المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

اسم الكتاب: "بيت ثالث: من شعب إلى قبائل إلى شعب"
اسم المؤلف: آري شفيط
دار النشر: مشكال (يديعوت سفاريم)
تاريخ الإصدار: أيار 2021
عدد الصفحات: 220

يُحيل مصطلح "البيت Bayet" في العبرية إلى مجموعة من المعاني الدينية واليومية والتاريخية المختلفة الخاصّة والجمعية على الصعيد اليومي، وفي اللغة الدنيوية (علمانية) يُحيل إلى المبنى السكني الذي يسكنه البشر، وهو بالتالي يستبطن في ثناياه العلاقة الحميمية مع المكان ويُحيل إلى الحماية والأمن والأمان والدفء، لكنّه في سياق التاريخ المُتخيل للجماعة اليهودية، يُحيل إلى المملكة، وحين يكون مقرونا بالأخيرة، فهو يُصرّح تصريحا سياسيا أيديولوجيا أن إسرائيل الحالية- وفي خطّ التطور "اليهودي"- هي "المملكة الثالثة" التي قامت بعد أن تدمّرت المملكة الثانية. وإذا ما أخذنا المعنى إلى الديني والمقدس، فإن البيت يُحيل إلى بيت الله أي "الهيكل"، وإن كان البيت الثالث هو "الهيكل الثالث" فهو الذي يتأرجح حالياً بين الثيولوجيا الخلاصية وبين المشاريع السياسية التي بدأت ضيّقة وهامشية وتحولت مؤخراً إلى هوامش واسعة ورحبة تعمل بمثابرة وجِدّ من أجل أن تُنزل السماوي إلى الأرض وتتخذ من الخلاصي مشروعها السياسي الذي يَعِدْ بدهورة الصراع عبر موضعته في قاع الصراع الديني.

البيت الذي يأتي في عنوان كتاب شفيط بمعانيه المُركّبة هو مرآة الصهيونية في أطوارها التاريخية؛ مشروع بيت "قومي" لتجميع الشتات وحل المسألة اليهودية؛ ثم "مملكة" بمفهوم العصور القديمة والوسطى والتي تنطوي على عوامل قوة واحتلال واستعمار وسيطرة على أراضٍ خارج حدودها، وأخيراً- وبفعل تفاعل القومي والقوة والأساطير المؤسسة- يحمل "البيت" معناه المُقدّس "الهيكل الثالث"، هذا الهيكل الذي لم يزل في "طور التحقّق" ويُهدّد بقلب اليوتوبيا التي هجس بها هرتزل بإقامة الدولة الحديثة العلمانية اليهودية إلى ديستوبيا لدولة دينية متزمّتة محكومة بالبدع والهرطقات، كما خط صورتها هذه أحد أحفاد مؤسسي الدولة اليهودية الكاتب يشاي سريد، ابن يوسي سريد، في روايته "الثالث" والتي ستصدر قريباً عن مركز مدار (بترجمة هشام نفاع)، والتي تسرد قصّة مستقبلية تتمثّل في انهيار إسرائيل العلمانية عبر دمار مدينة تل أبيب بحرب نووية ثم سيطرة المتدينين على زمام القيادة وإقامة مملكة يهودية وإعادة بناء الهيكل مكان الحرم القدسي الشريف في القدس والعودة إلى رفع الأضاحي للرب، وذلك بعد أن يتم طرد العرب من المكان، لكن هذه "المملكة الثالثة" تذهب نحو هلاكها المُطلق بعد أن تُشنّ عليها حرب نووية جديدة تُنهيها.

البيت الثالث في عنوان شفيط هو عنوان يُفهم بحرفيته ولا مساحة للمجاز فيه، لأنه تماماً كالصهيونية نحت الدلالة الثيولوجية والميثولوجيا في مشاريع سياسية تحقّقت على الأرض، ملموسة، ولها شكل ومنظومة قيم ومؤسسات وممارسات.

عن الفحوى: "حُبّ كبير وقلق كبير"

كتاب آري شفيط الذي جاء تحت عنوان "بيت ثالث: من شعب إلى قبائل إلى شعب"، ووضع خلال فترة الإغلاق في ظلّ انتشار جائحة كورونا، جاء كما كتب المؤلف ليُعبّر "عن حُبّ كبير وقلق كبير على إسرائيل".

يستعرض شفيط في الكتاب إنجازات التجربة الصهيونية- اليهودية- الإسرائيلية التي تُمثّل من وجهة نظره "معجزة"، ويتابع نجاحاتها وإخفاقاتها ومستقبلها والتهديد الوجودي الذي يواجهها وكيف تفكّكت وكيف يمكن أن يتم تركيبها مجدداً ذلك أنه لن يكون هناك "بيت رابع"، كما يخلُص شفيط الذي يُعتبر من أحد أهم الصحافيين المؤثّرين في إسرائيل والذي يُعبر إجمالاً عن التيار المركزي ووجهته ومخاوفه ومواقفه.

يبدأ شفيط كتابه بادّعاء أن إقامة إسرائيل هي معجزة استثنائية في العصر الحديث، ويكتب أن الشعب اليهودي كان عام 1891 "شعبا مريضا جداً، لم يكن له بلاد ولا سيادة ولا قدرة على حماية ذاته"، ويضيف أنه قبل 130 عاماً لم يكن في البلاد سوى 50 ألف يهودي أما اليوم فيوجد سبعة ملايين، وهذا دليل على "نجاح عظيم" للصهيونية التي أنقذت اليهود من الضياع و"لمّت شملهم" من المنافي، ووحّدتهم كشعب واحد في دولة حديثة عصرية وقوية، وبعد أن يُعدّد النجاحات الباهرة التي حقّقتها إسرائيل، يدّعي أن هذا النجاح في العقد الأول للدولة جاء نتيجة قرار بن غوريون بتبنّي سياسة الدولانية- "المملختيوت"- بهدف خلق هوية على أساس دولة، وذلك لمواجهة الصراعات والنزاعات الداخلية التي كانت مصدر رعب لبن غوريون. وتعتمد الدولانية التي تبنّاها الأخير على خمسة مبادئ أوردها الباحث نتان يناي وهي: قبول رأي الأغلبية، كون الدولة ملكا للجميع، توفير الدولة للخدمات الأساسية، اعتراف بسلطة القانون، وخلق طريقة سياسية تُعبّر عن رغبة الأكثرية وتُطبّقها. وتضع الدولانية في المركز الاعتقاد بالدولة "كجسم سياسي قانوني مختلف عن المجتمع والقومية". ويقتبس شفيط عن شاي بيرون أن الدولانية كانت تهدف إلى القفز عن 2000 عام من المنفى، وللإيضاح أن دولة إسرائيل هي المُكمّلة لـ"إسرائيل التوراتية".
عن "المملختيوت- الدولانية" المؤسسة والتمرّد عليها

يتمحور ادّعاء شفيط على أن تحقُّق "المعجزة" الاسرائيلية وتمكّنها من التحول إلى دولة حديثة و"ديمقراطية" جاء بفضل سياسة "المملختيوت- الدولانية" التي وضع أُسسها بن غوريون، لكن هذا النجاح كان له أيضاً ثمنه الكبير الذي ارتبط بعمليات القمع والتهميش والإخضاع التي طالت المجموعات المختلفة، والتي كانت هامشية أو مُلحقة للتيار المركزي الذي قاد المشروع الصهيوني أولاً وسياسة المملختيوت- الدولانية ثانياً، والتي كما لا يخفى على أحد قادتها جماعات الصهيونية الأشكنازية المحسوبة على تيار مباي أساساً وباقي التيارات الاشتراكية الأشكنازية، وهذه المجموعات التي تم قمعها وقمع ثقافتها بدأت تدريجياً بالتمرّد والانتفاض على "المركز الدولاني" وأنتجت بفعل زعزعتها توترات تُهدّد المشروع وتثير القلق على مستقبله.

يُعدّد شفيط ثمانية تمرّدات ضد "المملختيوت- الدولانية البنغورينية" وضدّ مشروع "فرن الصهر" في العقدين الأولين لإقامة الدولة، وكان يهدف إلى صهر هويات الجماعات المختلفة في هوية واحدة جديدة- إسرائيلية، ويشير إلى أن الجماعات المختلفة التي رفضت سياسة فرن الصهر والدولانية انتفضت وتمرّدت، وأنها بدأت تتّسع وتتقوى منذ بداية سبعينيات القرن الماضي وما زالت فاعلة ومتفاعلة حتى الآن، وهي وإن تفاوتت بقوتها إلا أنها تلعب دوراً محورياً في وجهة إسرائيل المستقبلية وتضم: الشرقي (مزراحي) والذي يُعده بمثابة التمرّد الأهم والأقوى، الحريدي (ديني متزمّت)، العربي، الديني- قومي، النيو ليبرالي، المنادين بالسلام، مهاجري الاتحاد السوفييتي، وجيل الألفية الثالثة.

ورغم أن إسرائيل الحاضر بحسب شفيط هي دولة عظمى عسكرياً وتكنولوجياً وحديثة وثابتة اقتصادياً، إلا أن قوتها هذه مُهدّدة ليس بسبب مخاطر خارجية، بل بسبب التمرّدات الداخلية التي أدّت إلى انهيار النظام السابق، وبسبب عدم بروز نموذج جامع جديد قادر على تأليف الجماعات المختلفة، هذه التمرّدات التي فكّكت الدولانية القديمة وأُسس هيمنتها، لم تُفكّك إسرائيل كدولة بل هويتها الداخلية الجمعية الواحدة، وهي تُهدّد بتحويل إسرائيل من دولة إلى قبائل، أو كما في العنوان "تحوّل المملكة إلى قبائل" في إحالة طبعاً إلى صراعات القبائل اليهودية التي أسهمت بحسب السردية اليهودية السائدة في انهيار المملكة الثانية وخراب الهيكل الثاني، غير أن ما يُشير إليه شفيط هو أن نجاح "المملكة الثالثة" إجباري لأنه لن يكون هناك "مملكة رابعة"، أي لن تكون فرصة أخرى جديدة.

إعادة بناء الدولانية

التمرّد على الدولانية المؤسِّسة أدّى فعلياً إلى قتل الأب الرمزي وترك القبائل الإسرائيلية يتيمة، لكن قتل الأب هذا الذي مثله قيادات إسرائيل من بن غوريون لبيغن وصولاً إلى رابين لم يؤد إلى انهيار الدولة، وما زال بالإمكان كما يكتب شفيط استعادة "التضامن"، لذلك، وكي لا تنهار إسرائيل، وحتى يتم إعادة تشكيل جماعة واحدة من القبائل المُتخاصمة، يقترح أن تتم إعادة بناء "مملختيوت- دولانية" جديدة تُشكّل أساساً للوحدة؛ "دولانية" تعتمد على أربعة مبادئ يرى أنها ستُشكّل نقطة لقاء للجميع؛ "إسرائيل هي البيت القومي للشعب اليهودي، إسرائيل هي ديمقراطية متنورة، يتساوى فيها كل مواطنيها ومواطناتها". لذلك على إسرائيل أن تكون دولة يهودية، ديمقراطية، آمنة، عادلة، مُزدهرة ومتطورة؛ أي عليها أن تكون دولة نموذجية. لكن كيف يُمكن تحقيق هذه الرؤية اليوتوبية في ظل واقع مُتشظّ وبين "قبائل" متناحرة ومتمرّدة ومتناقضة؟

يقترح شفيط فعلياً أن ينجح ذلك في دمج التناقضات، لكن دون أن يُفسر كيف! ويرى أن إسرائيل القرن الـ 21 ستكون دولة تدمج بين الشرق والغرب؛ أي بين قيم الحداثة والتطور والليبرالية والديمقراطية الغربية من جهة، وبين قيم العائلة والتقاليد والدفء والتضامن الشرقية من جهةٍ أخرى. ويضيف أن الإسرائيلية الجديدة ستدمج بين المُحافظة والتقاليد وبين قيم الحداثة؛ بين حقوق الفرد وقيم العائلة وتحترم الجماعة والعائلة. باختصار، وكما يكتب شفيط، فإن الإسرائيلية الجديدة ستدمج بين هذا وذاك وستكون هذا وهذا أيضاً، بمعنى أنها ستأخذ من "القبائل" كلّها قيما ورؤى وتصوّرات وتدمجها في قالب جديد يتجاوز التناقضات والثنائيات التي ميزت "مملختيوت المؤسسة البنغوريونية".

قلق من المستقبل

تكشف الكتابات المختلفة في إسرائيل عن قلق شديد يسيطر على كثير من الكُتّاب والمثقّفين على مستقبل إسرائيل. هذا القلق تصاعد بشكلٍ كبير خلال عقد حكم بنيامين نتنياهو الذي جيّر الصراعات الداخلية وحوّلها إلى أدوات من أجل تعزيز حكمه. في وجه مشاعر القلق هذه، ظهرت محاولات تسعى للدمج بين التناقضات ومن أجل جسر الفجوات بين القبائل والمعسكرات المختلفة التي تُهدّد صراعاتها مُستقبل إسرائيل ووجودها أكثر من التهديدات الخارجية، بحسب شفيط. وفي هذا السياق، من المهم الإشارة إلى كتابات ميخا غودمان وعلى وجه الخصوص كتابه "عودة بلا إجابة" والذي صدر عن دار زمورا عام 2019، ويُحيل العنوان إلى تساؤلات في الدين لا إجابات لها، في إشارة إلى إمكانية أن يدمج الإنسان بين الدين والتساؤل وعدم اليقين الذي يبدو للوهلة الأولى مُناقضاً لمبدأ الايمان الأساس. كتاب غودمان هو محاولة لجسر الفجوة ما بين المتدينين والعلمانيين- الملحدين التي تشكل إحدى أكثر الفجوات عُمقاً اليوم، وهو ما يفعله أيضاً في محاضراته وكتبه الأخرى كما "مصيدة 1967"؛ حيث يحاول الجمع بين الهويات والمواقف اليهودية المتناقضة والتأليف بينها عبر نزع التناقض عنها حتى لو أن الأمر يبدو مُصطنعاً وجبرياً إلى أبعد الحدود. تُقابل هذه النزعة التوفيقية المدفوعة بشعور بالقلق والخطر نزعة كتابية أخرى سوداوية ترى أن إسرائيل لن تتمكن من الخروج من صراعاتها الداخلية، وأن هذه الصراعات ستذهب بإسرائيل إلى نهايتها، كما في رواية "الثالث" ليشاي سريد.

 

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات