المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
بطارية إسرائيلية مضادة للصواريخ قرب الحدود مع لبنان. (إ.ب.أ)
بطارية إسرائيلية مضادة للصواريخ قرب الحدود مع لبنان. (إ.ب.أ)

واجهت إسرائيل، كما يمكن الاستدلال من متابعة ما يكتبه المحللون فيها، تحديين عسكريين في الشهور الثلاثة الماضية وهما: الأول، التصعيد العسكري مع قطاع غزة في شهر أيار الماضي، والثاني، إطلاق عدة صواريخ من جنوب لبنان في اتجاه المستوطنات الإسرائيلية قرب الحدود الشمالية في نهاية الأسبوع الماضي.

يثير التهديد الصاروخي بالنسبة لإسرائيل قلقا كبيرا دفعها لتطوير منظومات الاعتراض الصاروخية بالتعاون مع الولايات المتحدة مثل منظومة "حيتس" ثم منظومة "القبة الحديدية". مع ذلك يواصل مسؤول عسكري بارز متقاعد التحذير مند أكثر من ثلاث سنوات من أن إسرائيل لن تكون قادرة على خوض حرب متعددة الجبهات سواء على الصعيد العسكري أو على صعيد الجبهة الداخلية.

هذا المسؤول هو اللواء إسحاق بريك، الذي شغل منصب مفوض تلقي الشكاوى في الجيش لمدة عشر سنوات، وتضمنت مهامه إجراء لقاءات مع أفراد من كافة مستويات الجيش الإسرائيلي وقطاعاته، والاستماع لشكاوى وملاحظات الجنود والقادة. بريك، الذي يعتبر نفسه الأكثر اطلاعا على تفاصيل الوضع الداخلي في الجيش الإسرائيلي، سبق أن حذر عدة مرات في تقارير رسمية قدمت للكنيست، ولاحقا في مقالات ومقابلات صحافية، من أن الجيش الإسرائيلي يعاني ترهلا بشريا وعسكريا، سيشكل عائقا في تحقيق الانتصار في حرب متعددة الجبهات.

بريك في الكنيست: سنُهزم في الحرب

في أبرز تقاريره أمام "لجنة مراقبة الدولة" في الكنيست عند نهاية العام 2018 ومع اقترابه من التقاعد، وجه بريك انتقادات شديدة للجيش الإسرائيلي بحضور أعضاء اللجنة من النواب وعدد من كبار الضباط في الجيش. وتركزت انتقاداته حول تردي مستوى الجيش ووجود سلسلة من المشاكل خاصة في سلاح البر. وقال في تقريره المكون من 270 صفحة، إنه زار 1400 وحدة عسكرية وتحدث مع عشرات آلاف من القادة والجنود خلال عمله، فوجد مشاكل صعبة على المستويات اللوجستية والتكنولوجية والتنفيذية، وتمت معالجة هذه المشاكل، لكن المشكلة الرئيسة التي بقيت هي الثقافة التنظيمية، وهي مشكلة عميقة لم يتم حلها. ولسوء الوضع في الجيش الإسرائيلي، طالب بريك حينها بتشكيل لجنة تحقيق رسمية في هذا الجانب، في ظل سياسة الصمت المتبعة من قبل الضباط في كافة الوحدات، وعدم تقديم الواقع السيئ في الجيش كما هو للمستوى السياسي.

وقال في تقريره قبل ثلاث سنوات إن الجنود بعد التدريبات يهملون أسلحتهم، ولا يقومون بصيانتها، فيما لا يتم استغلال أفضل الوسائل التكنولوجية التي يقتنيها الجيش، وعندما يقول الضباط إنهم فعلوا، فإنهم في الواقع لم يفعلوا ذلك.

وأضاف أن التواصل الداخلي في الجيش يتم عبر رسائل البريد الإلكتروني، وأخبره الكثير من الضباط وقادة الوحدات أنهم يهملون هذه الرسائل ويشطبونها. وتساءل بريك: "تخيلوا في خضم الحرب أن ترسل رسالة إلكترونية ولكنك لا تعلم إن كان متلقيها سينفذ ما ورد فيها أم لا، أي حروب سنخوض؟ وكيف سننتصر فيها؟ لقد فقدت هذه المنظومة السيطرة بشكل مطلق على التعليمات والرقابة والتنفيذ".

بعد ثلاث سنوات.. المشاكل مستمرة

مع انتهاء التصعيد العسكري الأخير في غزة في شهر أيار الماضي عاد بريك إلى انتقاد الجيش وكتب في مقال في صحيفة "هآرتس": "لقد شهدنا في الشهر الحالي تحقق سيناريو مليء بالرعب، تمثل في انهيار الفكرة السائدة أنه يمكن لإسرائيل الانتصار في الحروب بالاعتماد على سلاح الجو. هذه الفكرة التي حاول الجيش إحياءها في عملية "حارس الأسوار" من خلال قادة عسكريين سابقين يعلمون محللين في وسائل الإعلام حاليا. في الحرب على غزة استخدم الجيش تقريبا معظم طائراته المقاتلة، التي قصفت على مدار ساعات النهار والليل البنى التحتية العسكرية لحركتي حماس والجهاد الإسلامي في غزة. مئات الطلعات الجوية ومئات الطائرات أسقطت آلاف القذائف الدقيقة التي وصلت تكلفتها مليارات الشواكل على منطقة صغيرة، ورغم ذلك لم تتمكن من وقف إطلاق الصواريخ وقذائف الهاون حتى ساعة وقف إطلاق النار. مقاتلو حماس والجهاد الإسلامي واصلوا إطلاق الصواريخ والقذائف كأنه لم يحدث شيء لهم، ويبدو أنهم كانوا قادرين على الاستمرار بذلك زمنا طويلا".

وفي مقابلة مع القناة السابعة كرر بريك تحذيره من الاعتماد فقط على سلاح الجو في الحرب، معتبرا أن فصائل المقاومة في غزة حققت الانتصار في المواجهة الأخيرة. وقال إنه يجب ضرب المواقع التي يختبئ فيها قادة حماس تحت الأرض في عمق غزة، وتحت المستشفيات وفي الملاجئ والأنفاق، إذ تتخذ القرارات من قبل هؤلاء، وهناك يتم تصنيع الصواريخ، وهذه الأهداف لا يمكن لسلاح الجو استهدافها، لأن غارة جوية قوية لمنطقة سكنية قد تؤدي إلى مقتل آلاف الفلسطينيين، وستجد إسرائيل نفسها في مواجهة انتقادات دولية شديدة. وأضاف بريك أن إسرائيل تخشى من أن تدخل مواجهة عسكرية برية قد يقتل فيها عدد كبير من الجنود، لذلك تعتمد على سلاح الجو، وعلق على ذلك قائلا: "إن من يخشى أن يقتل في الحرب لا يحقق الانتصارات"، في إشارة منه إلى ضرورة اللجوء للحرب البرية.

المواجهة الأخيرة حيدت "القبة الحديدية" وسلاح الجو

وحسب هذا المسؤول العسكري السابق فإن الفصائل الفلسطينية تمكنت من شل نصف إسرائيل، وتحييد "القبة الحديدية" والقنابل الذكية، وأوصلت الوضع إلى حافة حرب شاملة، فما بدأ في القدس امتد إلى الضفة وإلى الفلسطينيين في إسرائيل.
كما أشار إلى أن إسرائيل قد تتعرض لضربة هائلة قد يقتل فيها الآلاف إذا اضطرت لخوض حرب متعددة الجبهات. وقال إن القبة الحديدية هي "ذر للرماد في العيون"، مع عدم تقليله من فاعليتها، موضحا أنها "ستكون دون جدوى أمام 250 ألف صاروخ قد توجه إلى إسرائيل، الكثير منها صواريخ ذات دقة إصابة عالية، وذات مدى بمئات الكيلومترات، وقادرة على حمل رؤوس متفجرة تزن مئات الكيلوغرامات".

ويجمل بريك الوضع بالقول "هذا الواقع خلق معادلة تعجز فيها إسرائيل عن إيجاد رد فعال على الصواريخ والقذائف، ولا تتوفر لها قدرة برية جاهزة لخوض الحرب المقبلة".

الجبهة الداخلية.. نقطة ضعف كبيرة

سبق لصحيفة "هآرتس" أن نقلت في العام 2019 عن مسؤولين إسرائيليين في وزارتي الدفاع والصحة تحذيرهم من أن النظام الصحي في إسرائيل سينهار في حال وقوع حرب متعددة الجبهات، كما حذر هؤلاء من أن الجيش سيواجه صعوبة في إخلاء المصابين من الجنود من جبهات القتال. ونقلت "هآرتس" عن المسؤولين الإسرائيليين قولهم إن الوزارتين لن تتمكنا من معالجة عدد كبير من المصابين في أي مواجهة عسكرية مقبلة متعددة الجبهات، خاصة في ظل "تطوير الأعداء الوسائل القتالية لديهم، فيما لم يكيف الجيش نفسه لهذه التطورات" حسب وصفهم.

وقدّر المسؤول العسكري أن يواجه الجيش الإسرائيلي نقصا بنسبة 30% في عدد سيارات الإسعاف العسكرية، ونقصا بنسبة 20% في الطواقم الطبية في المراكز الطبية العسكرية. فيما قال مسؤول في وزارة الصحة لـ"هآرتس" إن غرف الطوارئ في نظام الصحة المدني لن تكون قادرة على استيعاب عدد كبير من المصابين، وستواجه نجمة داود الحمراء (الإسعاف الأولي) نقصا كبيرا في كوادرها لأن نصفهم جنود احتياط سيتم استدعاؤهم للخدمة العسكرية.

وحذر المسؤول العسكري الإسرائيلي من أن قوات الإنقاذ ستضطر إلى اتخاذ خيار بالتخلي إما عن جنود في الجبهة أو عن مدنيين في مبان انهارت بفعل القصف الصاروخي، وأضاف "أنا لا أريد أن أكون بين أولئك الذين يتخذون مثل هذه القرارات في تلك اللحظة".

ورغم أن الجيش الإسرائيلي أصدر بيانا رد فيه على هذه التحذيرات بالقول "إنه يعمل على تحسين قدراته الجوية والبرية لإخلاء الجرحى، ويتم العمل على تطوير قدرات الجنود على إسعاف المصابين حتى وهم تحت إطلاق النار"، ورغم مرور أكثر من عامين على هذه التحذيرات، إلا أن الوضع العام في الجيش لا يزال سيئا جدا، حسب تقديرات اللواء بريك.

شعبة الموارد البشرية في الجيش في دائرة الاتهام

هاجم بريك أيضا شعبة الموارد البشرية في الجيش، متهما إياها بالتسبب في تراجع قدرات الجيش واستعداده لأي حرب.

وذكرت صحيفة "هآرتس" أن بريك وجّه في آب 2018 رسالة شديدة اللهجة من 20 صفحة إلى المستويات القيادية العليا في الجيش، ولأعضاء لجنة الخارجية والأمن في الكنيست، تضمّنت اقتباسات من جنود وضباط وصفوا الجيش بأنه مؤسسة متوسطة المستوى تعاني من التآكل بسبب كثافة المهام، وقلة استماع المستوى القيادي لمشاكل الجنود ولأزمة الدافعية القتالية خاصة لدى الضباط الشبان.

وأَضاف بريك أن منظومة الموارد البشرية تعمل بناء على اعتبارات التوفير في النفقات المالية، فيما أصبح الضباط الميدانيون مجموعة جبناء يخشون تقديم الشكاوى.

وقال إن الجنرالات في الجيش الإسرائيلي يهمهم المظهر على حساب الجوهر، فيما على الجنود والضباط أن يتدبروا أنفسهم بما هو متوفر لديهم.

واعتبرت صحيفة "هآرتس" النقد الذي وجهه بريك لشعبة الموارد البشرية في الجيش بأنه "نقد لاذع خارج عن المألوف، في المستوى العسكري الإسرائيلي".

مع تقاعده في بداية العام 2019 حذّر بريك، من "التقصير الخطير جدا"، في استعدادات الجيش لخوض حرب مستقبلية، وقال لهيئة البث الإسرائيلية إن الجيش سيواجه صعوبات في القدرة على نقل القوات الى ساحة المعركة بشكل سريع.
وأشار إلى خشية ضباط كبار في الجيش من الحديث عن ذلك علنا، لكنهم أبلغوه أن الوضع سيئ. وتوقع بريك بعد تقاعده أنه إذا خاضت إسرائيل حربا متعددة الجبهات فإن "الصدمة والفشل اللذين أصابا الإسرائيليين في حرب يوم الغفران العام 1973 لن يُقارنا مع الصدمة والفشل في الحرب المقبلة".

وتوقع بريك أن تواجه إسرائيل 4 جبهات حقيقية (غزة ولبنان وسورية وإيران)، وأضاف أن دخول الضفة الغربية وارد باعتبارها بركانا مضغوطا غير منفجر، وإذا ما انفجر فسيؤثر على باقي الجبهات.

في صحيفة "هآرتس" وصف رئيس التحرير، ألوف بن، الحرب الأخيرة على قطاع غزة بأنها "الحرب الأكثر فشلا وحمقا التي تشنها إسرائيل". دعا خلال الحرب إلى وقفها بشكل فوري، حتى عبر تدخل أميركي.

واعتبر بن أن نتائج هذه الحرب ليست إلا فشلا عسكريا ودبلوماسيا خطير كشف عن الإخفاقات العسكرية الكبيرة في استعداد الجيش الإسرائيلي للحرب. كما قال إن الحرب ليست إلا "أضاعة للوقت في جهد لا جدوى منه فقط للبحث عن صورة انتصار وهمي".

بريك عاد بعد الحرب وكتب في شهر حزيران الماضي في موقع "ميدا" أن "حرب غزة الأخيرة مجرد نزهة مقارنة بحرب يشارك فيها حزب الله وتنظيمات شيعية من سورية والعراق وحتى اليمن تتضمن إطلاق آلاف الصواريخ على إسرائيل بشكل يومي".
"هذه الحرب متعددة الجبهات - يقول بريك- ستكون مأساوية بشكل لا يمكن تخيله، فإضافة إلى عشرات آلاف القتلى سيشمل الدمار البنى التحتية الإستراتيجية: الكهرباء والماء والغاز والوقود وقواعد سلاح الجو والبُنى التحتية الاقتصادية والاجتماعية ومؤسسات الحكم وغيرها".

في النهاية وجه بريك إصبع الاتهام في المسؤولية عن هذا الوضع إلى المستويين الأمني والسياسي في إسرائيل.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات