المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
التجويع.. أداة سيطرة وترويض وإعادة هندسة اجتماعية في غزة . (أ.ف.ب)
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 158
  • وليد حباس

تُعد المساعدات الإنسانية جزءاً أساسياً من الاستراتيجية الإسرائيلية، لا باعتبارها عملاً إغاثياً بحتاً، بل كأداة سياسية وعسكرية متعددة الوظائف. وقد استخدمتها إسرائيل في سورية (2016-2018) لبناء تحالفات وتدخل ناعم. وفي غزة (الحرب المستمرة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023)، تستخدم المساعدات ضمن استراتيجية حربية عنيفة، لفصل السكان عن المقاومة، وضبط سلوكهم، وتهيئة شروط السيطرة أو التهجير، وليس فقط لتسويق الحرب الأخلاقية أو الانصياع لشروط المجتمع الدولي. بهذا، تتحول المساعدة إلى وسيلة لإعادة تشكيل المجتمعات ضمن منطق القوة.

النموذج الأول: المساعدات الإنسانية أثناء الحرب الأهلية السورية

منذ العقد الأخير، أصبحت المساعدات الإنسانية أداة محورية في التفكير الاستراتيجي للجيش الإسرائيلي، لا باعتبارها مجرد وظيفة داعمة، بل كجزء متكامل من البنية العملياتية والسياسية. في سياقات مختلفة، وظّف الجيش الإسرائيلي المساعدات لتوسيع نفوذه، وبناء تحالفات محلية، أو كوسيلة للضبط الاجتماعي وإعادة هندسة الفضاءات المعادية. أحد أبرز الأمثلة على هذا التوظيف كان خلال الحرب الأهلية السورية، حيث أطلقت إسرائيل في حزيران 2016 عملية "حسن الجوار"، كمبادرة إنسانية- عسكرية لتقديم الدعم للمدنيين السوريين، خصوصاً في المناطق الحدودية جنوب سورية مثل القنيطرة وحوران، على حد زعمها. قاد العملية لواء 210 التابع للمنطقة العسكرية الشمالية، واحتُفظ بسرّيتها حتى تموز 2017. شملت المساعدات علاج أكثر من 4,000 سوري داخل إسرائيل وفي مستشفيات ميدانية على الحدود، إضافة إلى إنشاء عيادات مؤقتة وتزويد منشآت طبية سورية بمعدات متقدمة. كما تم توزيع مواد غذائية، ووقود، وملابس، ومواد بناء، وتقديم دعم لوجستي إلى المجتمعات المحلية. لكن وفق تقارير أجنبية، قدّمت إسرائيل أيضاً دعماً سرياً إلى فصائل معارضة مسلحة بهدف ردع تمركز قوات تابعة لإيران وحزب الله. بذلك، لم يكن الهدف إنسانياً خالصاً، بل كان جزءاً من سياسة تدخل ناعم لإعادة تشكيل البيئة الأمنية والسياسية على حدود إسرائيل الشمالية.

النموذج الثاني: المساعدات الإنسانية

أثناء الحرب على غزة 2023- 2025

بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، تبنّى الجيش الإسرائيلي نموذجاً مغايراً في قطاع غزة، حيث لم تعد المساعدات الإنسانية تهدف إلى بناء تحالفات محلية كما حدث في سورية، بل أصبحت أداة من أجل إعادة هندسة البنية الاجتماعية الفلسطينية. تسعى إسرائيل إلى فصل المجتمع عن المقاومة عبر إضعاف العلاقة بين حركة حماس والسكان، وخلق جيوب مطيعة تُدار من خلال مراكز توزيع مؤمّنة وتخضع لرقابة مشددة. الغذاء والدواء يُقدّمان وفق شروط أمنية، كأدوات ضبط، وليس كمساعدات حيادية. يُدمج هذا النهج في مشروع أوسع يهدف إلى نقل السكان جنوباً أو خارج القطاع تحت ستار "الممرات الإنسانية". منذ نهاية الهدنة (كانون الثاني- آذار 2025)، بدأت إسرائيل بإدارة المعونات ضمن منظومة عسكرية- أمنية تستبعد المنظمات الأممية، وتُدخل شركات أمنية خاصة ووكلاء ربحيين، ما أعاد تشكيل العلاقة بين السكان والسلطة. بهذا، لم تعد المساعدات "خارج الحرب"، بل أصبحت سلاحاً ناعماً يُستخدم في سبيل السيطرة السياسية والعسكرية عبر التوزيع المُقيَّد، الرقابة البيومترية، وخلق مناطق وظيفية خاضعة، في ما يُعرف بعسكرة العمل الإنساني.

الخصخصة العسكرية للمساعدات الإنسانية

منذ اندلاع الحرب على غزة في أعقاب هجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، لم يكن تعامل إسرائيل مع المساعدات الإنسانية مجرّد استجابة إلى الضغوط الدولية، بل كان جزءاً من استراتيجية عسكرية مُحكمة. ففرض الحصار الشامل، ثم السماح بدخول محدود للمساعدات بشروط أمنية صارمة، كشف عن نية واضحة لتحويل الإغاثة إلى أداة للسيطرة والتحكم في السكان.

أبرز تجلّيات هذه السياسة كان إنشاء "مؤسسة غزة الإنسانية" (Gaza Humanitarian Foundation)  في العام 2025، وهي كيان خاص صُمّم بالتنسيق مع شخصيات أمنية أميركية، وبرعاية غير مباشرة من إدارة دونالد ترامب، وبدعم من شركات أمنية خاصة. تهدف المؤسسة إلى تولّي عملية توزيع المساعدات في غزة خلال الحرب، وسط تحذيرات أممية من مجاعة واسعة النطاق.

تعتمد المؤسسة على عدد محدود من مراكز التوزيع المركزية، معظمها في جنوب القطاع، وتُدار من خلال مقاولين مسلحين، من دون إشراف مباشر من الجيش الإسرائيلي. يحصل المستفيدون على وجبات غذائية ومستلزمات صحية مرة أو مرتين شهرياً، بعد اجتيازهم فحصاً بيومترياً صارماً، في مشهد يدمج الإغاثة بالرقابة الأمنية. وتبلغ تكلفة الوجبة الواحدة، بحسب الخطة، نحو 1.30 دولار.

واجه المشروع انتقادات شديدة من طرف الأمم المتحدة ومنظمات إغاثية، اعتبرته نموذجاً لتسييس المعونة وتحويلها إلى أداة تهجير ناعم. وصف توم فليتشر، منسق المساعدات الأممي، المؤسسة بأنها "ورقة تين" تخفي مشروع إزاحة قسرياً، واتهمها باستخدام المجاعة كورقة مساومة سياسية. في المقابل، دافع جيك وود، مدير المؤسسة، عن المشروع باعتباره "النموذج الوحيد المقبول إسرائيلياً".

إن موقف الأمم المتحدة الرافض، وتحذيرات منظمات كـOCHA  وUNRWA  من "عسكرة العمل الإنساني"، يسلط الضوء على أزمة أخلاقية عميقة، حيث لم تعد المساعدات وسيلة للإنقاذ، بل أداة لإعادة تشكيل الواقع السكاني في ظل الاحتلال.

إسرائيل توفر نموذجاً حيّاً لعسكرة المساعدات الإنسانية

المساعدات الإنسانية في قطاع غزة لم تكن خارج سياق الحرب، بل شكّلت جزءاً أساسياً منها. فهي لم تُستخدم كوسيلة إنقاذ محايدة، بل كأداة للضبط والسيطرة، تهدف إلى تفكيك النسيج الاجتماعي الفلسطيني وإعادة تشكيله بما يخدم أهداف الاحتلال الإسرائيلي. هذا الاستخدام يفرض مراجعة نقدية لمفهوم الحياد الإنساني في سياقات استعمارية وعسكرية طويلة الأمد.

لفهم هذا التوظيف، تُعد نظرية الألعاب (Game Theory) مدخلاً تحليلياً مهماً. فهذه النظرية تدرس سلوك الفاعلين ضمن مواقف الصراع، حيث يسعى كل طرف لتحقيق مكاسب استناداً إلى سلوك الآخرين. في حالة قطاع غزة، يتحول توزيع المساعدات إلى "لعبة استراتيجية"، يكون فيها الفاعل العسكري، والمقاومة، والسكان المدنيون أطرافاً تتأثر قراراتها بالمساعدات نفسها، التي تُمنح أو تُمنع وفق شروط أمنية وسياسية. وهكذا تتحول المساعدات إلى أداة تحفيز تُعيد رسم الولاءات وتفكك روابط الدعم للمقاومة.

أما من منظور سوسيولوجيا الحرب، فإن الجيوش الحديثة لا تمارس العنف فقط، بل تنتج أيضاً أدوات سيطرة "ناعمة" مثل الإغاثة والرعاية الصحية. وحين توزع هذه الجيوش مساعدات في مناطق النزاع، فإنها لا تقدم فقط موارد، بل أيضاً تُعيد صياغة العلاقة بين المجتمع المحلي والسلطة. يُعاد تشكيل السكان كـ "مستفيدين" منزوعي الفاعلية السياسية، ويُقدَّم الجيش كفاعل رعاية لا كقوة قمعية. في هذا السياق، تتحول المساعدات إلى أداة رمزية لإخضاع المجتمع وإدارته.

الخلاصة: المساعدات كأداة تفكيك اجتماعي

في سياقات مثل غزة، تُدار المساعدات الإنسانية ضمن منظومة عسكرية تُخضعها لنقاط تفتيش، تصاريح، وأنظمة بيومترية. لا تُوزَّع المساعدات هنا بشكل حيادي، بل تُستخدم لخلق تمايزات داخل المجتمع: بين الملتزمين والمُجرَّمين، بين "المتعاونين" والرافضين. بهذه الطريقة، تتحول المساعدة إلى أداة ضغط ناعمة تُزعزع الدعم للمقاومة وتُنتج ولاءات جديدة. مثلما تُستخدم الديون لضبط الدول، تُستخدم المساعدات هنا للهيمنة على المجتمعات. هذه الاستراتيجية، وإن بدت إنسانية، هي في جوهرها سياسة أمنية تهدف إلى السيطرة بدون احتلال مباشر، وتُعيد تشكيل المجتمعات تحت غطاء أخلاقي. ويتطلب هذا تفكيكاً نقدياً للخطاب الإنساني وممارساته ضمن منطق الهيمنة.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات