وظّفت إسرائيل على مدار سنوات احتلالها العديد من الوسائل والأدوات ضمن استراتيجية "إدارة سكّان الأراضي المحتلّة"، وقد شهدت هذه الاستراتيجية في السنوات الأخيرة تضميناً متزايداً للتقنيات والوسائل التكنولوجية والرقمية، والتي باتت محوراً رئيساً في هذه الاستراتيجية ضمن مراقبة وتعقّب الفلسطينيين في فلسطين الانتدابية، حيث لم تعُد هذه التقنيات مجرّد أدوات ثانوية، أو مُساعدة، بل تحوّلت- في العديد من الحالات- إلى أداة رئيسة ضمن استراتيجية شاملة تجمع بين المراقبة السيبرانية، التعرّف البيومتري ("تقنيات التعرّف على الوجه")، الذكاء الاصطناعي كأنظمة لجمع وتحليل البيانات ومعالجتها وتحليل السلوكيات باستخدام خوارزميات متقدّمة، وكان الهدف منها هو تحويل المنظومة الاستعمارية إلى صاحبة اليد العليا في السيطرة الأمنية- العسكرية، السياسية والاجتماعية على الفلسطينيين.
في أعقاب هجوم طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، 2023، وبالاستناد إلى التقارير والتحقيقات الاستقصائية ذات الصلة، بات من الممكن الادّعاء بأن هذه الحرب تُعبّر عن سياق تصاعدي لتوظيف التقنيات التكنولوجية والرقمية ضمن نهج عسكري تدميري غير مسبوق، حيث يُلاحظ التوظيف المتزايد وغير المسبوق لتقنيات الذكاء الاصطناعي وأدوات التعلّم الآلي لتحليل كميات ضخمة من البيانات المستجدّة والسابقة في عملية تغذية مستمرّة لـ "بنك أهداف" تم تطويره على مدار السنوات الماضية، لكن بمستوى آلي أكبر يجعل من عمليات القتل الجماعي ممكنة بسرعة تفوق قدرات العنصر البشري ("معمل الاغتيالات الجماعية").
تُشكّل هذه المساهمة جزءاً من مقال أكاديمي موسّع- قيد النشر- يركّز على توظيف التقنيات والوسائل التكنولوجية المتقدمة في حرب الإبادة على غزة ولبنان وتواطؤ الشركات التكنولوجية العالمية الكبرى في ذلك. وهنا، سنُسلّط الضوء على تورّط الشركة العالمية مايكروسوفت الأميركية متعدّدة الجنسيات (Microsoft)، وذلك بعد موجة الاحتجاجات الداخلية التي شهدتها الشركة منذ أشهر حرب الإبادة الأولى.
Azure و GPT-4 في خدمة الجيش الإسرائيلي!
في بداية هذا العام (2025)، كشفت وثائق مسرّبة حصلت عليها صحيفة الغارديان البريطانية عن تضمين شركة مايكروسوفت ضمن المجهود الحربي الإسرائيلي، وذلك بهدف تلبية الطلب المتزايد على الأدوات المستندة إلى السحابة والذكاء الاصطناعي، وقد أظهرت الوثائق التي تم الكشف عنها في سياق تحقيق مشترك بين الغارديان و"سيحا ميكوميت" و"972+ Magazine" عن معاملات بقيمة 10 ملايين دولار على الأقل، شملت آلاف الساعات من الدعم الفني والتقني من الشركة، واعتماد كبير على المنصّة السحابية للشركة (Azure) من قِبَل المنظومة الأمنية- العسكرية الإسرائيلية، خاصة من قِبَل سلاحي الجو والبحرية وشعبة الاستخبارات العسكرية ("أمان") لإدارة الملفات والبريد الإلكتروني الخاص بالمستخدمين وغيرها، حيث ارتفع استهلاك الجيش الإسرائيلي لخدمات Azure بنسبة 60% في الأشهر الستة الأولى من الحرب مقارنة بالأشهر الأربعة السابقة للحرب، علاوةً على استخدام نظام "Rolling Stone"المدعوم من منصة Azureالسحابية، لإدارة سجلات المواطنين الفلسطينيين وتتبّع تحركاتهم في مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة.
بالإضافة إلى الخدمات السحابية المتقدّمة لمنصة Azure، منحت الشركة الجيش الإسرائيلي إمكانية الوصول إلى أداة الذكاء الاصطناعيGPT-4 من OpenAI وتحديداً للوحدات الاستخبارية مثل: وحدة 8200 ووحدة 9900 ضمن عمليات حسّاسة ومعقّدة شملت خدمات الترجمة والتحليل الصوتي والنصي، بهدف تحليل البيانات الضخمة المستمدّة من المراقبة الجماعية، وقد ازداد استهلاك أدوات الذكاء الاصطناعي بمقدار 64 ضعفاً بحلول آذار 2024.
تحقيق باهت وإقرار بالمساعدة في جهود إنقاذ "المختطفين" من غزة!
واجهت مايكروسوفت الاحتجاجات المعروفة باسم "No Azure for Apartheid" والتي وصلت ذروتها خلال احتفال الشركة بالذكرى الخمسين لتأسيسها (نيسان الماضي) بطرد مهندستين بسبب احتجاجهما على تورّط الشركة في حرب الإبادة على غزة، وبالتأكيد على التزامها بسياسات "الاستخدام الأخلاقي" مع إشارتها بوجود "رؤية محدودة" لكيفية استخدام تقنياتها على خوادم العملاء. إلّا أن الشركة قد عادت مؤخراً وأقرّت، لأول مرة، بتقديم خدمات تكنولوجية للجيش الإسرائيلي خلال الحرب، وذلك في بيان نشرته بعد تعرضها لضغوط من موظفين ونشطاء مؤيدين للفلسطينيين، لكنها أكدت أن هذه العلاقة تُعد "تجارية بحتة" وأن استخدام التكنولوجيا يخضع لسياسات الاستخدام المقبول ومدونة قواعد السلوك الخاصة بالذكاء الاصطناعي، والتي تحظر الاستخدام الضار لها.
وفقاً لبيان أصدرته مايكروسوفت، أجرت الشركة تحقيقاً داخلياً بالاستعانة بشركة خارجية مستقلّة (على حدّ تعبيرها) للتحقّق من استخدام تقنياتها من قبل الجيش الإسرائيلي، وشمل التحقيق مقابلات مع عشرات الموظفين ومراجعة مستندات داخلية، لتخلص في نتائجه إلى عدم وجود أدلة على استخدام تقنيات مايكروسوفت لإلحاق الأذى بالمدنيين في غزة، ومع ذلك، أقرت الشركة بأنها قدّمت "دعما طارئاً" للحكومة الإسرائيلية بعد 7 أكتوبر في إطار الجهد الإسرائيلي المبذول لاستعادة الأسرى والمحتجزين الإسرائيليين من قطاع غزة، مُشيرةً في البيان إلى أنها "لا تستطيع معرفة كيفية استخدام التكنولوجيا فعلياً على الخوادم الخاصة أو في البيئات المحلية"، ونفيها تقديم أي مساعدة تكنولوجية للجيش الإسرائيلي لأغراض عملياتية، مدّعيةً أن هذا الدعم ("إنقاذ المختطفين") تم تحت إشراف دقيق، مع مراجعة كل طلب على حدة، حيث تمت الموافقة على بعضها ورفض البعض الآخر، مع مراعاة حماية الخصوصية وحقوق المدنيين في قطاع غزة.
إن ما تكشّف حتى الآن من مؤشرات على تورّط شركات تكنولوجية عالمية كبرى، يُشير إلى أن الأخيرة ليست بعيدة عن مسرح الإبادة المستمرّة في غزة، بل إن هذا التورّط قد يتجاوز الدعم غير المباشر ليصل حدّ الشراكة الفعلية الكاملة عبر توفير أدوات وتقنيات الذكاء الاصطناعي. يتعزّز هذا الاتجاه في التفكير مع تزايد اعتماد الجيش الإسرائيلي على تقنيات الذكاء الاصطناعي والبرمجيات المختلفة في حرب الإبادة.
إن تزايد الاحتجاجات الداخلية في هذه الشركات والشهادات التي يقدّمها بعض موظفيها، إلى جانب ما تكشفه التقارير والتحقيقات الاستقصائية للمؤسسات الحقوقية والمراكز البحثية ذات الصلة ستكشف خلال الفترة المقبلة عن الشراكة غير المُعلنة لهذه الشركات في حرب الإبادة، وستُسقط عنها ادّعاءات "الابتكار لخدمة الإنسان" أمام أهداف الابتكار لخدمة الأرباح والحروب والأغراض السياسية المتكاملة مع الأنظمة الحديثة، لا سيّما الاستعمارية منها.