور كان من نصيب "يمين متطرّف جديد" يتسّم، كما يقول المؤلف، بعدة خصائص أبرزها ما يلي: 1- "وطنيّة متطرفة" ترى أن دولة إسرائيل يجب أن تكون لليهود وفقط لهم؛ 2- سلطوية من ناحية رؤية ماهية الحكم واعتبار الدولة والزعيم السلطة الأعلى وعلى باقي السلطات الانسجام مع توجهاتهما؛ 3- شعبوية. ومع أن المؤلف يقرّ بأن كل واحدة من هذه السمات الثلاث رافقت الحركة الصهيونية ومجتمع دولة إسرائيل على مرّ الأعوام، وتجسّدت في أشكال مختلفة ووسط أجزاء متعدّدة من ذلك المجتمع، إلا إنه في الوقت عينه يشير إلى أن اجتماعها معاً هو ما بات يميّز اليمين المتطرّف الجديد الذي أصبح جالساً على سدّة الحكم في إسرائيل.

كما نعثر في الكتاب على تأكيد أن صفة الجديد تأتي في سياق التمييز بين هذا اليمين المتطرف المنتصر، وبين يمين متطرّف آخر يخلع عليه صفة القديم تبنّى، بعد حرب حزيران 1967، صيغة "أرض إسرائيل الكاملة" بمفاهيم مشتقة من "السيادة لاعتبارات الأمن"، في حين أن الجديد يتبنى الصيغة ذاتها إنما بمفاهيم مسيانية. 

ومن دون الاستغراق في مزيد من التفاصيل، يعتقد المؤلف أن من زرع بذور هذا اليمين المتطرف الجديد كان الحاخام المقتول مئير كهانا، مؤسس حركة "كاخ" وزعيمها، وتمثلت تلك البذور بالعنصرية الشاطّة، والتطرّف القومي المؤجّج بشهوة التوسع الإقليمي، ومعاداة الديمقراطية، وتبرير استعمال العنف. غير أن هذه البذور نمت وترعرعت بعد مقتل كهانا، الذي حدث في أواسط تسعينيات القرن الفائت، حتى أمست ملازمة للفئات اليمينية الحاكمة، والتي ينطلق أداؤها من بدهية أن "المبادئ الديمقراطية" لإسرائيل يجب أن تكون خاضعة للمبادئ الإثنو- يهودية. 

لئن كان مثل هذا التشخيص جديراً بالاستعادة، فلا بُد في الوقت عينه من أن نضيف أن حرب 1967 لم تكن بمثابة قطيعة مع ما سبق، بل شكلت إشارة البداية أو بمنزلة فاتحة نحو مزيد من تطرّف المشروع الكولونيالي الصهيوني في فلسطين. وبموجب ما شدّد عليه عالم الاجتماع الإسرائيلي النقدي جرشون شافير وغيره، فبعد هذا التاريخ أصبحت الطريق سالكة أمام إمكان تنحية "نموذج الاستيطان المُجزّأ"- الذي جرى تطبيقه ضمن تخوم "الخط الأخضر" تمشياً مع ظروف يمكن اعتبارها "خاصة" وتعود أساساً إلى الصلة بين عنصري الجغرافيا والديموغرافيا في سيرورة هذا المشروع- واستبداله بنموذج استيطان كولونيالي آخر يستند إلى سيطرة مجموعة المستوطنين اليهود على السكان المحليين، أو إلى طرد هؤلاء السكان من جميع المناطق الخاضعة لسيطرة المستوطنين. بكلمات أخرى انقطعت الصلة أو الرابطة بين المركّب الديموغرافي وبين المركّب الجغرافي، والتي كانت بمثابة قيد على عملية الاستيطان الكولونيالي الصهيوني في إحدى مراحلها. وما أتاح ذلك، بطبيعة الحال، هو السيطرة على تلك المنطقتين (الضفة الغربية وقطاع غزة) بصورة عسكرية والتفوّق العسكري لإسرائيل، الأمر الذي كان المستوطنون اليهود مفتقرين إليه في فترة ما قبل العام 1948. وبذا أخلى نموذج الاستيطان الطاهر المحدود مكانه لنموذج آخر هو الاستيطان الطاهر المطلق.

ويرجع مصدر التقاطب الأيديولوجي- السياسي، الذي حدث في المجتمع الإسرائيلي بدءاً من العام 1967 في شأن الموقف من الأراضي الفلسطينية التي احتلت في ذلك العام، إلى خلاف بين مؤيدي نموذجين مصغرين مختلفين للسياسة الكولونيالية إزاء نموذج الاستيطان الطاهر: هناك من جهة مؤيدو النموذج الطاهر المحدود، الذين هم على استعداد للتنازل عن مناطق جغرافية في مقابل تحقيق "التجانس الإثني"، ومن جهة أخرى هناك مؤيدو النموذج الطاهر المطلق، الذين يطمعون في الانتشار على كل المناطق الجغرافية، مفترضين أن السكان الفلسطينيين بالإمكان السيطرة عليهم أو طردهم. بكلمات أخرى، فإن الخلاف- إلا فيما ندر- هو بين الذين يؤيدون الخصوصية الحصرية اليهودية وإن بأصناف مختلفة، لا بينمؤيدي هذه الخصوصية الحصرية وبين معارضيها جملة وتفصيلاً.

كما يجدر أن نعيد إلى الأذهان أن كهانا هو مؤسس رابطة الدفاع اليهودية، وعصابة "كاخ" الفاشية، المحظورة بحسب القانون الإسرائيلي. وقد شغل منصب نائب في الكنيست الحادي عشر، وفي العام 1988 تم شطب قائمته الانتخابية، ومنعها من خوض الانتخابات الإسرائيلية العامة، بشبهة أنها عنصرية. وبعد عامين، لقي مصرعه مقتولاً بعد انتهائه من إلقاء خطاب في نيويورك. 

وزعم مؤيدو الشطب في حينه أن حظر عصابة كهانا تسبّب بتكريس نظرة عامة إلى العنصريـة بصفتها أمراً استثنائياً وشاذّاً في المجتمع الإسرائيلي. وهو زعم تدحضه وقائع عديدة، منها مثلاً أنه بعد 12 عاماً من حظر تلك العصابة، وبالتزامن مع انتفاضة القدس والأقصى العام 2000 التي شارك فيها الفلسطينيون في الداخل، جرى تعليق لافتاتٍ في شوارع كبرى المدن الإسرائيلية، كُتب عليها "كهانا على حق". وفي حزيران 2001، بعد عدة ساعات من إحدى العمليات الاستشهادية الفلسطينية في قلب مدينة تل أبيب (عملية الدولفيناريوم)، تجمهر شبان يهود كانوا يرتدون البزّات الصفراء، وعليها شارة عصابة "كاخ" بالقرب من مسجد حسن بك في مدينة يافا، الذي أقيمت فيه مراسم صلاة، وبدأوا بإلقاء الحجارة نحو جموع المصلين، وترداد هتافات "الموت للعرب". وفي ذلك الحين، خلصت إحدى الدراسات الإسرائيلية التي تناولت هذه المظاهر، ونُشرت في أيار 2002، إلى استنتاج فحواه أن جذور العنصرية الكهانية عميقةٌ في صفوف المجتمع الإسرائيلي. 

ورأت الدراسة نفسها أيضاً، وهي لأحد أساتذة العلوم السياسية في جامعة حيفا، أن ما أسمته "التطرّف اليمينيّ" ليس مسألةً شاذّة في ممارسة المجتمع والساسة في إسرائيل. وعملياً قبل العام 1948، نشطت في فلسطين تياراتٌ قومويةٌ كان في مقدمها التيّـار التنقيحي (بزعامة زئيف جابوتنسكي)، وتأثرت أجزاء منها بفكر الفاشية الأوروبية. غير أنه في الأعوام بين 1948 و1967، ظلت هذه التيارات في صفوف المعارضة (وأساساً ضمن حركة حيروت)، إلى أن وقع احتلال 1967 الذي أعاد تمهيد الأرضية لاشتداد عوده، وتقدّمها إلى مركز الصدارة، وكذلك لظهور مزيدٍ منها على غرار أحزاب "هتحيا" و"تسومت" و"موليدت" المنحلّة، وأيضاً عصابة "كاخ". 

لعل الأهم في هذه الدراسة، التي استندت من ضمن أمور أخرى، إلى استطلاع للرأي العام، أنها وجدت نسب تأييد للأفكار المتوحشة التي كانت تلك العصابة تدفع قدماً بها (منها تشجيع تهجير فلسطينيي الداخل، وشرعنة شنّ هجوم عليهم بعد وقوع عمليات مقاومة)، في أوساط ناخبي جميع الأحزاب الإسرائيلية، بما في ذلك التي تؤطر نفسها ضمن خانة الوسط أو خانة "اليسار الصهيوني"! 

بموجب الدراسة نفسها، تقوم الكهانية على أربعة أسس (تم ذكرها أعلاه): العنصرية، والتطرّف القومي الذي يتجسّد بشهوة التوسع الإقليمي، ومعاداة الديمقراطية، وتبرير استعمال العنف. ونضيف أن هذه الأسس تقوم عليها إسرائيل وتسعى إلى ترسيخها أكثر فأكثر في الآونة الأخيرة. 

وبخصوص العنصرية تحديداً، نكرّر التذكير أن الأستاذ الجامعي شلومو ساند سبق أن لفت إلى أنها موجودة في كل مكان تقريباً، لكنها في إسرائيل غدت بنيويةً بروح القوانين التي جرى ويجري سنّها، وتُدرّس في جهاز التربية والتعليم، ومنتشرة في وسائل الإعلام، والمروّع أكثر من أي شيء، برأيه، أن العنصريين فيها لا يعرفون أنهم كذلك، ولا يشعرون أبداً بوجوب الاعتذار.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات